المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 946
  • سليم سلامة

"التحولات الجوهرية الحاصلة منذ فترة بين المسيحيين الأفنجيليين تحتّم على إسرائيل إعادة التفكير في الأمر. على خلفية الشرخ القائم والآخذ في التعمق مع اليهود الأميركان، وإذا ما فقدت إسرائيل أيضاً دعم محبّيها الأفنجيليين، فقد تجد نفسها متورطة في مشكلة جدية وعميقة"- هذه هي الخلاصة التحذيرية التي ينتهي إليها كوبي باردا، الباحث في معهد "ميتفيم (مسارات) ـ المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية" والمتخصص في تاريخ السياسة الأميركية، الحركات الشعبية والجيوستراتيجية، في تحليله للسيرورات البارزة بين الأفنجيليين الأميركيين خلال السنوات الأخيرة، مشيراً بشكل خاص إلى النتائج التي أظهرها استطلاع للرأي العام أجراه مؤخراً معهد أبحاث أميركي بارز (معهد PRRI في واشنطن) حول المعتقدات الدينية في الولايات المتحدة، وفي مقدمتها الهبوط الحاد، بنسبة تقارب الـ 40%، في عدد الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم "أفنجيليون" في غضون أقل من عقدين من الزمن ـ من حوالي ربع السكان في الولايات المتحدة في العام 2006 إلى نحو 13.5% في نهاية العام 2022.

ما هي دلالات هذه التحولات وما هي انعكاساتها على صورة الوضع في داخل تيار الأفنجيليين وعلى العلاقة المميزة بين هذا التيار ودولة إسرائيل، باعتباره أحد معاقل التأييد والدعم المركزية لإسرائيل، سياسياً واقتصادياً، ليس على صعيد الولايات المتحدة فحسب وإنما على الصعيد العالمي أيضاً؟ - هذه هي التساؤلات التي يخوض باردا فيها ويحاول الإجابة عليها مؤكداً على أن ثمة استنتاجاً مركزياً ينبغي استخلاصه من مشاهدة هذه التحولات ومراقبتها، حتى قبل التأني في تحليلها وتحليل آثارها المحتملة بصورة معمقة، مؤداه أن هذه التحولات العميقة تعني، بصورة أولية، أن الفكرة القائلة بأن إسرائيل تستطيع الاعتماد على التيار الأفنجيلي في الولايات المتحدة، حتى على حساب دعم اليهود أميركيين، هي "فكرة خاطئة ولم تعد تنسجم مع معطيات الواقع الجديد". ويذكّر باردا هنا بتصريح كان أدلى به رون ديرمر، الذي أشغل منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة سابقاً ويشغل حالياً منصب الوزير للشؤون الاستراتيجية في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، حين قال (في أيار 2021) إن "على إسرائيل أن تستثمر في المسيحيين الأفنجيليين أكثر مما تستثمره في يهود الولايات المتحدة"! مضيفاً إن "25% من سكان الولايات المتحدة هم أفنجيليون، ناهيك عن أن يهود أميركا هم نقديّون تجاه إسرائيل، أكثر من الأفنجيليين بكثير". 

هبوط في تأييد إسرائيل يقابله ارتفاع في تأييد الرواية الفلسطينية 

الادعاء الأول الذي يطرحه ديرمر، بشأن كون رُبع الأميركيين (نحو 80 مليون شخص) من الأفنجيليين، كان صحيحاً ونافذاً حتى العام 2006، إلا أنه منذ ذلك العام أخذ عددهم بالتناقص حتى وصل إلى نحو 30 مليوناً في نهاية العام 2022، يعيش معظمهم في ولايات جمهورية خالصة (ما يسمى في الولايات المتحدة بـ "الولايات الحمراء") هي أقل تأثيراً من حيث قوتها الانتخابية. أما ادعاء دريمر الثاني، الذي يقول إن الأفنجيليين أقل نقداً تجاه إسرائيل من اليهود الأميركيين، فهو أيضاً بعيد جداً عن الحقيقة كما تنعكس من الواقع المستجد: فقد بيّن بحث جديد أجراه مؤخراً د. موطي عنباري، من جامعة كارولاينا الشمالية في بيمبروك (جامعة UNCP) والمتخصص في دراسة "الجيل زِد" (Generation Z) بين الأفنجيليين، أن نسبة تأييد إسرائيل بين الشبان في سن 19- 29 عاماً قد هبطت من 75% إلى 33% خلال سنتين اثنتين فقط! وفي المقابل، قال 45% من المشاركين في الاستطلاع (الشباب الأفنجيليون) إنهم يؤيدون إقامة دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل، فيما قال 35.1% منهم إنهم "محايدون في هذا الموضوع"، مقابل 20.5% (فقط!) قالوا إنهم "يعارضون فكرة الدولة الفلسطينية"!

وقبل ذلك بفترة قصيرة، كانت نتائج استطلاع آخر للرأي العام أجراه معهد الأبحاث المسيحي Lifeway research، بناء على طلب من منظمة مسيانية صهيونية تدعى Chosen People Ministries، قد انطوت على "حقيقة مُرّة أخرى"، كما يصفها باردا، مؤداها أن تأييد إسرائيل بين أوساط "جيل واي" (أو، "جيل الألفية" - Generation Y ـ أبناء 18- 34 عاماً) من الأفنجيليين الأميركيين تراجع بصورة حادة مقارنة بالتأييد الذي كان بين جيل آبائهم: 77% من أبناء 65 عاماً وما فوق مقابل 58% من أبناء 18- 34 عاماً. وبيّنت نتائج هذا الاستطلاع، أيضاً، تحولاً في آراء جيل الشباب من الأفنجيليين الأميركيين ومواقفهم تجاه المسلمين، إذ قال 41.7% منهم إن لديهم الآن "رأياً إيجابياً تجاه الإسلام والمسلمين"، مقابل 29% منهم قالوا ذلك قبل ثلاث سنوات. 

يمكن الجزم، إذن ـ كما يؤكد باردا ـ بأن المنحى الجديد بين الأفنجيليين الشباب، كما يظهر من نتائج عدد من استطلاعات الرأي المختلفة، هو تصاعد النقد حيال دولة إسرائيل وارتفاع كبير في تأييد ودعم الرواية الفلسطينية. ذلك أن الدعم الأوتوماتيكي الذي كان يوفره الأفنجيليون لإسرائيل، بناء على "الوعد الربّاني" المُدّعى دينياً والذي كان يحتل مكانة هامة لدى هؤلاء في الماضي، هو أقل أهمية بكثير من وجهة نظر الجيل الشاب بين الأفنجيليين. أي أن الأفنجيليين يربّون جيلاً جديداً لا يشعر بالالتزام الديني وبضرورة دعم إسرائيل غير المحدود وغير المشروط، كما هي الحال بين جيل الآباء. 

خلال العقود الأخيرة، كان الأفنجيليون الأميركيون (منذ ظهورهم كتيار ديني ـ سياسي في سبعينات القرن الماضي) يُشكلون أحد المعاقل المركزية في دعم إسرائيل، سياسياً واقتصادياً. قادة بارزون من بينهم، مثل جون هاجي (القس الأفنجيلي والواعظ التلفزيوني الذي كان يترأس كنيسة تمثل أكثر من 20 ألف أفنجيلياً في سان أنطونيو وكانت عظاته تُبث في أكثر من 200 محطة تلفزيونية وإذاعية)، جيري فالويل وماريون غوردون (المعروف بـ "بِت روبرتسون"، وهو قسّ معمداني وسياسي أميركي كان من قادة اليمين المسيحي الأميركي وتنافس ليكون مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية في انتخابات العام 1988، لكنه أخفق)، عبروا عن دعم علني حازم وبدون أي تحفظ لدولة إسرائيل والشعب اليهودي. وبما أن الأفنجيليين هم الطائفة الدينية الأكبر في الولايات المتحدة ـ رُبع إجمالي السكان، كما ورد أعلاه ـ فقد اكتسب دعمهم لإسرائيل أهمية سياسية فائقة تجسدت على أرض الواقع بصورة دراماتيكية جداً في قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب (الذي فاز بالرئاسة الأميركية بفضل دعم الأفنجيليين وكافأهم بتعيين أحد أبرز قادتهم، مايك بينس، نائباً له) الاعتراف بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل ثم قراره المترتب على ذلك بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهو ما تم فعلياً في أيار 2018. وفي آب 2020، قال ترامب في أحد اجتماعاته الانتخابية الأكبر في ولاية ويسكونسن، إن "السبب المركزي الذي دفعني إلى اتخاذ قراري الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل سفارتنا إليها هو قاعدتنا الأفنجيلية"! وقد درج رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، بنيامين نتنياهو، على القول: "ليس لدى إسرائيل أصدقاء في العالم أفضل من المسيحيين الأفنجيليين"، وهو (نتنياهو) المعروف بأنه من أكثر الشخصيات، الإسرائيلية خصوصاً والدولية عموماً، المقربة إلى المسيحيين الأفنجيليين الأميركيين. 

ظاهرة عابرة أم تحوّل له ما بعده؟

حين طُلب من المشاركين في استطلاع الرأي العام الأخير تقديم تفسير لهذه الفجوة في المواقف تجاه إسرائيل من جهة أولى، وتجاه القضية الفلسطينية من جهة ثانية، بين الأفنجيليين من جيل الآباء وجيل الأبناء، قال 34% منهم إن الأمر يعود إلى "الفارق بين الأجيال" فيما قال 25% منهم إن الأمر عائد إلى حقيقة أن الأفنجيليين الشباب يعترفون بأنهم "أقل اطّلاعاً ومعرفة" بشأن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني من الأجيال الأكبر. وقال 29.8% آخرون إنهم "لا يعرفون" ما هو سبب تلك الفجوة وما هو تفسيرها. 

هذا يدل، في رأي باردا، على أنه عندما يُطلَب من الأفنجيلي الشاب، في سن الدراسة الجامعية وبدايات الانخراط المهني، الاختيار ما بين التقدم المهني في مجال التكنولوجيا المتطورة ("الهاي تك") والحصول على رواتب دسمة وظروف حياتية مريحة، من جهة، أو التضامن والتعاطف مع قِسّ ثمانينيّ كان ذلك الأفنجيلي الشاب يذهب للاستماع إلى عظاته حول إسرائيل في صلوات يوم الأحد سوية مع جدّته، من جهة أخرى، "فإن الخيار والاتجاه واضحان تماماً ـ ليس مع إسرائيل، على الأرجح"، كما يشير باردا، مضيفاً أنه بالإمكان ردّ ذلك، أيضاً وبالتالي، إلى تبني توجهات ليبرالية وتقدمية بين الشبان الأفنجيليين، وهو ما يمكن فهمه من نتائج استطلاع آخر للرأي العام أظهرت أن 45% من الشبان الأفنجيليين (مواليد 1981- 1996) يؤيدون الزواج بين مثليي الجنس، مقابل 23% من الأفنجيليين الأكبر سناً، إضافة إلى أن 51% من الشباب قالوا إنهم يعتبرون المثلية الجنسية "أمرا/ خياراً شرعياً"، مقابل 23% فقط من الأفنجيليين كبار السن. 

فوق هذا كله، ينبغي النظر إلى حقيقة أساسية وأشمل هي أن الدين يفقد من أهميته ووزنه في الولايات المتحدة، حسبما بيّنت نتائج استطلاع أجراه "معهد بيو": ما زال الأفنجيليون يشكلون المجموعة الدينية الأكبر في الولايات المتحدة (25.4%)، لكن عددهم لا يسجل أي ازدياد. في المقابل، المجموعة الدينية التي سجلت أكبر معدلات الاتساع والازدياد في الولايات المتحدة هي مجموعة غير المعتنقين أية ديانة على الإطلاق (العلمانيون، الأغنوستيون/ اللا أدريين وغير المنتمين إلى أية مجموعة)، والتي ازداد عدد أعضائها من 16.1% في العام 2014 إلى 22.8% في العام 2022 لتصبح المجموعة "الدينية" الثانية في حجمها في الولايات المتحدة، بعد الأفنجيليين وبفارق غير كبير نسبياً.

من الصعب الجزم الآن ما إذا كان هذا التحول هو ظاهرة عابرة أم يشكل انعطافة جوهرية ناجزة ولها ما بعدها في علاقة الأفنجيليين الأميركيين مع دولة إسرائيل. ذلك أن أغلبية هؤلاء الأفنجيليين (66%) ما زالت تؤيد إسرائيل وتدعمها. لكن، من الجهة الأخرى، ينبغي عدم إغفال حقيقة أن الدعم المسيحي لإسرائيل هو ظاهرة بدأت كحركة جماهيرية واسعة في سبعينيات القرن الماضي، تعبيراً عن الصحوة الروحانية التي شهدتها ستينيات ذلك القرن. وكأية ظاهرة أخرى، ستكون هذه أيضاً مرشحة للتبدل والتغير. 

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات