في اليوم الثاني لمعركة طوفان الأقصى، تناقلت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده أن جهة ما حذّرت إسرائيل من أن المقاومة في قطاع غزة تخطّط لهجوم وشيك قبل أيام. صحيح أن هذا الخبر لم يكشف عن طبيعة هذه التحذيرات، أو أية تفاصيل حول هذه المعلومات التي نُقلت لإسرائيل، إلّا أنها أثارت بعض الشكوك- على الأقل لدى بعض الإعلاميين والمراسلين العسكريين في إسرائيل- لا سيّما أن صوابية هذه المعلومة تعني أن سيناريو "القصور الاستخباراتي" الذي سبق حرب أكتوبر- "حرب يوم الغفران" 1973 تكرّر مرة أخرى في العام 2023، رغم أن هذه اللعنة لم تُغادر النخب الأمنية والعسكرية منذ ذلك الحين. في أعقاب ذلك، خرج بنيامين نتنياهو في كلمة مصوّرة نفى فيها أن تكون إسرائيل تمتلك أية معلومات حول الهجوم، أو أن أي جهة أبلغتهم بنية المقاومة تنفيذ عملية من قطاع غزة. لكن، تبيّن بعد عدّة أيام أن ما أدلى به نتنياهو غير صحيح، وأن هناك بعض المؤشرات والتحذيرات كانت قد نُقلت بالفعل إلى المستويين الأمني والعسكري في إسرائيل عبر جهة لم يتم تحديدها لكن لم يتم التعاطي معها بجدّية إسرائيلياً؛ حيث لم تلجأ الأخيرة إلى رفع مستوى الجهوزية ولا حتى إعلان حالة التأهب على الحدود تحسبّا لهجوم مُحتمل. في هذه المساهمة، نُلقي الضوء على أبرز المُعطيات التي نشرها بعض المحللين العسكريين للصحف العبرية في أعقاب تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي أكّد فيه أنه بالفعل كانت هناك إشارات وصلت لإسرائيل حول هجوم وشيك، أو مثيرة للشكّ حول وجود شيء ما غريب، لكنها لم ترتقِ لمستوى المعلومة الاستخباراتية.
عاموس هرئيل، المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، أشار في أول تقرير مفصّل حول موضوع "الفشل الاستخباراتي" إلى أنه بالفعل كانت هناك مؤشرات حول عملية وشيكة وصلت إلى المستوى الأمني في إسرائيل قُبيل الحرب، وبحسبه فإن نجاح الهجوم المباغت للمقاومة ساعد فيه "الفشل أمني" و"سوء التقدير" لدى القيادة الأمنية وقيادة الجيش في غلاف غزة، على الرغم من أنه لم يكن لديهم معلومة استخبارية محدّدة عن الهجوم الذي بدأ صبيحة السبت الموافق 7 تشرين الأول 2023. هرئيل ادّعى أنه عشية الحرب كانت هناك "رموز"، أو "شظايا معلومة" أثارت خشية ما حول حدث في الأفق، وبناءً عليه أُجريت طوال ساعات مساء الجمعة مشاورات عبر الهاتف بين المسؤولين عن الجنوب في "الشاباك" و"أمان- الاستخبارات العسكرية"، "قسم العمليات" و"قيادة الجنوب" في الجيش بعلم ودراية رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي، وعلى الجانب الآخر، أُقيمت مشاورات أمنية منفردة في "الشاباك" مع رئيس الجهاز رونين بار. بحسب المعطيات، فإن قيادة الجنوب في الجيش كانت أكثر توتراً، لكن "الشاباك" أكد أن التحركات التي يتم رصدها في قطاع غزة اعتيادية وطبيعية وأنه لا توجد أي إشارة تلفت الأنظار، وانضم لذلك "أمان" الذي لم يوصِ برفع مستوى الجهوزية أو إعلان حالة التأهب (من المعروف أنه جهاز الإنذار في إسرائيل من أي حرب وشيكة) وهذه كانت نتيجة المشاورات التي أُجريت عبر مكالمتين هاتفيتين. صحيح أن "الشاباك" اعتبر أن الإشارات التي وصلت فيها "مؤشرات ضعيفة" ولا يُمكن الاستنتاج منها أن هناك عملاً ما يلوح في الأفق، لكنه مع ذلك أرسل طاقماً عملياتياً إلى منطقة الغلاف تحسباً من احتمالية وقوع عملية خطف في مناطق محدودة، وهي نفس المجموعة التي اشتبكت مع المقاومين الفلسطينيين في "الكيبوتسات"- المستوطنات المُحيطة بقطاع غزة صبيحة يوم السبت، لكن بالإجمال، لم يتخذ أحد قراراً برفع جهوزية الجيش على الحدود مع القطاع، أو إعلان حالة التأهب حتى، وتقرّر في المشاورات أن يتم الانتظار لغاية الصباح، لُتفاجأ بعدها إسرائيل بعملية "طوفان الأقصى" والتي بات معها الأمر متأخراً جداً بحسب هرئيل.
من ناحية أخرى، الصحافي الإسرائيلي المعروف رونين بيرغمان استعرض في مقال له نشره عبر الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" (Ynet) ما نشره في صحيفة "نيويورك تايمز" حول موضوع "القصور الأمني" رغم توفر إشارات/ معلومات مُسبقاً، والذي اعتمد فيه على ما يبدو على معلومات أدلى بها ضابطان كبيران في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حيث أكّدت أن إخفاقات إسرائيلية كبيرة ساهمت في أن تكون نتيجة الهجوم المفاجئ الذي شنّته المقاومة صادمة لإسرائيل.
بالعودة ربّما لبعض المؤشرات التي توفرت لدى القيادة الأمنية الإسرائيلية، يُشير بيرغمان إلى أنه وقبل وقت قصير من بدء الهجوم المفاجئ للمقاومة صبيحة يوم السبت، تم رصد ارتفاع في نشاط الشبكات التي يستخدمها عناصر المقاومة الذين كانوا تحت المراقبة لدى جهاز المخابرات "الشاباك"، وأن اثنين من كبار المستوى الأمني أكدا أنهما اعتقدا بأن شيئاً ما سيحصل، وقد قاما بإرسال تحذير للجيش في غلاف قطاع غزة، "لكن هذا التحذير لم يُترجم لاستعداد أو جهوزية أو فعل، ربّما لأن الجيش بحسب تصريحاتهما لم يتلق التحذير، أو لم يقرأه حتى". لكن بعد وقتٍ قصير، أرسلت المقاومة مسيّرات لتعطيل شبكة الاتصالات الخليوية وأبراج التنصّت المزروعة على الحدود وكذلك تعطيل نظام المراقبة عبر الكاميرات (التقديرات الإسرائيلية بأن 35 مسيّرة من نوع زواري شاركت في هذه العملية)، كما دمّرت هذه المسيرات نظام "روئيه- يوريه"- بالعبرية (نظام التصويب)، الذي يتم تفعيله والتحكّم به عن بعد على أيدي جنود ومجندات الجيش في غرف المراقبة لاستهداف كل شخص يُحاول اختراق الجدار. إن هذا الإخفاق العملياتي بحسب بيرغمان ليس إلا جزء بسيط من الإخفاقات العملياتية واللوجستية والاستخبارية الأخرى؛ فالهجوم المفاجئ يكشف عن العديد من الإخفاقات لدى المؤسسة الأمنية التي كان لديها مُعطيات حول نيّة المقاومة تنفيذ هجوم، لكن هذه المعطيات لم تُشكّل مُجتمعة على ما يبدو صورة واضحة بالنسبة لها ولا حتى أي تصوّر يتعلّق بمكان وزمان التنفيذ. يُضاف ذلك إلى اتباع "حماس" لسياسة التضليل التي خلقت انطباعاً معاكساً لدى المؤسسة الأمنية وهو أن الحركة في حالة "اعتدال وهدوء نسبيين"، وهدفها التركيز على إدارة أمور القطاع المدنية.
أما الأسباب التي عزّزت من النجاح الكبير الذي حقّقته حركة "حماس" في الهجوم المفاجئ كما استعرضها بيرغمان نقلاً عن كبار المسؤولين الأمنيين فكانت على النحو التالي:
- فشل ضباط المخابرات في مراقبة شبكة الاتصالات المركزية التي يستخدمها المقاومون الفلسطينيون وقيادتهم.
- الاعتماد الإسرائيلي المفرط على وسائل المراقبة والتنصت والتكنولوجيا التي استطاعت المقاومة تدميرها بسهولة في بداية المعركة، وتسبّب ذلك في عمى للقوات الإسرائيلية وخلق ضبابية كبيرة تحرّكت تحتها بسهولة عناصر المقاومة.
- مهاجمة المقاومة في المرحلة الأولى من المعركة قاعدة تضم كبار الضبّاط في الجيش أدى إلى قطع الاتصال مع الجيش في المقرات المختلفة وأيضاً على إمكانية إرسال إنذارات.
- انطلى على القوات الإسرائيلية الذين كانوا يتنصّتون باستمرار على بعض الشخصيات في المقاومة بأن لا نية لديهم بشنّ أي هجوم وأنهم غير معنيين بأي مواجهة في الوقت الحالي، وهذه التصريحات كانت مُتعمدة.
"أنفقت إسرائيل المليارات من أجل مراقبة حماس وجمع المعلومات الاستخبارية عنها، في ثانية واحدة انهار ذلك كله كما أحجار الدومينو"، بحسب يوئيل غوجانسكي، وهو أحد كبار مسؤولي مجلس الأمن القومي الإسرائيلي (ملال) السابقين، لكن يتضح من التصريحات التي أدلى بها ضباط كبار في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن الفشل الأول كان قبل عدّة أشهر من بدء المعركة وتمثّل في أن كبار ضباط الجيش والمؤسسة الأمنية قدّموا تقديرات خاطئة للتهديد القادم من قطاع غزة. مثلاً، تساحي هنغبي مسؤول مجلس الأمن القومي الحالي قال "منذ عملية حارس الأسوار، في شهر أيار قبل عامين، هناك قرار لدى قيادة حماس لإظهار ضبط نفس كبير ومنقطع النظير"، وذلك في مقابلة مع راديو إسرائيلي قبل ست أيام فقط من الهجوم، وبثقة كبيرة أيضاً قال "منذ أكثر من عامين، لم تُسجّل حالة إطلاق صاروخ واحد حتى من قبل حركة حماس من قطاع غزة، وإن حماس تعرف أبعاد أي مواجهة جيداً وهي مردوعة جداً لخمسة عشر عاماً على الأقل، ووجهتها ليست التصعيد". وبشكل مشابه، كانت التقديرات نفسها التي تم تقديمها حول تهديد حماس في اجتماع للتشاور في القضايا الأمنية والتهديدات العاجلة أُقيم في الأسبوع السابق للهجوم، حيث لم يتم التطرّق تقريباً لملف قطاع غزة، واكتفى أحد الضباط بالقول "حماس مردوعة" وبالفعل تم التركيز على "التهديد القادم من الجبهة الشمالية" بحسب بعض المصادر الأمنية. وقد تعزّز هذا الأمر في تعمّد حركة "حماس" وقيادتها تعزيز وتغذية هذا "التصور" ربّما لمعرفتهم بأن إسرائيل تراقبهم جيداً، وهو شكل من أشكال المناورة.
من ناحية أخرى، ضباط المؤسسة الأمنية أشاروا أيضاً في المقابلة إلى أن نظام المراقبة المزروع على الحدود مع غزة يعتمد بشكل كلي على الكاميرات، المجسّات ونظام "التصويب" عن بُعد، كما أكّد ضبّاط كبار في الجيش أن الجمع بين هذا النظام (نظام المراقبة) وبين السياج الكبير والجدار الأرضي والعائق تحت الأرضي الذي يحد من الأنفاق وعمليات التسلل جعل من إمكانية التسلّل أمراً مستحيلاً، وأدّى إلى تقليل الحاجة أيضاً للعنصر البشري (وجود عدد كبير من الجيش في القواعد العسكرية)، وهذا الأمر دفع الجيش في وقت سابق إلى تخفيض عدد الجيش على حدود قطاع غزة ونقلهم إلى أماكن أخرى من بينها الضفة الغربية. في السياق، أكد يسرائيل زيف، وهو جنرال احتياط، لمجلة أميركية أن تخفيض عدد الجيش في غلاف غزة بدا أمراً منطقياً في ضوء المناخ الذي صاحب بناء الجدار، حيث أن هذا النظام بدا غير قابل للاختراق أبداً، وهذا خفّف أيضاً من توتر عناصر وضبّاط الجيش لا سيّما وأنه لم تكن لديهم أية مُعطيات لوقوع حدث شبيه بما حدث.
الفشل العملياتي الثاني بحسب التقرير تمثّل في تركيز تواجد الضباط في "فرقة غزة" في منطقة عسكرية واحدة قريبة من الجدار، حيث أن مهاجمة مقر قيادته وسقوط العديد من الضباط فيها بين قتيل وأسير، أدّيا أيضاً إلى عدم وجود رد منسّق وصعّب من نقل صعوبة الوضع إلى الضباط الكبار في قيادة الجيش، وهو ما ترتب عليه صعوبة إدراك لدى قيادة الجيش على ما يبدو بضرورة توجيه ضربة جوية كبيرة وواسعة من قبل سرب ضخم من الطائرات التابعة لسلاح الجو الذي وصل بعد عدّة ساعات رغم أن قواعده لا تبعد عن هذه المنطقة سوى بضع دقائق طيران.
إجمالاً؛ يُمكن القول بأن لعنة حرب أكتوبر- "يوم الغفران" 1973، وما يُعرف بـ "القصور الأمني" (محدال بالعبرية) الناتج عن "التصور" كما بات معروفاً في القاموس العسكري والأمني والسياسي في إسرائيل، كانت ما تزال تُلاحق كل السياسيين والمستويين الأمني والعسكري على مدار نصف القرن الماضي. واللافت أن هذا العام شهد العديد من النقاشات حول الموضوع، وقد صدرت العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت الحرب وموضوعة "القصور" تحديداً بمناسبة مرور 50 عاماً على حرب أكتوبر. لكن، وبعد مرور 50 عاماً أيضاً، يتضح أن إسرائيل ما زالت تعاني من نفس "القصور" و"الفشل" على مستويين: المستوى الأول أمني- عسكري؛ حيث لم تتمكّن مرة أخرى- في حال ثبت لاحقاً صحة ما أوردناه في هذه المساهمة نقلاً عن تقارير إسرائيلية- من الخروج من "التصوّر" الأمني المُطبق على ذهنية نخبتيها الأمنية- العسكرية والسياسية والقاضي بعدم استعداد العرب والفلسطينيين عسكرياً لمواجهتها، على الرغم من كافة الإجراءات التي تم اتخاذها واعتمادها بعد انتهاء حرب 1973 في أعقاب التفاعلات السياسية والأمنية والعسكرية التي تبعت الحرب، والتي طالما أكّدت إسرائيل أنها أنتجت ذهنية مختلفة في معالجة المعلومات والإشارات حول أحداث أمنية وشيكة والاستجابة لها كذلك. أما المستوى الثاني فيتمثّل في استمرار فشل إسرائيل في الخروج من "التصور" الدائم حول الفلسطينيين والعرب والذي يشوبه الكثير من "القصور" و"سوء التقدير"، بل والفشل أيضاً، في فهم تعطّش الشعب الفلسطيني وتطلّعه الدائم لنيل حريته وتقرير مصيره واستقلاله، الأمر الذي أسقطها مرة أخرى في الفشل نفسه. وما هو واضح أن كل ذلك حتماً سيترتّب عليه الكثير من التبعات العاصفة في إسرائيل بعد أن تضع الحرب على قطاع غزة أوزارها وعلى المستويات الأمنية- العسكرية والسياسية، بل على المستويات كافة.
المصطلحات المستخدمة:
فرقة غزة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, مجلس الأمن القومي, بنيامين نتنياهو, تساحي هنغبي