تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 637
  • عبد القادر بدوي

في مقطع مصور قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن الولايات المتحدة تحجب المساعدات العسكرية، وقد عبّر عن ذلك بالقول: "توجهنا على مدى أسابيع إلى الإدارة الأميركية مرة تلو الأخرى وفي الغرف المغلقة لتزويدنا بالأسلحة لكن شيئاً لم يتغير {...} ما وصل في نهاية المطاف أمور صغيرة لكن الكتلة الأكبر من الأسلحة لم تصل". على وقع تصريحات نتنياهو هذه، ألغى البيت الأبيض اجتماعا أميركيا- إسرائيليا رفيع المستوى بشأن إيران كان من المقرر عقده يوم الخميس 20 حزيران. أدّت تصريحات نتنياهو هذه إلى جملة من الردود الإسرائيلية الناقدة لنتنياهو والتي وصفت تصريحاته بـ "هستيرية لا داعي لها" وأنها تتسبّب بضرر كبير للعلاقات بين إسرائيل وحليفتها الاستراتيجية، الأمر الذي جعل هذه القضية عنواناً للتوتر في العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، يُضاف للتوتر القائم حول قضايا مختلفة مرتبطة بإدارة حرب الإبادة على قطاع غزة.

تساهم المساعدات العسكرية التي تقدّمها الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل بشكلٍ حاسم في "ضمان أمن إسرائيل" منذ عقود طويلة، وعلى الرغم من أن الأخيرة قد استطاعت التخلّي عن المساعدات الاقتصادية، إلّا أنها ما تزال تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات العسكرية والتسليح، وهو الأمر الذي انكشف خلال الحروب الإسرائيلية ضد الدول العربية والفلسطينيين في العقود التي تلت الاحتلال الإسرائيلي لما تبقّى من الأرض الفلسطينية وبعض الأراضي العربية في الرابع من حزيران 1967. في المقابل، برزت خلال حرب الإبادة على قطاع غزة أصوات إسرائيلية تدعو لتخفيف الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة في هذا المجال، وضرورة أن توقف إسرائيل اعتمادها المفرط عليها نظراً لتحول هذا الدعم إلى أداة للضغط السياسي تمارسه الولايات المتحدة على إسرائيل في كثير من الأحيان بحسب قولهم.

 منذ هجوم 7 أكتوبر واندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، برز دور الولايات المتحدة الكبير في مجال تسليح إسرائيل وتقديم الدعم العسكري لها، بشكلٍ حاسم وواضح، وقد تعزّز هذا الاعتماد في التصدّي الأميركي لهجوم المسيرات والصواريخ الإيرانية مساء الرابع عشر من نيسان الماضي، وهو ما أظهر بشكل لا يدع مجالاً للشكّ الاعتماد الإسرائيلي الكبير على حليفتها الاستراتيجية في الأسلحة والمعدات العسكرية الدفاعية والهجومية. وعلى الرغم من أن هذا الأمر ما يزال يُكسب إسرائيل "ميزة" و"تفوقاً" كبيرين في المنطقة، إلّا أن هناك في إسرائيل من بات ينظر لهذا الدعم، وتحديداً في تيارات اليمين، على أنه أداة ضغط أميركية على إسرائيل من أجل قبول بعض المطالب المرتبطة بالطريقة التي تُدار فيها الحرب، لا الحرب ذاتها، وهو الأمر الذي أفرز ما يشبه الخلاف، على المستوى العلني، بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، لا سيما تيارات اليمين فيها، مع تصاعد الخشية الدولية من إقدام إسرائيل على توجيه ضربة عسكرية لحزب الله في لبنان قد تقود إلى حرب شاملة على الجبهة الشمالية.

ورقة تقدير الموقف هذه تحاول رصد تاريخ المساعدات العسكرية لإسرائيل، وأبرز المحطات التي مرّ بها هذا الموضوع بتحولات كبيرة، وذلك في إطار مسعى تحليل مضمون وأبعاد هذه القضية التي باتت عنواناً خلافياً في الصحف والنشرات الإخبارية، وتنبّؤ السيناريوهات المتوقعة على وقع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصاعد الخشية من حرب مفتوحة مع حزب الله.

 المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل: لمحة تاريخية

لعبت المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية المقدّمة لإسرائيل دوراً كبيراً في بناء دولة إسرائيل وأمنها منذ العام 1948، وقدّمت مئات ملايين الدولارات على شكل مساعدات اقتصادية في البداية، أُضيفت إليها لاحقاً مساعدات وقروض عسكرية في نهاية خمسينيات القرن الماضي. وقد حافظت إسرائيل والولايات المتحدة على علاقات ثنائية قوية جداً بُنيت على العديد من الأسس وفي مقدّمتها الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي القوي لإسرائيل والحفاظ على أمنها، وتجسّدت هذه العلاقة في إقامة تحالف قوي بينهما تبعاً للأهداف الاستراتيجية المشتركة في الشرق الأوسط، والالتزام المتبادل المعلن بـ "القيم" والعلاقات التاريخية التي تعود إلى دعم الولايات المتحدة لإقامة دولة إسرائيل كثاني دولة بعد الاتحاد السوفياتي في العام 1948، وقد شكّلت المساعدات الخارجية الأميركية مكوناً رئيساً في ترسيخ وتعزيز هذه العلاقات منذ ذلك الحين، حيث بات ينظر العديد من المسؤولين والمشرعين الأميركيين إلى إسرائيل بوصفها حليفاً وشريكاً حيوياً في الشرق الأوسط، وهو ما انعكس في الدعم السياسي على المستوى الدولي، وفي حزم المساعدات الأميركية الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل.

تُشير المعطيات إلى أن الولايات المتحدة قدّمت لإسرائيل منذ العام 1949 وحتى العام 1958 قرابة نصف مليار دولار (أكثر من 500 مليون دولار) على شكل مساعدات اقتصادية، قبل أن تبدأ بتزويد إسرائيل بالأسلحة والمساعدات العسكرية التي أخذت شكل القروض أحياناً، وشكل المساعدات غير المستردة أحياناً أخرى، وقد بدأت هذه المساعدات بالازدياد، بشكلٍ لافت، في أعقاب التصور الأميركي للإنجاز الإسرائيلي العسكري الذي حقّقته في "حرب الأيام الستة" في حزيران 1967 لتتحول الولايات المتحدة إلى الدولة الأولى من حيث الدعم العسكري الخارجي بالنسبة لإسرائيل.

منذ حرب 1973، تم تقديم المساعدات الأمنية الأميركية لإسرائيل بكميات كبيرة، كجزء لا يتجزأ من العلاقة المتنامية بين البلدين. لا تقدم المساعدات الأميركية لأسباب التعاطف أو اعتبارات "الأخذ والعطاء" قصيرة الأمد، بل كجزء من شراكة استراتيجية طويلة الأمد، تستند بشكل أساس إلى رغبة الولايات المتحدة بتعزيز قوة حليفتها في المنطقة، وهو ما يظهر أيضاً في الدعم غير المسبوق الذي تحصل عليه إسرائيل على المستوى السياسي الدولي، والداخلي في الولايات المتحدة وكذلك في الكونغرس، ويتم إخراج ذلك في إطار التعامل مع التهديدات المشتركة مثل "الإرهاب" والأسلحة غير التقليدية والهجمات السيبرانية والخطر الإيراني.

تُعد إسرائيل أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد زودت الإدارات الأميركية المتعاقبة بالتعاون مع الكونغرس إسرائيل بكافة المساعدات التي ساهمت في ضمان أمن إسرائيل منذ العام 1948. وحتى حرب الإبادة الدائرة في قطاع غزة قدّمت الولايات المتحدة أكثر من 158 مليار دولار على شكل مساعدات اقتصادية، ومساعدات عسكرية، وتمويل لمشاريع الدفاع الصاروخي، كما هو مبين في الجدول رقم (1) أدناه.

12

الجدول (1): حجم المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل بين 1946-2023 (بملايين الدولارات)

تتمحور فكرة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل بالنسبة للطرفين حول هدف الحفاظ على «التفوق العسكري النوعي» لإسرائيل على الدول المجاورة لها، أو ما يُعرف في الأدبيات الأميركية بتصورQME المستقى من مرحلة الحرب الباردة. بموجب هذا التصور، يجب أن تمتلك إسرائيل أفضل معدات وتدريب للتعويض عن كونها أصغر جغرافياً وديمغرافياً (المساحة والسكّان) من معظم أعدائها المحتملين، وقد التزمت الإدارات الأميركية وفقاً لهذا التصور بالحفاظ على امتلاك إسرائيل لمعدات وصناعات أفضل منها بكثير (على سبيل المثال قامت الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بطائرات مروحية من طراز أباتشي وبلاك هوك وبعض المعدات الدفاعية الأميركية التي يُمكن لإسرائيل استخدامها بموافقة الأولى في العام 1992 وذلك بعد أن قامت الولايات المتحدة ببيع طائرات من نوع F-15  للسعودية). في العام 2008، حدّد الكونغرس الأميركي مفهوم QME بالنسبة لإسرائيل على النحو التالي:

"قدرة إسرائيل على مقاومة وهزيمة أي تهديد عسكري تقليدي من قبل أي بلد بمفرده، أو تحالف محتمل من الجهات الفاعلة غير الحكومية، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الخسائر والأضرار، باستخدام وسائل عسكرية متفوقة يمكن العثور عليها بكميات كافية - بما في ذلك الأسلحة والقيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات، قدرات التتبع وجمع البيانات، التي تتفوق تقنيا على قدرات بلد واحد، أو التحالفات المحتملة للدول أو الجهات الفاعلة غير الحكومية".

عهد بايدن- نتنياهو: القفزة الكبيرة في المساعدات العسكرية الأميركية

منذ العام 1999، بدأت المساعدات العسكرية تأخذ شكل مساعدات ثنائية ومذكرات تفاهم بين البلدين، حيث كانت أول مذكرة تفاهم تم الاتفاق عليها في ظل إدارة بيل كلينتون ولمدة 10 سنوات (FY1999-FY2008) حملت اسم «اتفاق مسار الانزلاق» وقد تضمنّت هذه الاتفاقية التزاماً سياسياً أميركياً بتزويد إسرائيل بما لا يقل عن 26.7 مليار دولار من إجمالي المساعدات الاقتصادية والعسكرية (منها 21.3 مليار دولار مساعدات عسكرية)، وقد شكّلت مذكرة التفاهم هذه بداية التخلص الإسرائيلي التدريجي من جميع المساعدات الاقتصادية غير العسكرية. وفي العام 2007، وافقت إدارة بوش والحكومة الإسرائيلية على مذكرة تفاهم ثانية تتكون من حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 30 مليار دولار لفترة 10 سنوات من (FY2009- FY2018) بموجب شروط تلك الاتفاقية.

مع عودة نتنياهو إلى الحكم للمرة الثانية في العام 2009، ومع وصول الإدارة الديمقراطية الجديدة البيت الأبيض برئاسة باراك أوباما، شهدت المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل قفزة ملحوظة، تمثّل ذلك في توقيع الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية في العام 2016 مذكرة التفاهم الثالثة التي تمتد لعشر سنوات أخرى (FY2019-FY2028)، وقد نصّت المذكرة على زيادة حجم المساعدات العسكرية لإسرائيل لتصل إلى 38 مليار دولار من المساعدات العسكرية (33 مليار دولار في شكل منح FMF، بالإضافة إلى 5 مليارات دولار للمشاريع الدفاعية المخصصة لبرامج الدفاع الصاروخية) لإسرائيل. جدير الذكر أنه حتى توقيع مذكرة التفاهم الثالثة، لم تكن الولايات المتحدة تحدّد لإسرائيل كيف تتصرف في المساعدات العسكرية المالية (تشتري بها من شركات أميركية وإسرائيلية) لكن مذكرة التفاهم الثالثة اشترطت فيها الإدارة الأميركية أن تصرف هذه المساعدات للشراء من الشركات الأميركية فقط، بالتالي، تراجعت استفادة شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية من المعونة الأميركية لكنها بقيت مستفيدة من أمور أخرى. وعلى الرغم من أن العلاقات بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو مرّت في محطّات توتر حقيقية في أعقاب توقيع الاتفاق النووي الإيراني وخطاب نتنياهو في الكونغرس، إلّا أن شيئاً لم يمس مذكرة التفاهم هذه، والعلاقة بين المستويين العسكري- الأمني بينهما.

13

الجدول (2): المساعدات العسكرية لإسرائيل وفق مذكرتي التفاهم الثانية والثالثة (2009-2028)

 

7 أكتوبر: محطة جديدة في تاريخ الدعم العسكري لإسرائيل

يُمكن القول إن هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 شكّل محطّة جديدة في تاريخ العلاقة الإسرائيلية- الأميركية على كافة المستويات. من الناحية السياسية، أظهرت الولايات المتحدة دعماً غير مسبوق لإسرائيل من حيث التبنّي الكامل للرواية الإسرائيلية، ومنحها ضوءاً أخضر لمهاجمة قطاع غزة، كما تبنّت الإدارة الأميركية أهداف الحرب الإسرائيلية وشارك كبار مسؤوليها في الاجتماعات الإسرائيلية على مستوى الحكومة، والكابينيت الحربي (قبل تفكيكه) في خطوة غير مسبوقة في إطار العلاقات بين الدول. من الناحية العسكرية، اتخذت الإدارة الأميركية عدّة قرارات وخطوات كان من أهمها زيادة الدعم العسكري وفتح مخازن الأسلحة والصواريخ الأميركية للجيش الإسرائيلي في إطار تجنّد الإدارة الأميركية الكامل في هذه الحرب إلى جانب إسرائيل.

وفي إطار هذا الدعم، صادق مجلس الشيوخ وكذلك النواب على قرار إدارة جو بايدن تقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار (منها 14 مليار دولار للشراءات الأمنية، 9.2 مليار مساعدات إنسانية)، وتُشير التقارير إلى أن هذا المبلغ يتم تقديمه لإسرائيل على شكل أموال، وكذلك على شكل وسائل قتالية وتسليح بالذخائر والقنابل. وعلى الرغم من حالة الشراكة الكاملة الإسرائيلية- الأميركية الكاملة في حرب الإبادة على  قطاع غزة، والدعم السياسي والعسكري- الأمني غير المسبوق بينهما منذ العام 1973، أبدى بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية تحفّظات معينة على طريقة إدارة إسرائيل للحرب، وليس على الحرب ذاتها، تمثّل ذلك في إحداث توتر في العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية الحالية وبين الإدارة الأميركية كأحد أبرز إسقاطات التعثّر الإسرائيلي العسكري في قطاع غزة، غياب استراتيجية سياسية للحرب وتصوراً لـ "اليوم التالي" في غزة، وقضية المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، وتنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح، إلى جانب الضغط المتزايد على الإدارة الأميركية نتيجة الاحتجاجات الداخلية وتحديداً في الجامعات الأميركية، وكذلك تحول إسرائيل لدولة منبوذة ترتكب مجازر إبادة جماعية على الصعيد الدولي وما يستتبع ذلك من حملات نزع شرعية، الأمر الذي قد يضع الولايات المتحدة أيضاً في نفس خانة الاتهام بسبب دعمها المُطلق والكبير لإسرائيل وحالة الشراكة الكاملة في الحرب.

هل توقفت المساعدات العسكرية؟ بين حسابات بايدن الانتخابية وحسابات نتنياهو السياسية!

منذ بدء ظهور التباين بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية في الحرب، أشارت العديد من التقارير إلى أن الإدارة الأميركية قد تلجأ إلى الضغط على حكومة نتنياهو من خلال وقف المساعدات العسكرية والتسليح في محاولة لإجباره على القبول بالمطالب الأميركية المرتبطة بطريقة إدارة الحرب ومفاوضات صفقة التبادل، وقد ازداد هذا الأمر حدّة خلال تلويح إسرائيل بتنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح  في نيسان وأيار، وهو الأمر الذي عبّرت الإدارة الأميركية عن معارضته بشكلٍ علني حينها وعلى لسان العديد من المسؤولين فيها وطالبت إسرائيل بالبحث عن بدائل.

صحيح أن الاجتياح الإسرائيلي لرفح، والسيطرة على معبر رفح ومحور فيلادلفيا الحدودي مع مصر بشكلٍ كامل، لم يترتّب عليهما وقف المساعدات العسكرية الأميركية بشكلٍ كامل كما توقعت التقارير، لكن التباين في المواقف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية بدأ يتعمّق في ضوء تعنّت الحكومة الإسرائيلية، وتحديداً تيارات اليمين فيها، في التوصل لاتفاق تهدئة وتبادل للأسرى، وكذلك الامتناع عن مناقشة "اليوم التالي" والتلويح بتوجيه ضربة عسكرية لحزب الله في لبنان، وازداد هذا التباين حدّة في أعقاب انحساب "المعسكر الرسمي" من "كابينيت الحرب" واتهام نتنياهو بإدارة الحرب ضمن حسابات وأهداف سياسية، وهو ما عبّر عنه أيضاً بايدن في أكثر من مرة بالقول إنه لا يستبعد أن تكون لنتنياهو حسابات سياسية في قرارات الحرب. وعلى وقع ذلك، بدأت العديد من أصوات اليمين في إسرائيل بتوجيه اتهامات للإدارة الأميركية بحجب المساعدات العسكرية والامتناع عن إرسال الصواريخ الدقيقة في محاولة للضغط على إسرائيل، في المقابل، خرجت العديد من الأصوات الأميركية المطالبة بفحص احتمالية أن تكون إسرائيل قد أساءت استخدام بعض الأسلحة الأميركية في الحرب تبعاً لمجريات المحاكمة الدولية التي من المتوقع أن يترتّب عليها أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.

وعلى النقيض من التصريحات التي أدلى بها نتنياهو حول حجب الإدارة الأميركية للمساعدات العسكرية، أشار بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية إلى أن الولايات المتحدة قدّمت لإسرائيل مساعدات أمنية وعسكرية بقيمة 6.5 مليار دولار منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر. وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن ما يقرب من نصف المساعدات تم إنفاقها في شهر أيار في ظل مزاعم نتنياهو بأن شحنات الأسلحة من الولايات المتحدة قد تم حجبها، وكذلك أكّدت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن الولايات المتحدة عازمة على إرسال قنابل إلى إسرائيل تأخرت قليلاً بسبب خشيتها من استخدامها في قصف التجمعات السكّانية في غزة، وسط اتهامات لنتنياهو لافتعال أزمة مع الإدارة الأميركية لحسابات داخلية كما أشار عضو "كابينيت الحرب" بيني غانتس متهماً نتنياهو بافتعال "احتكاك لأسباب سياسية مع الإدارة الأميركية لا داعي له ويضر بالعلاقات الاستراتيجية معها"، وأن "نتنياهو يضر بعلاقاتنا مع الولايات المتحدة لأسباب سياسية داخلية ويعرّض احتمال بناء تحالف إقليمي للخطر".

يُشير السلوك الإسرائيلي منذ 10 سنوات تقريباً، وتحديداً منذ الصدام الذي خلقه نتنياهو مع الإدارة الأميركية في خطابه أمام الكونغرس والأزمة المترتبة على توقيع الاتفاق النووي مع إيران، إلى أن العلاقات الإسرائيلية- الأميركية لم تعد واحدة في عهد الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وعلى الرغم من الدعم غير المسبوق الذي قدّمته الإدارة الديمقراطية الحالية، إلّا أن سياسة اليمين الإسرائيلية عموماً، وبنيامين نتنياهو على وجه التحديد، بدأت متباينة في التعامل مع الحزبين لصالح الجمهوريين كما اتضح في عهد الإدارة السابقة (إدارة دونالد ترامب)، وهو الأمر الذي يتم ترجمته في التصريحات الصادرة عن وزراء الحكومة اليمينية الحالية الذين عبّروا في أكثر من مرة عن أن إسرائيل ليست "حديقة خلفية للولايات المتحدة"، وأنها "ليست النجمة رقم 52 في علم الولايات المتحدة"، وكذلك في التصريحات الأخيرة التي أطلقها نتنياهو في مقابلته مع القناة 14 اليمينية بالقول: "علينا زيادة استثمارنا في صناعاتنا العسكرية المحلية للتوقف عن الارتباط بالآخرين" في إشارة إلى الاعتماد الإسرائيلي العسكري على الولايات المتحدة وما يترتّب على ذلك من "إملاءات" على حدّ زعم نتنياهو الذي أشار في اجتماعات مغلقة إلى أنه "دون ضغط علني لن تصل ذخائر أميركية للجيش الإسرائيلي"، مُشيراً إلى أنه "منذ أربعة أشهر بدأ تراجع كبير في تزويدنا بالأسلحة الأميركية".

من ناحية نتنياهو، يُمكن القول إنه لم يعد خفياً على أحد، وتحديداً الإدارة الأميركية أنه يلجأ لافتعال خلافات معها قبيل الانتخابات لحسابات سياسية داخلية، على الرغم من أن الإدارة الحالية قدّمت دعماً غير مسبوقاً لإسرائيل في تاريخ العلاقة بينهما. من ناحية، لا يُمكن الفصل بين هذا الأمر والضغوطات التي تمارسها الإدارة الأميركية على نتنياهو من أجل إبرام صفقة التبادل وعقد تهدئة مؤقتة، والامتناع عن توجيه ضربة عسكرية لحزب الله في لبنان قد تؤدي إلى حرب شاملة في المنطقة، حيث يسعى نتنياهو إلى ابتزاز الإدارة الأميركية ومحاولة مقايضة هذا الخيار الذي تخشاه باستمرار الحرب في قطاع غزة والحصول على هامش زمني أكبر، وذلك في ضوء استمراره بتبنّي استراتيجية "التأخير والغموض"، وعدم اتخاذ قرار في مستقبل الحرب والصفقة وكذلك "اليوم التالي" بوصفه قراراً يضمن له البقاء في السلطة على الرغم من أجواء المعارضة المتصاعدة لهذه الاستراتيجية في إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. من ناحية أخرى، يُعزّز سلوك بنيامين نتنياهو من قوته على الصعيد الداخلي، وتحديداً في أوساط كتلة اليمين التي يسعى لتصليبها أكثر والحفاظ عليها في إطار مساعي تأمين استقرار الائتلاف الحكومي، والترويج لنفسه من خلال الزعم بأن الصفقة التي تدفع باتجاهها الولايات المتحدة تُعد جزءاً من الضغط الدولي الهادف لإنهاء الحرب، وهو ما يعني "القبول بالهزيمة" وعدم "تحقيق النصر المطلق"، وأن هذه الضغوطات لن يتمكّن من مواجهتها إلّا بنيامين نتنياهو.

من ناحية الإدارة الأميركية، لا يبدو أن هناك توجهاً لديها لوقف المساعدات العسكرية عن إسرائيل، حتى وإن تأخرت بعض الشحنات العسكرية وفقاً للتقارير الأميركية، ويتعزّز ذلك مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الداخلي وخشية الديمقراطيين من تأثير ذلك على مسار الانتخابات في أعقاب تراجع الديمقراطيين المرتبط بشكل أساس بتفاعلات الحرب على غزة. من ناحية أخرى، تبدو الحسابات الأميركية بهذا الخصوص مرتبطة بشكلٍ رئيس بالتباينات في الموقف بينها وبين إسرائيل في طريقة إدارة الحرب، وهو ما يعني أن أي ضغوطات أميركية على إسرائيل في هذا الخصوص، تأتي ضمن مساعي دفع إسرائيل للانتقال إلى مرحلة القتال المنخفض، أو "المرحلة الثالثة"، وهو ما ينعكس بالنسبة لها في تراجع حدّة الانتقادات الدولية والداخلية للحرب، وما لذلك من تأثير إيجابي مُنتظر في مسار الانتخابات. من ناحية ثالثة، يبدو أن ملف المساعدات العسكرية لإسرائيل ورقة حاسمة في الضغط على إسرائيل من أجل ثنيها عن توسيع رقعة المواجهة لتشمل لبنان وقد تؤدي إلى حرب شاملة تتورّط فيها الإدارة الأميركية وهي لا تريدها في هذا الوقت تحديداً، وللعديد من الأسباب.

*  القروض والمنح الأميركية المقدّمة لإسرائيل (Greenbook)، وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الدفاع الصاروخي.

* لا تشمل أرقام Greenbook تمويل الدفاع الصاروخي المقدم من وزارة الدفاع. وفقاً لخدمات بيانات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية اعتباراً من يكانون الثاني 2023، بالدولار الأميركي 2021 (المعدل حسب التضخم)، يقدر إجمالي المساعدات الأميركية لإسرائيل الملتزمة من 1946 إلى 2023 بنحو 260 مليار دولار.

المصطلحات المستخدمة:

باراك, هوك, دورا, الكتلة, بنيامين نتنياهو