المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تتبنى أوساط سياسية كثيرة، ولا سيما في المعارضة الإسرائيلية، فكرة مؤداها أن سبب رسوخ السياسة العامة، التي تنتهجها إسرائيل حيال القضية الفلسطينية، يعود أساساً إلى هيمنة اليمين على مؤسّستها السياسيّة.

وفي هذا السياق يُشار كذلك إلى كون هذه الهيمنة ليست عابرة، فضلاً عن أنها تمتد على مدار أغلبية أعوام وجود إسرائيل، وتعزّزت في العام 1977 مع صعود حزب الليكود إلى سدّة الحكم. كما أنه داخل تلك الفكرة العامة يمكن العثور على تفاصيل خاصة مهمّة، منها أن الهيمنة استحالت في الوقت الراهن إلى نفوذ ما نطلق عليه توصيف اليمين الإسرائيلي الجديد، الذي سبق أن نوّهنا هنا، مرات عديدة، بكونه يدمج بين تصورات قوموية مقطوعة عن مقاربات ذات طابع ليبرالي رفع رايتها اليمين التقليدي، وبالأساس فيما يخص الشأن المدني، وبين توجهات دينية ترى في الدين جزءاً لا يتجزأ من منظومة فكره. وقد أمسى واضحاً أكثر فأكثر أن هذا اليمين الجديد يعمل على ضم الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وعلى الصعيد الداخليّ يكره دولة الرفاه وحركة الاحتجاج الاجتماعي التي قامت من أجل تحسينها قبل 7 أعوام، ويسعى لاستيراد الأفكار المحافظة الأميركية وتطبيقها. كما يعمل على تقويض إنجازات ليبرالية، في طليعتها إنجازات لها طابع دستوري وغيرها. وهو يبني نفسه ليس كبديل لـ"الوسط - اليسار" فحسب، بل أيضاً لليمين القديم، الذي رأى في المحكمة العليا مثلاً سلطة مرجعيّة يجب أخذ آرائها في الاعتبار.

وقد تنطوي هذه الفكرة على قدر ما من صحة التشخيص والاستحصال على حدّ سواء، لكن تقف بموازاتها فكرة أخرى لا تقل صحّة عنها، مؤداها أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية لا تجد لنفسها فكاكاً من تلك الهيمنة اليمينيّة أيضاً من جرّاء تبدُّد البديل الجادّ، الذي يمكن أن يُحسب على يسار الخارطة الحزبية، وفقاً للمعايير الإسرائيلية، بالارتباط مع قضية فلسطين.
ويتأكد يوماً بعد يوم، مع الاقتراب من انتخابات الكنيست الـ21، التي ستجري يوم 9 نيسان المقبل، أنه من ناحية عملية لم يعد هناك اليوم في المشهد السياسي الإسرائيلي شيء اسمه "يسار". فهذا المشهد يحتوي مكوناً يمينياً مهماً، ومكوناً وسطياً يفتقر في جوهره إلى إيديولوجيا أو رؤية معينة، ومكوناً هزيلاً يسمي نفسه يساراً، لا توجد بينه وبين مصطلح "يسار" أي صلة أو علاقة.

ويمكن القول إن هناك مجموعات صغيرة للغاية ومبعثرة يجوز اعتبارها يساراً، وهي على سبيل المثال: بقايا من حزب ميرتس، و"كتلة السلام" (غوش شالوم) [برئاسة الصحافي الإسرائيلي الراحل أوري أفنيري]، والفوضويون.

ومن ناحية اقتصادية معروف أن الاشتراكية الديمقراطية في إسرائيل جاءت من الأعلى، وفُرضت من جانب اتحاد نقابات العمال العامة (الهستدروت العمالية)، الذي كان بمثابة صاحب العمل الأكبر في الدولة، وفرض هيمنته السياسية عليها أيضاً. وقد تلقى اليسار الاقتصادي الإسرائيلي الضربة القاضية لا من اليمين، وإنما من قادة "اليسار"، أمثال شمعون بيريس وإلى حدّ ما ديفيد بن غوريون.

فضلاً عن ذلك، هناك من يعتقد أن اليسار الإسرائيلي لم يكن حركة اجتماعية أصيلة، وإنما كان "معسكر سلام". لكن حتى "معسكر السلام" هذا لم يعد قائماً في إسرائيل في الوقت الحالي. والذي قضى على هذا المعسكر لم يكن يغئال عمير (الذي اغتال رئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين)، وإنما إيهود باراك (رئيس الحكومة الأسبق والرئيس السابق لحزب العمل)، الذي أعلن (في إثر قمة كامب ديفيد في العام 2000) أنه "لا يوجد شريك فلسطيني للسلام".

وعلى صلة بهذا هناك من يعتقد أنه في العام 1992 لاحت، في الظاهر، فرصة لـ"معسكر السلام" تمثلت في شخص رابين، الذي نجح في تحقيق فوز حاسم في الانتخابات التي جرت في ذلك العام. لكن رابين لم يكن رجل يسار في أي سياق، لا في السياق الاقتصادي- الاجتماعي، ولا في السياق السياسي، على الرغم من اتفاق المبادئ الذي صنعه في أوسلو. كذلك هي الحال بالنسبة لإيهود باراك.

وثمة من بين الباحثين العرب من يعتقد أن إسرائيل بدأت في العام 1948 كدولة علمانيّة ذات ميول اشتراكيّة، لكن هؤلاء يؤكدون في الوقت عينه أنه في الزمن الراهن أمست خاضعة- كدولة وكمجتمع- لخطاب دينيّ أصوليّ من ناحية، ولسياسة نيو- ليبراليّة رأسماليّة متوحّشة من ناحية أُخرى، يقف من ورائها يمين جديد. ومن الحقّ أن يُشار، في هذا النطاق، إلى اجتهاد بعض هؤلاء الباحثين لناحية التشديد على أنّه لا يمكن فهم هذا اليمين الإسرائيلي الجديد من دون مراقبة مسار علاقة الصهيونية بالدين، ومسار علاقتها بالسوق الذي انتهى إلى حرية سوق غير مضبوطة، ومسار علاقتها بالحريات السياسية الذي انكفأ نحو المربع الإثني. ولئن كان ما حدّد التمايز بين اليمين واليسار سياسياً تركز بالموقف من الفلسطينيين، فإن ما يحدث حالياً هو استطاعة اليمين الجديد أن يكرّس في مواجهة اليسار استحالة فكرة التقسيم، داعياً إلى إدارة الصراع باعتباره غير قابل للحلّ. وفيما يختص بعلاقات الصهيونية مع الدين، فقد انتهى استخدامها للدين كأداة سياسية عبر علمنة الأسطورة الدينية، إلى محاولات الدين تقديم الصهيونية باعتبارها مرحلة تاريخية تندرج في إطار الإرادة الإلهية لتحقيق اليهودية، وبرأينا ما كان من الممكن أن يؤول الأمر سوى إلى هكذا نهاية محقّقة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات