المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قالت تحليلات إسرائيلية كثيرة إن قيام المذيع الإسرائيلي المعروف يارون لندن بوصف المواطنين العرب الفلسطينيين في اسرائيل بأنهم مجموعة من المتوّحشين، أو وحوش بشرية، لا يجسّد كل المسألة أو المشكلة، فهي ليست مسألة صحافي فرد في تعامله مع مليون مواطن بل مشكلة صحافة بأكملها، مشكلة مؤسسة، ثقافة سياسية وإعلامية، جزء من بنية كاملة.

هذا الصحافي المعروف الذي يقدم اليوم برنامج "غئولا ولندن" عبر سلطة البث الاسرائيلية الرسمية "كان"، باللغة العبرية، قام لاحقاً أو اضطر للاعتذار، بعد توجهات وشكاوى كثيرة وصلت إلى سلطة البث. وقال في اعتذاره: "الكثيرون، بالأخص من مشاهدينا العرب، شعروا بالإهانة من أقوالي في برنامج الأمس. في ساعات الليل أصغيت لتسجيل البرنامج واتضح لي أنه زلّ لساني، تحدثت بشكل غير لائق وبالتالي فهم محقون بالشعور بالإهانة، ولذلك أعتذر".

تصريح لندن المغموس من رأسه إلى أساسه بإرث كولونيالي آسن، جاء خلال تعليقه على مسلسل تلفزيوني إسرائيلي تناول جريمة قتل الفتى المقدسي الفلسطيني محمد أبو خضير حرقاً. هذا الصحافي كان بين إسرائيليين كثيرين أزعجهم، بهذا الشكل أو ذاك، ما رأوا فيه انحيازاً لجهة الفلسطيني في القصة، وانتقاصا من أفعال هذا الأخير البشعة وفقا لسرديتهم. هنا قال لندن: "العرب متوّحشون. لا يكرهون اليهود فحسب بل هم يقتلون أنفسهم أولاً وقبل كل شيء، في اليمين، في اليسار، في الشرق، في الغرب، العرب يذبحون العرب. لا مشكلة لدي مع ذلك. لم أتحدث عن الفلسطينيين، تحدثت عن الثقافة العربية".

الصحافي الذي يشتهر بحدّة خطابه، وبدرجات جدية من الخروج عن المألوف والتغريد، أو النعيق أحيانا، خارج هذا السرب أو ذاك، حاول تبرير تلك المقولة المكتوبة بمفردات التوحّش بقوله إن النقاش دار حول سبب اهتمام معدي المسلسل المذكور بمصير الشاب العربي محمد أبو خضير ضحية الاعتداء الهمجي في حي شعفاط المقدسي عام 2014 والذي اختطف وأحرق من قبل متطرفين يهود. وتابع أن معدي البرنامج اهتموا بقتلة هذا الشاب اليهود، أكثر من الفلسطينيين الذين قتلوا المستوطنين الثلاثة اليهود. وحاول تبرير مقولته بالادعاء أن "اليهودي لا يتفاجأ إذا ما قتل عربي يهودياً، بينما بالنسبة لرؤيته لنفسه كابن شعب راق من ناحية أخلاقية، فهو يستصعب أن يتقبل الحقيقة أن يخرج قاتل من بين أبناء شعبه". واعتبر لندن أنه لم يقصد العرب أفراداً في كلامه، بل لتصرف المجتمعات العربية في الدول المجاورة، معتبراً أنه لن يتراجع عن هذا التصريح، لكنه اعترف أن أقواله جاءت في إطار سجال حاد.

"لندن وتسيبر ينشران الأكاذيب أكثر مما هما عنصريان"

تعرّض لندن في إثر ذلك لانتقادات من قبل بعض زملائه المذيعين الإسرائيليين. فقد وصف المذيع أمنون ليفي أقوال لندن بأنها غير لائقة البتة. والأنكى منها كان رد هيئة البث الاسرائيلية ومفاده: "في البث المباشر قد يزل لسانك وتقول أشياء غير لائقة". والتي جاء في تعقيبها إننا إزاء "مقولة سيئة من قبل شخص مستفز طاعن بالسن وليس من شخصية مثقفة تحظى باحترام، ونتوقع من السيد لندن الاعتذار على هذه المقولة حتى منتصف ليل الغد". ليفي اعتبر أن تعقيب هيئة البث سيء لأنه يطالب لندن بالاعتذار بشكل فاضح ويذكر سنه الكبير ويحدد له مهلة للاعتذار. "ماذا يمر عليكم؟" تساءل.

هيئة البث الاسرائيلية قبلت اعتذار لندن معلنةً أنه "لا مكان في البث العام لتصريحات من هذا النوع" داعية الجماهير لمشاهدة بثها.

أحد الذين مكثوا في ستوديو التلفزيون عندما أطلق لندن تصريحه العنصري، كان الصحافي النقدي الجريء غدعون ليفي. وقد قال إنه لم يُتح له التعقيب أو مناقشة لندن، لكنه كتب لاحقاً رداً واسعاً من خلال مقال نشرته "هآرتس". وهو يتحدى لندن وصحافيا آخر، هو بيني تسيبر، المحرر الأدبي في هذه الصحيفة التي يعمل فيها ليفي أيضاً. وقد خاطبهما بالقول: ليعلم لندن وتسيبر أن إسرائيل قاتلة أكثر بـ 18 ضعفا. وتابع: هكذا كتب قبل أسبوعين محرر ملحق "ثقافة وأدب" في صحيفة "هآرتس" بيني تسيبر، على صفحته في الفيسبوك بعد عودته من زيارة عزاء في مستوطنة عوفرا: "في طريقي نظرت إلى القرى الفلسطينية وإلى جانبها المستوطنات اليهودية، وفكرت بأن القتل لدى الفلسطينيين هو نوع من الرياضة أو المتعة، وربما أيضا بديل عن الجنس. من هذه الناحية لن يكون لنا في أي يوم عامل ثقافي مشترك.. لهذا الشعب السيء، عديم الشرف، الذي يعيش بين ظهرانينا يجب أن نتمنى له فقط أن تلفظه الأرض. لأنه لا يستحق هذه الأرض المليئة بالدماء اليهودية التي سفكها".

يقول ليفي إن هذا المنشور الغارق في العنصرية مر بهدوء. ويسخر منه قائلا: يبدو أن تسيبر استنفد حصة الاهتمام به. لكن في المقابل، يضيف، نجح يارون لندن في اثارة عاصفة أكبر بسبب أقواله الأقل خطورة: "العرب هم متوحشون... هم لا يكرهون فقط اليهود، بل هم يقتلون أنفسهم في المقام الأول". وهو يتوقف عند نقطة شديدة الأهمية: كلاهما اعتبرا ذات يوم يساريين، في نظر اليمين الجامح، لندن يعتبر هكذا أيضا حتى اليوم. كلاهما موهوبان على نحو متميز، مثقفان لامعان، واسعا الاطلاع. لكنه يضيف: إن لندن وتسيبر ينشران الأكاذيب أكثر مما هما عنصريان.

أرقام القتل تعكس الصورة وتقلب المزاعم

ليفي يسترجع ما حدث، ويقول: لقد جلست في ستوديو لندن في الوقت الذي قال فيه هذه الأقوال. وقد حاولت الرد عليه اثناء ذلك، ولكن بلا فائدة. انظروا إلى العقد الأخير: الفلسطينيون هواة القتل، قتلوا منذ كانون الثاني 2009 حوالي 190 إسرائيليا. وكم قتلت إسرائيل المحبة للسلام والخير، والتي لن يكون لها في أي يوم قاسم ثقافي مشترك مع العرب؟ حوالي 3500 فلسطيني. إسرائيل أكثر قتلا بـ 18 ضعفا. رياضة؟ متعة جنسية؟ بالتأكيد لا. ولكن الدماء هي التي تتكلم: إسرائيل تستمد الكثير من الموت من الفلسطينيين.

ويتابع: هل مسموح لنا القول بأن الثقافة الإسرائيلية هي التي تسفك الدماء بالجملة؟ حسب اقوال لندن، نعم. وهو محق. هناك ثقافة الشعب وهناك ثقافة القتل. فقط عندما نتحدث عن مزايا تولد مع الإنسان نتحدث عن عنصرية. من المسموح أيضا التعميم، مثلما قال لندن. ولكن يجب عليه أن يرتكز على الواقع؛ والواقع هو أن البيض المتنورين قتلوا في المئة سنة الأخيرة أكثر مما قتل جميع المسلمين والمتوحشين. ليس فقط أن هتلر وستالين لم يكونا مسلمين، وإنما الولايات المتحدة الحرة أيضا متهمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالقتل أكثر من جميع الدول الأخرى. ومعظم مرتكبي جرائم القتل الجماعي لديها، هم من غير المسلمين بشكل قاطع.

ليفي يشدد على أنه إذا كانت هناك ثقافة قتل فهي بالتحديد في إسرائيل. الجنود ورجال الشرطة الذين يطلقون النار من أجل القتل كخيار أول يؤشرون إلى أخلاق مريضة. الخوف والكراهية ووحشية وعبادة الأمن وعدم الإنسانية واليد السريعة على الزناد، هي خصائص الثقافة الإسرائيلية التي تؤدي إلى سفك الدم الجماعي هذا. ولكن الويل لمن يتجرأ على اعتبار إسرائيل دولة لديها ثقافة القتل. فسيوصم باللاسامية. في المقابل، الشعب الفلسطيني هو أحد الشعوب المنضبطة في التاريخ بمعارضته العنيفة للاحتلال والظلم. هذه هي الحقيقة ولا يوجد شيء غيرها. لكن إسرائيل تحب بالتحديد التعميم الثقافي والقومي، بالأساس عندما تقوم بتضخيم صورتها: العبقرية اليهودية، الشعب المختار، الأخلاق اليهودية، أبدية إسرائيل، كل ذلك يدل على التعالي الذي لا أساس له.

ويختتم: من حق تسيبر الاعتقاد بأن الفلسطينيين يستمتعون بالقتل، ولندن مسموح له الاعتقاد أن الفلسطينيين متوحشون بالنسبة لنا. ولكن من حقنا وواجبنا الرد عليهم والقول: ليس هناك أكاذيب بغيضة أكثر من هذا.

تبريرات من جهة صحافيين يمينيين – "لا مكان للاعتذار"!

أما الصحافي اليميني المعروف يعقوب أحيمئير، الذي لا يخفي مواقفه ولا انتماءه الأيديولوجي، فرأى في مقال نشره في جريدة "معاريف" أنه لا مكان ولا مبرر لتقديم اعتذار حين يعبر الصحافي، أو غيره، عن مشاعره. ويقول إن يارون لندن هو فقط الاخير في قائمة المعتذرين الطويلة، وهؤلاء يتزايدون فقط. أنا أيضاً، مثل الكثيرين، لم افهم على ماذا ولماذا اعتذر لندن لوصفه العرب بأنهم "وحوش". يتطابق اعتذاره، وكذا اعتذار الكثيرين الآخرين، مع قول بنجامين ديزرائيلي، السياسي البريطاني المحبوب: "لا تعتذر ابدا عن التعبير عن مشاعرك. عندما تفعل هذا، فإنك تعتذر عن الحقيقة".

ويتابع أن لندن قد أعرب عن اعتذار غير قابل للتفسير، على الأقل في نظره. فهل عقب ذلك أعفى نفسه من خطوة انضباطية يتخذها بحقه مدراء قناة كان 11؟ أنا اشتغل في هذه القناة. لست محاورا قريبا له، حتى بعد عشرات سنوات التعارف. ولكني أتجرأ على التخمين بأن لندن في عمق قلبه، يقف خلف أقواله. حقا، هل لهذه الدرجة يمكن للمرء أن يتنكر للواقع؟ هل لم تعد عيناه تريان؟ فالإعراب عن الاعتذار، من جانبه أو من جانب آخرين "وقعوا في الخطيئة" لتجاوزهم قواعد اللياقة السياسية، لا يمكنه أن يطمس الواقع، على حد قوله.

 

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات