من المسؤول عن نكبة 1948 في إحدى نتائجها الكارثية المركزية المتمثلة في تشريد مئات آلاف الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم وتحويلهم إلى لاجئين، في خارج الوطن أو في داخله؟.
يخوض المؤرخ الإسرائيلي هليل كوهن غمار محاولة جديدة لمقاربة هذا السؤال بكونه أحد الأسئلة الرئيسة المترتبة على الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية بشأن "حرب 1948" والمتوالدة منهما، مؤسِّساً على القول إنه على الرغم من الهوة السحيقة بين هاتين الروايتين، إلا إنهما "لا تناقض إحداهما الأخرى، بل تكملان بعضهما بعضاً"، ومشدداً على أنه برغم أهمية الأبحاث التاريخية التي درست ظروف وملابسات الرحيل والتشرد الفلسطينيين إبان "حرب 1948"، إلا إن مسألة / مأساة اللجوء الفلسطينية "لم تنشأ نتيجة اقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم ـ سواء جرى ذلك بالقوة أو بدافع الخوف أو استجابة لنداءات قيادات عربية ـ وإنما جرّاء منعهم من العودة إلى بيوتهم"!
وتأتي محاولة كوهن هذه ضمن مقالة جديدة تحت عنوان "حربا 1948" نُشرت في العدد الأخير (آب 2018) من مجلة "هذا الزمن" (هزمان هزيه) الرقمية الجديدة التي تصدر عن "معهد فان لير" في القدس، وتُعنى بالقضايا الفكرية والجدل الجماهيري العام.
وهليل كوهن هو أستاذ الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في "الجامعة العبرية" في القدس، ومتخصص في العلاقات المتبادلة بين المجتمع الفلسطيني والحركة الصهيونية وإسرائيل، ومؤلف عدد من الكتب حول تاريخ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، آخرها كتاب "1929 ـ سنة الصدع" الذي صدرت ترجمته العربية عن مركز "مدار" مؤخراً.
يستهل كوهن مقالته الجديدة بالتنويه إلى أن "حرب 1948" تطرح، منذ سبعين عاماً، سؤالاً متكرراً يُصاغ في الغالب كخيار واحد من بين احتمالين ينفي أحدهما الآخر: من هو الطرف المعتدي في تلك الحرب، ومن هو الطرف الذي خاض حربا دفاعية مبررة؟ أي الطرفين كان الشرير وأيهما البطل؟ هل كان اليهود يعتزمون تطهير البلاد من سكانها العرب، أم كان العرب الذين أرادوا دحر المستوطنين اليهود منها؟ ثم يسجل بأن "الإجابات على هذه الأسئلة لا تزال تبدو، حتى اليوم، ضرورية من أجل تحديد المسؤول عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بل وعن دينامية الصراع المستمرة".
يوجز كوهن خلاصة التوجهين المركزيين "المعروفين تماماً"، في الإجابة على هذه الاسئلة، على النحو التالي: الخطاب الصهيوني الرسمي وجميع الباحثين المقربين إليه يدّعون بأن عرب فلسطين الانتدابية والدول العربية التي أيدتهم هم الذين يتحملون المسؤولية الحصرية عن نتائج "حرب 1948"، بما في ذلك نشوء مشكلة اللاجئين، لأنهم رفضوا قبول مشروع التقسيم، ولأنهم بادروا إلى خوض صراع مسلح بغية إجهاضه. أما الخطاب الفلسطيني الرسمي والباحثون المقربون إليه فيدّعون في المقابل بأن المسؤولية الحصرية تقع على الطرف اليهودي ويعزون نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى الرغبة الصهيونية في إجلاء العرب من فلسطين تمهيدا لإنشاء دولة يهودية وإلى عمليات الطرد والمجازر التي نفذتها القوات اليهودية ضد السكان العرب خلال الحرب.
ويعلق على هذا بالقول إن "هذا الخلاف ليس مفاجئاً. فالشعوب، كما الأفراد، تميل إلى تبرير نفسها وإلقاء اللوم على الآخرين. ويمكن الافتراض بأن معظم المتناقشين اليهود، لو وُلدوا فلسطينيين، كانوا سيدّعون بأن القوات اليهودية هي المذنبة، والعكس صحيح".
حقيقة خارج الروايتين وتطهير عِرقيّ في اللد والرملة!
هل هذان الاحتمالان هما الوحيدان الممكنان؟ يتساءل كوهن، ثم يوضح: هل ثمة رأي واحد فقط هو الصحيح بالمطلق، بينما الآخر خاطئ تماما، ولا سبيل آخر إلا اختيار أحدهما؟ ويجيب: إن من شأن نظرة تاريخية أكثر تعقيداً أن تلزمنا برؤية التحولات التي حصلت في علاقات المعتدي ـ الضحية إبان الحرب، ثم اعتماد درجة متغيرة من المسؤولية عن العمليات التي قامت بها القوات اليهودية لاحتلال القرى واقتلاع سكانها في خضم المعارك المختلفة.
يشير كوهن إلى أنه لا يدّعي إمكانية التوفيق بين الروايتين المعروفتين لكون "الحقيقة موجودة في مكان ما في الوسط"، بل إن كلتا الروايتين "تكملان بعضهما البعض"، لسبب آخر مختلف تماماً هو أن كلا منهما تتعلق بفترات مختلفة وسياقات مختلفة من تلك الحرب. فالرواية الصهيونية "تعكس، بصورة صادقة، مراحل معينة من الحرب، لكن أصحابها يسحبونها على الحرب كلها، وبهذا فهم يجافون الحقيقة". أما الرواية الفلسطينية، في المقابل، "فتعكس بصورة أفضل مراحل أخرى من الحرب، لكن أصحابها يسحبونها، هم أيضا، على الحرب كلها، فيجافون الحقيقة التاريخية". ومن أجل فهم جانب الحقيقة وجانب المبالغة في ادعاءات كل من الطرفين، يرى كوهن ضرورة "تقصي مراحل الحرب، من بدايتها حتى نهايتها"، وهو ما يفعله بصورة تفصيلية (طالع عرض تلك المراحل في مادة أخرى على هذه الصفحة).
يخلص كوهن من عرض مراحل الحرب المختلفة إلى الاستنتاج بأن ثمة "فارقا كبيرا بين دوافع القتال لدى القوات اليهودية وملابسات طرد السكان العرب في فترات مختلفة من الحرب"، ذلك أن كل واحدة من فترتي الحرب الرئيسيتين كانت قد بدأت ـ كما يقول ـ "كتحرك للدفاع عن النفس ـ في مواجهة اعتداءات الفلسطينيين في الحرب بين المجتمعات المحلية وفي مواجهة غزو الجيوش العربية في الحرب النظامية ـ ثم تحولت إلى دفاع هجومي وانتهت بهجوم مخطّط واسع". ويقرّ كوهن بأنه "منذ مراحل الدفاع الهجوميّ، جرت عمليات استهدفت تطهير المنطقة من سكانها المدنيين غير الضالعين في القتال أيضا، وليس من المقاتلين فقط"، ثم يؤكد على أنه "من بين مراحل القتال المختلفة، كانت الهجمات التي شنها الجيش الإسرائيلي عشية انتهاء الحرب، في تشرين الأول وتشرين الثاني 1948، خارجة كلياً وبصورة واضحة تماماً عن العمليات الدفاعية"، إذ كانت تلك "حملات غزو وتوسع استهدفت تقليص الوجود العربي في المناطق الخاضعة للسيطرة اليهودية"!
غير أن التفكير السرديّ القومي، الذي يقسّم الواقع إلى أخيار محقّين دائما وإلى أشرار معتدين دائما، سواء من وجهة النظر الفلسطينية أو من وجهة النظر الإسرائيلية واليهودية، يتجاهل ـ كما يؤكد كوهن ـ الفوارق ما بين مراحل الحرب المختلفة ويكرّس الخطاب السطحي والعقيم. وأكثر من هذا، ليس من الممكن في كل مرحلة من مراحل الحرب تحديد الخط الفاصل ما بين الفعل الدفاعي والفعل الهجومي. ويسوق على هذا مثالاً عملية احتلال مدينتي اللد والرملة وطرد سكانهما خلال "معارك الأيام العشرة". فقد اعتبرت القيادة الإسرائيلية هاتين المدينتين، الواقعتين في وسط البلاد، بمثابة "تهديد استراتيجي للدولة اليهودية"، ولذا فقد قررت احتلالهما "برغم كونهما خارج نطاق حدود التقسيم". ويتساءل: هل كان احتلال اللد والرملة بمثابة دفاع عن النفس؟ ويجيب: من غير الممكن إعطاء إجابة قاطعة على هذا السؤال. لكنه يضيف، على الفور: "ومع ذلك، يمكن أن نجزم بأنّ ثمة فرقاً حقيقياً بين اجتثاث القوة العسكرية العربية من هاتين المدينتين وبين طرد السكان الذين كانوا يعيشون فيهما، وهو (الطرد) ما ينسجم تماماً مع تعريف التطهير العرقي"!
التعليلان الإسرائيليان ضد عودة اللاجئين
برسم هذا كله يبقى ـ كما يقول كوهن ـ سؤال ملحّ يتعلق بالظروف والملابسات المختلفة التي أحاطت باقتلاع التجمعات السكانية الفلسطينية خلال الحرب. ثمة أهمية كبيرة للدراسات التي بحثت مسألة الظروف والملابسات هذه، بالطبع، "لكن ينبغي أن نتذكر أساساً أن اللجوء (الفلسطيني) لم يكن نتيجة اقتلاع الفلسطينيين من بيوتهم ـ سواء بالقوة أو بدافع الخوف أو استجابة لنداءات القيادات العربية ـ وإنما نتيجة منعهم من العودة"، ذلك أن مواطنين كثيرين يضطرون إلى مغادرة المناطق التي تدور فيها المعارك، عادة، لكنهم لا يصبحون لاجئين إلا عند منعهم من العودة إلى بيوتهم أو عند طرد العائدين منهم إلى بيوتهم في إثر انتهاء المعارك، مثلما حدث بصورة منهجية ومتواصلة طوال السنوات التي أعقبت "حرب 1948".
"إن النقاش حول مدى العدل والحق في منع العودة هو نقاش آخر لا مجال للخوض فيه هنا"، يقول كوهن، لكن "ينبغي الانتباه إلى التعليلين الإسرائيليين الشائعين والمقبولين اليوم في رفض ومعارضة عودة اللاجئين (الفلسطينيين)، واللذين يفصل بينهما فارق جوهري". التعليل الأول، القائل بأن "عودة اللاجئين ستؤدي إلى حالة دائمة من سفك الدماء"، يجسد جانب الدفاع عن النفس خلال الحرب ويواصل طرحه واعتماده حتى يومنا هذا؛ وهو يبرر ذاته بمبدأ قدسية الحياة. التعليل الثاني، القائل بأن عودة اللاجئين ستمس بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل، يجسد التطلع الصهيوني إلى إنشاء دولة يهودية تشمل الحد الأدنى الممكن من السكان العرب؛ وهو يشكل صدى لمجريات الحرب التي استهدفت تحصين الأغلبية اليهودية وطابع الدولة اليهودي. وكما الأداء الإسرائيلي طوال تلك الحرب كلها ـ يلخص كوهن ـ كذلك فإن هذين التعليلين الإسرائيليين الحاليين ضد عودة اللاجئين ينبعان من منطقين مختلفين، يختلفان في مدى صلاحيتهما الأخلاقية أيضا.