تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 2311

يؤكد المراقبون أن الملفين الأكبرين اللذين ستنشغل بهما حكومة بنيامين نتنياهو المقبلة هما السعي لفرض ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنين والمستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، بمعنى ضم أجزاء واسعة من الضفة. وثانيا سن قانون يقوّض صلاحيات المحكمة العليا في ما يخص بإلغاء قوانين أقرها الكنيست.

وفي كلا الملفين ثمة تعقيدات خاصة بكل واحد منهما على الرغم من التوافق من حيث المبدأ بين أطراف الحكومة المتوقعة، منها تعقيدات سياسية، وأخرى حزبية، وبالذات حزبية في قضية المحكمة العليا، موضوعنا هنا.

خلفية

المعركة من أجل الانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا، أو من أجل تغيير تركيبتها وتقليل مكانتها، لم تبدأ في حكومات بنيامين نتنياهو الثلاث الأخيرة بما فيها الحالية، رغم أن نتنياهو طرح مثل هذا الموقف، في حكومته الأولى، 1996- 1999. فقد برزت هذه المعركة بشكل آخر في ظل حكومة حزب "كديما" برئاسة إيهود أولمرت، حينما كان وزير العدل حاييم رامون. وقد تولى رامون وزارة العدل لعدة أشهر في العام 2006، واضطر للاستقالة منها في أعقاب قضية تحرّش جنسي. ولكن بضعة الأشهر تلك كانت كافية للإعلان عن نواياه بتغيير أنظمة تعيين القضاة، ليكون الوزن أكبر للجهاز السياسي، ولكن ليس هذا فحسب، بل هو أيضا عبّر عن اعتراضه على مدى تدخل المحكمة العليا في القوانين التي يقرّها الكنيست.

وبعد اضطرار رامون إلى الاستقالة، تم استقدام المحامي والخبير الحقوقي البروفسور دانييل فريدمان. واتضح لاحقا أن فريدمان ذاته كان من الموجهين لرامون، وجاء ليكمل المهمة؛ ما يعني أن هذا المشروع كان أكبر من فكرة شخص في الحكومة. لكن حكومة أولمرت حلّت نفسها قبل إحداث أي تغيير.

ومنذ الأيام الأولى لحكومة نتنياهو الثانية، في ربيع العام 2009، أبدى رئيسها نيته بتغيير قوانين وأنظمة في جهاز القضاء، وبشكل خاص تقويض صلاحية المحكمة العليا في موضوع التدخل في القوانين. ورغم تشكيل حكومتين وهذه الثالثة، إلا أن مثل هذه القوانين لم تحل بعد. بل جرى تغيير طفيف في لجان تعيين القضاة. ولكن قبل هذا، نجحت حكومة نتنياهو قبل السابقة بتغيير قانون تعيين رئيس المحكمة العليا، الذي كان يقضي بتعيين الأكبر سنا، شرط أن يكون عمره حتى 66 عاما، كون القاضي يخرج للتقاعد بعمر 70 عاما، ومن يتم انتخابه رئيسا يبقى في منصبه حتى تقاعده. وكان الغرض من تعديل هذا القانون هو السماح للقاضي آشير غرونيس، المحسوب على اليمين، بأن يتولى المنصب حينما يكون عمره 67 عاما، فور استقالة دوريت بينيش، التي اتبعت نهج سابقها الليبرالي أهارون باراك.

معركة نتنياهو الجديدة

يخوض نتنياهو من خلال حكوماته الثلاث الأخيرة، ولكن قبله أيضا حكومة "كديما" برئاسة إيهود أولمرت، معركة من أجل تقويض صلاحيات المحكمة العليا، والسعي إلى تغيير جذري في تركيبتها لتكون هيئة القضاة ذات أغلبية مطلقة من أنصار اليمين الاستيطاني.

والمحاولة التي بدأت بالذات في الولاية البرلمانية السابقة هي أن يكون بمقدور الكنيست أن يسن قانونا من جديد بعد أن تكون قد ألغته المحكمة، لكن ضمن شروط كهذه أو تلك، وعليها خلاف. فمثلا يقترح نتنياهو سن قانون مشابه للقانون البريطاني، الذي لا يجيز للمحكمة العليا نقض قوانين يقرّها الكنيست، بل يتيح للمحكمة أن تبدي رأيها بالقانون، مثل إذا كان مناسبا أم لا. إلا أن معارضي هذه الفكرة يقولون إن في بريطانيا دستورا واضحا، وهذا غير قائم في إسرائيل، كما أن في بريطانيا هيئتين تشريعيتين، والقصد البرلمان ومجلس الشيوخ؛ ما يعني أن القانون يمر في عدة مراحل، ووفق قيود يحددها الدستور.

وحسب تقارير سابقة، فإن المستوى المهني في وزارة العدل، ومعه المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، عارضا سلسلة مشاريع القوانين التي طرحت في الولاية البرلمانية السابقة، والتي من المتوقع أن يعاد طرحها من نواب الائتلاف في الولاية البرلمانية الجديدة، وهي مشاريع قوانين من شأنها أن تقوض صلاحيات المحكمة العليا، وإلغاء صلاحيات واستقلالية المحكمة العليا، وعمليا إلغاء الديمقراطية وحقوق الإنسان في إسرائيل.

كما يعترض المستوى المهني في وزارة العدل بالذات على القانون البريطاني. ويقول مسؤولون كبار في الوزارة "إن ثقافة الحكم والتشريع في بريطانيا تختلف كليا عما هو قائم في إسرائيل، التي ليس لديها دستور مكتوب، كما هو قائم في بريطانيا. كما أنه يكفي أن تقول المحكمة البريطانية العليا أو الجمهور إن القانون ليس مناسبا، حتى يتم إلغاؤه، أو التراجع عن تشريعه. أما في إسرائيل، وفي تركيبة الكنيست السابقة والحالية، فإنه في اللحظة التي تعتقد فيها المحكمة العليا أن القانون ليس دستوريا، فإن الكنيست (في حال أقر القانون البريطاني) لن يتنازل، وبسبب هذا فإن كتاب القوانين سيمتلئ بقوانين ليست دستورية ولا مناسبة".

ولاحقا عرض المستشار مندلبليت صيغة "حل وسط"، حسب الوصف، وبموجبه فإن المحكمة العليا تستطيع نقض قانون فقط من خلال هيئة تضم 9 قضاة في المحكمة، وأن يكون نقض القانون بأغلبية 6 قضاة على الأقل من القضاة الـ 9، وأن الكنيست بمقدوره سن القانون مجددا، لكن بأغلبية لا تقل عن 70 نائبا. وهذا ما رفضه نتنياهو، وقال إنه إذا أراد التساهل فإنه يشترط أن يكون قرار المحكمة ساريا فقط إذا وافق على إلغاء القانون جميع قضاة المحكمة العليا الـ 15، لإدراك نتنياهو أن حالة كهذه مستحيلة في تركيبة المحكمة العليا حاليا.

كما تعارض رئيسة المحكمة العليا إستير حيوت مشروع القانون الذي يسعى له نتنياهو، وقالت في خطاب سابق لها "كوننا نريد التفاخر، وبحق، أمام العالم، بأننا الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، علينا أن نتذكر أن أحد الضمانات الضرورية لهذا هو الحفاظ على جهاز قضائي مستقل ومهني، وليس مرتبطا بأي جهة، ويقوم بمراقبة الحكم، ويدافع عن المبادئ الأساس لنظام الحكم".

تعقيدات في الحكومة الحالية

المصطلح المتبع لمشروع القانون المقترح لتقويض صلاحيات المحكمة العليا هو "فقرة التغلب"، بمعنى فقرة تعديل على القانون القائم، والقصد منها "التغلب" على قرارات المحكمة.

ويقول المحلل في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية حجاي عميت، في مقال مطول له، حول تعقيدات الائتلاف حول هذه القضية، إن فقرة التغلب هي ورقة اللعب في المفاوضات لتشكيل الحكومة المقبلة، وبلورة الاتفاقيات بين الأحزاب. ووصفها عميت بأنها "الجوكر" الذي سيكون بيد كل واحد من الأحزاب المشاركة، إذ أن كل حزب يريد هذا التعديل القانوني لصالحه، لكن في مرحلة ما من الممكن أن يكون هذا القانون ضربة مرتدة لغالبية الأحزاب المشاركة، خاصة تلك التي تريد القانون لاحتياجات تغليب قوانين ذات طابع ديني مثل الأحزاب الدينية، وأحزاب علمانية تريد القانون لغايات سياسية لكنه قد يعمل ضدها في قضايا الإكراه الديني.

وحسب عميت، فإن تحالف "اتحاد أحزاب اليمين"، والقصد تحالف أحزاب مستوطنين، يقود حملة تعديل القانون، ويرغب زعيما الحزب رافي بيرتس وبتسلئيل سموتريتش بالحل الذي أقره الكنيست العام 1994، إبان حكومة يتسحاق رابين بهدف التغلب على قانون أساس: حرية العمل، وكان الهدف في حينه السماح بأن تقر إسرائيل قانونا يقيد استيراد لحوم ليست وفق أنظمة الحلال في الشريعة اليهودية. ويريد سموتريتش سريان الأمر ذاته على قانون أساس: احترام الإنسان وحريته. ويقصد المستوطنون تقييد المحكمة العليا في حال رفضت قانونا يتعارض مع قانون أساس: احترام الإنسان وحريته، وهم يريدون أن يتم سن القانون مجددا بأغلبية 61 نائبا في حال رفضته المحكمة. وكان سموتريتش قد حاول سن قانون كهذا في الولاية البرلمانية السابقة ولم ينجح، إلا أنه يعتقد أن التركيبة الجديدة في الكنيست تسمح له بذلك.

ويقول عميت إنه حينما توجه إلى الأحزاب المرشحة للدخول إلى حكومة نتنياهو المقبلة، لاحظ بلبلة في أجوبة الأحزاب. وقد شككت الأحزاب في قدرة حكومة نتنياهو على سن قوانين رفضتها المحكمة مجددا، إذا ما كان الأمر يتطلب أغلبية كبيرة في الكنيست، مثل 70 نائبا أو 80 نائبا، بموجب ما سبق ذكره هنا، لأن الحكومة المتوقعة لنتنياهو ستستند كما يبدو إلى 65 نائبا.

لكن ليس هذا وحده حسب عميت، فكل حزب يريد هذا القانون لشؤونه. والتناقض الأكبر يبرز بين كتلتي شاس ويهدوت هتوراة اللتين تمثلان جمهور الحريديم، وبين حزب "يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان، وهو حزب علماني. وأول معالم التصادم أن كتلة يهدوت هتوراة تريد قانون التغلب على صلاحيات المحكمة العليا كي يكون متاحا لها إمكان سن قانون آخر للتجنيد العسكري، بشكل يضمن إعفاء شبانها، الذين يرفضون الخدمة العسكرية لأسباب دينية، على الرغم من مواقفهم اليمينية المتزمتة. وهذا ما يعترض عليه ليبرمان بالذات. وبناء عليه، فإن ليبرمان يطالب بسن قانون التغلب على صلاحيات المحكمة، لكن باستثناء قانون التجنيد العسكري. ورغم هذا، وحسب عميت، فإن حزب "يسرائيل بيتينو" يتجاهل الجوانب السلبية من ناحيته، لمسألة قانون التغلب على صلاحيات المحكمة العليا، إذ سيكون من الصعب عليه الاعتراض على قوانين تفرض الإكراه الديني، ومنها قوانين تشكل ضائقة لجمهور المهاجرين الجدد من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وأيضا في ما يتعلق باستيراد اللحوم غير الحلال حسب الشريعة اليهودية.

أما شاس التي تدعي رغبتها بسن قانون واسع النطاق للتغلب على صلاحيات المحكمة العليا، فيحذرها عميت من أنها ستصطدم هي أيضا بقوانين لمنع التمييز الذي يعاني منه جمهور اليهود الشرقيين، وخاصة الحريديم الشرقيين من جانب المؤسسات الدينية التابعة للحريديم الأشكناز (الغربيين)، وبالأساس في جهاز التعليم التابع للحريديم.

وجاء في تقرير عميت أن حزب "كولانو" بزعامة وزير المالية موشيه كحلون ما زال مرتبكا ولم يوضح موقفه كاملا من هذا القانون. وكان حزب "كولانو" قد اعترض على تقليص صلاحيات المحكمة العليا في الحكومة السابقة، إذ كان قد تحفظ من هذا البند الذي ورد في اتفاقيات الائتلاف مع أحزاب أخرى. لكن لاحقا، بعد أن تكشفت وجوه اليمين الاستيطاني المتشدد في هذا الحزب، وبالذات وزير الاقتصاد إيلي كوهين، ومن كان وزيرا للبناء من الحزب وانسحب إلى الليكود يوآف غالانت، فقد أعرب عن تأييده لقانون كهذا. إلا أن "كولانو" الذي حصل في الانتخابات السابقة على 10 مقاعد وكان الحزب الثاني في الحكومة بعد الليكود، خسر في الانتخابات الأخيرة 6 مقاعد، وبقي مع 4 مقاعد وهو من أصغر الكتل في الائتلاف الحاكم، ولكن تكون أهمية لتحفظات رئيس الحزب، هذا إذا ما بقي عليها أصلا.

ويقول عميت إنه في خلطة المصالح الضيقة وقصيرة المدى لأحزاب الائتلاف المفترضة، يخيل أن أي حزب منها لا يستوعب قوة الورقة التي يمسك بها. وهم لا يستوعبون واقعا فيه ائتلاف حاكم يستند إلى أغلبية يمينية ومتدينة، أن تنقلب عليهم مبادرة التغلب على صلاحيات المحكمة العليا، ليتعرضوا لاحقا لانتقام من جمهور مصوتيهم، بسبب هذا القانون، الذي قد يكون ضربة مرتدة على هذا الحزب أو ذاك.

لا كوابح للقوانين

ويقول المحلل عيدو باوم، في مقال له في صحيفة "ذي ماركر"، "إن إسرائيل هي لربما الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم، التي ليس فيها كوابح لسن القوانين سوى في المحكمة العليا. والمحكمة العليا تلغي عددا قليلا جدا من القوانين، بدوافع المس بحقوق الإنسان، فحتى اليوم تم الغاء 18 قانونا. وهذا لا يعني أنه لا يوجد في إسرائيل قوانين تمس بحقوق الإنسان".

ويتابع باوم أنه في دول أخرى توجد تقاليد دستورية فاخرة، تضع حدودا لسن القوانين. في الاتحاد الأوروبي فإن الدول الأعضاء متعلقة بقرارات المحكمة الأوروبية العليا لشؤون حقوق الإنسان، التي بمقدورها أن تلغي قوانين في الدول الأعضاء. وفي أماكن معينة في العالم، يوجد مجلسان للبرلمان، بهدف خلق التوازنات، ففي بريطانيا يعمل مجلس اللوردات إلى جانب البرلمان. وفي الولايات المتحدة الأميركية يعمل مجلس الشيوخ إلى جانب الكونغرس.

ويقول باوم: أما في إسرائيل، فإن الكنيست واقع تحت سيطرة مطلقة من الحكومة والائتلاف. فقد وعد يائير لبيد من كتلة "أزرق أبيض" أن يكون "معارضة محاربة"، إلا أن قدرة المعارضة على منع سن قوانين يريدها الائتلاف أقرب إلى الصفر. وفي ظل غياب كوابح أخرى، فإن المحكمة العليا هي ليست فقط الحصن الأخير لحقوق الإنسان في إسرائيل، بل الحصن الوحيد لحقوق الإنسان في كل شبكة السلطات الرسمية.

ويختم باوم كاتبا أنه في الولاية البرلمانية الجديدة سيقيم نتنياهو واحدا من أقوى الائتلافات الحاكمة، التي تعكس نتائج الانتخابات، وفيها فاز بشكل واضح بغالبية ذات توجهات يمينية دينية متزمتة. وكلما تعاظمت قوة الحكومة، زاد الخوف من استخدام هذه القوة بشكل سيء لقمع الأقلية. ولهذا فإن التعديل القانوني المقترح لربما له ما يبرره، بهدف خلق التوازن بين الهيئة التشريعية والهيئة القضائية، لكن المرحلة الحالية ليست مناسبة لأمر كهذا، بل هي مرحلة تحتاج إلى زيادة الرقابة القضائية من المحكمة العليا، ومنحها صلاحيات تشجعها على إلغاء قوانين تمس بحقوق الإنسان.