المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
يائير لبيد. (صحف)

يسجّل حزب "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد، لربما، سابقة في تاريخ الحلبة السياسية الإسرائيلية، من حيث تأرجحاته الكبيرة في استطلاعات الرأي، وفي نتائجه في كل جولة انتخابات برلمانية، صعودا وهبوطا بفوارق كبيرة، ما يدل على أنه بعد 12 عاما على ظهوره على الساحة السياسية، لم يتأسس ويترسخ، بمعنى أنه ما زال من دون قاعدة جماهيرية ثابتة. فاستطلاعات الرأي العام الأخيرة، تدل على تكبّده خسارة كبيرة في عدد مقاعده البرلمانية، في أي انتخابات مقبلة؛ وفي المقابل، وفي حين تعلو الأصوات ضد سيطرة أشد أحزاب اليمين الاستيطاني تطرفا، فإن نواب "يوجد مستقبل" وأيضا زعيمهم، ينافسون هذه الأحزاب المتطرفة في طرح المواقف السياسية، وبشكل خاص مبادرات القوانين الداعمة للاحتلال والاستيطان وتمدده، وسياسات قمع الحريات والاستبداد.

في أشهر الحرب الأخيرة، برز جليا للشارع الإسرائيلي أن هذا الحزب، "يوجد مستقبل"، لم ينفك للحظة عن اليمين الإسرائيلي، وفي أكثر من محطة، فهو يتقارب لحد منافسة اليمين الاستيطاني، وهذا يبرز في مبادراته للقوانين الخطيرة، منذ أن بدأ يتمثل في الكنيست ولاحقا. كما أنه تكّشف بعد أول انتخابات خاضها هذا الحزب، في مطلع 2013، بأن زعيمه يائير لبيد، كان يعمل في الحملة الانتخابية بتنسيق مباشر مع أشد قوائم اليمين الاستيطاني تطرفا، حتى ذلك الحين، "البيت اليهودي"، بزعامة نفتالي بينيت، التي حققت 12 مقعدا في تلك الانتخابات.

وبطبيعة الحال، أيد "يوجد مستقبل" دون أي تميّز في الموقف، شن العدوان والحرب على قطاع غزة، وحمل وسوّق رواية "الضحية الإسرائيلية"؛ وليس هذا فحسب، بل كان الداعم دون أي تحفظ، لسلسلة قوانين قمعية واستبدادية، تخرق وتخالف القوانين الدولية. ولم يكتف بهذا، بل إن نوابه في الكنيست شاركوا في حملة قمع الحريات والاستبداد، فمنهم من كان منذ بدايات الحرب مشاركا فعالا في محاربة الصوت الآخر في الكنيست، وشاركوا في قرار إبعاد عضو الكنيست عن الجبهة الديمقراطية عوفر كسيف عن الكنيست 45 يوما، وكذا لزميلته عايدة توما سليمان مدة شهرين، فقط بسبب التعبير عن الرفض لحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني.

لكن النقطة الأكثر سخونة، التي كشفت حقيقة موقف هذا الحزب، مما يسمى "الانقلاب على الجهاز القضائي"، هو أن نواب "يوجد مستقبل" دعموا وساهموا في أول محاولة تطبيق لقانون الإقصاء من الكنيست، وكان ضد النائب كسيف، السابق ذكره، وأصروا حتى اللحظة قبل الأخيرة، على هذا الموقف، حتى حينما تعارض موقفهم مع موقف المستشارة القانونية للحكومة، والمستشارة القانونية للكنيست، بأن الاجراء غير قانوني، فاضطرت كتلة "يوجد مستقبل" لمغادرة جلسة التصويت على إقصاء كسيف، كي لا يعارضوا الإجراء، الذي سقط لعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة في القانون، 90 نائبا من أصل 120 نائبا، إذ كانت النتيجة يومها 86 نائبا ضد 10 نواب.

وكان نواب "يوجد مستقبل" من أوائل النواب الذين بادروا إلى قانون حظر وكالة غوث اللاجئين الأونروا في شهر شباط الماضي، وهم حاليا مشاركون في مبادرة قانون أوسع وأشمل ضد الأونروا لحظر عملها في إسرائيل والضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة وقطاع غزة، ومصادرة أموالها وممتلكاتها، وتحويلها للخزينة الإسرائيلية للتصرف بها. 

وهذا ليس جديدا على حزب "يوجد مستقبل"، بمعنى أن واقعه السياسي اليوم ليس بدافع الحرب وهجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فهذا الحزب هو أول من وضع قانون مصادرة أموال الضرائب الفلسطينية، بذات قيمة المخصصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى في السجون والمحررين، ولعائلات الشهداء. وهذا القانون مسجّل على اسمه واسم المبادر الأول له، النائب اليعيزر شطيرن، في العام 2016، ودخل مسار التشريع وأقر في العام 2018.

وفي العام 2016، كان يائير لبيد وشريكه الأسبق يعقوب بيري، الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك، أول من طرح مشروعي قانونين، يقضي الأول بطرد ونفي عائلات المقاومين الفلسطينيين المقدسيين من القدس إلى الضفة، وتحديد وتقييد مكان سكانهم هناك. والثاني، طرد ونفي عائلات المقاومين من أبناء الضفة الغربية، من الضفة إلى قطاع غزة، بدون الرجوع إليها، وهذان المشروعان لم يدخلا مسار التشريع، لكن في الأشهر الأخيرة دخل مشروع قانون شبيه إلى مسار التشريع، وما زال في مرحلة ما بعد القراءة التمهيدية، لإعداده للقراءة الأولى.

وحسب مشروع رصد القوانين التمييزية والداعمة للاحتلال والاستيطان، في مركز "مدار"، فإن كتلة "يوجد مستقبل" هي مؤيد مباشر لكافة قوانين الطوارئ، حتى أشدها قمعا، مثل حظر وسائل إعلام خلال فترة الحرب، الذي تم تطبيقه على قناة الجزيرة، وقبلها لفترة محدودة على قناة الميادين، وأيضا قانون حظر الأونروا واعتبارها منظمة إرهابية، إن كان بالتصويت المباشر، أو بمغادرة جلسة التصويت. كذلك فإن ثلاثة نواب، على الأقل، من كتلة "يوجد مستقبل"، باتوا ضمن أوائل النواب الذين يبادرون إلى مشاريع قوانين قمعية.

"يوجد مستقبل" في "حكومة التغيير"

بعد انتخابات الكنيست الـ 24، في آذار 2021، تشكّلت حكومة ضيقة في مركزها "يوجد مستقبل" والحزب الذي قاده نفتالي بينيت، على أساس تقاسم فترة رئاسة الحكومة، وشاركت في ائتلاف هذه الحكومة، التي لم تصمد لأكثر من عام، كتلة "القائمة العربية الموحدة"، الذراع البرلماني لـ "الحركة الإسلامية- التيار الجنوبي" بزعامة منصور عباس. وخلال عمر الحكومة القصير سجلت ذروة، حتى ذلك الحين، في الهجوم الدموي على الضفة الغربية المحتلة، وكان عدد الشهداء في تلك الأشهر الـ 12 هو الأعلى منذ 15 عاما في الضفة الغربية، وأول ما أقرته الحكومة تثبيت البؤرة الاستيطانية الجاثمة، حديثا في حينه، على جبل صبيح، في منطقة نابلس (مستوطنة أفيتار)، وغيرها من النهج اليميني الاستيطاني.

جمهور مصوتي "يوجد مستقبل" والعمل

لدينا الكثير من المعطيات، التي ترتكز على نتائج الانتخابات البرلمانية في السنوات الـ 11 الأخيرة، التي تدل على أن الحزب الأكبر الذي ارتكز على قواعد جمهور مصوتي حزب العمل، هو حزب "يوجد مستقبل"؛ وكما يبدو بسبب الطابع الذي أضفته عليه وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ تأسيسه في العام 2012، تمهيدا لانتخابات مطلع العام 2013، بأنه يتراوح بين "الوسط" و"اليمين المعتدل"، وفي حسابات اليمين الاستيطاني فإن حزب "يوجد مستقبل" هو "يسار"، الأمر الذي يرفضه رئيسه؛ ومن دون هذا الرفض، فلا علاقة لهذا الحزب من قريب أو بعيد لما يسمى "اليسار الصهيوني".

فانتخابات مطلع العام 2013، جرت بعد أقل من عام ونصف العام، على ما سُميّت في صيف العام 2011 "حملة الاحتجاجات الشعبية على غلاء المعيشة"، وركب زعيم الحزب الجديد، يائير لبيد، على موجة تلك الحملة، ورفع شعارات اقتصادية اجتماعية، تتناغم مع شعارات تلك الحملة، التي قادتها الشرائح الوسطى العليا، بمعنى الفئات الأعلى في الشريحة الوسطى اقتصاديا. وهذه الفئات هي الجمهور الطاغي في التجمعات السكانية الأكبر، بمعنى تل أبيب ومنطقتها الكبرى، وأيضا منطقة حيفا الكبرى. وحصل "يوجد مستقبل" في تلك الانتخابات على 24 مقعدا، في حين انهار حزب العمل بقيادة النائبة السابقة شيلي يحيموفيتش، إلى حضيض غير مسبوق حتى ذلك الحين، في التمثيل البرلماني- 8 مقاعد.

لكن زعيم "يوجد مستقبل" يائير لبيد، حصل في الحكومة التي أقيمت في أعقاب تلك الانتخابات برئاسة بنيامين نتنياهو، على حقيبة المالية، وقاد سياسة اقتصادية صقرية، انقلب فيها على كافة الشعارات التي رفعها في الحملة الانتخابية. فلم تتأخر المحاسبة الشعبية، إذ إنه في الانتخابات التي جرت في مطلع ربيع العام 2015، (بفارق 26 شهرا)، انهار تمثيل حزبه إلى 11 مقعدا، في حين قفز حزب العمل بتحالفه مع حزب صغير، في حينه، شكلته الوزيرة السابقة تسيبي ليفني، إلى 24 مقعدا.

ثم دخلت الحلبة السياسية الإسرائيلية إلى حالة عدم استقرار برلماني، بدءا من انتخابات الكنيست الـ 21، في نيسان 2019، وفي 5 جولات انتخابات، آخرها في مطلع تشرين الثاني 2022 للكنيست الـ 25، الحالي، ودخل "يوجد مستقبل" إلى تحالفات وفضها، وكذا حزب العمل، وتأرجحت النتائج للحزبين، التي رست أخيرا، عند تمثيل "يوجد مستقبل" حاليا بـ 24 مقعدا، والعمل عند حضيض الحد الأدنى- 4 مقاعد، ليغيب عن احتمالية تجاوز نسبة الحسم في استطلاعات الرأي في العام ونصف العام الأخيرين، كما أن "يوجد مستقبل" ينهار في استطلاعات الرأي بخسارة ما بين 8 وحتى 11 مقعدا من قوته البرلمانية الحالية، لتصب أساسا في حزب "المعسكر الرسمي" بقيادة بيني غانتس.

لكن في الأسبوعين الأخيرين، وبعد أن انتخب حزب العمل رئيسه الجديد، نائب رئيس أركان الجيش الأسبق يائير غولان، بأغلبية قاربت 96% من أصل 31 ألف منتسب أدلوا بأصواتهم، عاد حزب العمل إلى مجال التمثيل في الاستطلاعات. والمعطى الأبرز الذي يظهر في استطلاعات الرأي، هو أنه في حال تحالف العمل مع حزب ميرتس فسيحصل التحالف على 10 مقاعد، بالمعدل، وهنا يرسو "يوجد مستقبل" على خسارة 11 مقعدا، بحصوله على 13 مقعدا.

بالإمكان الاستنتاج من هذا العرض السريع، أنه بعد قرابة 12 عاما من تأسيس "يوجد مستقبل" فإن الحزب ما زال حزب "الرجل الواحد"، حزب يائير لبيد، المقرر الأساس في منهجية الحزب، وحتى في تركيبة قائمته البرلمانية، ولا توجد هيئات ملموسة له، رغم أن الحزب خاض في بعض المواقع، الانتخابات للمجالس البلدية، بما فيها الأخيرة، في نهاية شباط العام الجاري، وإنجازاته ليست ذات وزن، لكن الانتخابات البلدية عموما لم تعد كما كانت حتى قبل ثلاثة عقود، مؤشرا لقوة الأحزاب السياسية.

والأهم هو أن "يوجد مستقبل" لا يتمتع بنواة ناخبين صلبة، كما يظهر من هذا العرض لنتائجه خلال 11 عاما، في 7 جولات انتخابية برلمانية، بل إن نسبة عالية جدا من جمهور ناخبيه في انتخابات معينة على استعداد للتخلي عنه في الانتخابات التالية، في حال ظهر حزب جديد، أو حزب متجدد. وإذا تماشينا، مع التوصيفات والتسميات الإسرائيلية، رغم تحفظاتنا منها، فإن هذا الجمهور يعد في القاموس السياسي الإسرائيلي، "جمهور وسط" صهيوني، وأقرب لما يسمى "يسار صهيوني"، ولهذا فإن قوته في الانتخابات المقبلة، متعلقة أيضا باحتمال أن يحقق حزب العمل هدفه المعلن بخوض الانتخابات بتحالف مع شريكه الأساس: ميرتس.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات