المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

 احتد الجدل، في الأيام الأخيرة، حول قانون تجنيد الشبان المتدينين المتزمتين، الحريديم، والذي من المفترض أن يكون الكنيست قد أنجزه حتى منتصف أيلول المقبل، بقرار من المحكمة العليا، ما يعني الانتهاء من تشريعه حتى نهاية الدورة الصيفية بعد أربعة أسابيع. وقد أظهرت الصيغة المقترحة خلافا حتى داخل أحزاب الحريديم، بين مؤيد ورافض. ويبقى الاحتمال قائما بأن تصل الأمور إلى طريق مسدود، ما يعني حل الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة.

 

وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قضت، في منتصف أيلول 2017، ببطلان القانون الذي أقره الكنيست في خريف العام 2015، والذي ألغى قانونا أقر في منتصف 2014. والقانون الذي الغته المحكمة يقضي بإعفاء واسع جدا لشبان الحريديم من الخدمة العسكرية، على أن يسن الكنيست قانونا آخر، حتى عام من يوم قرار المحكمة، بمعنى منتصف أيلول المقبل، وهذا يعني حتى انتهاء الدورة الصيفية الحالية، في النصف الثاني من تموز المقبل. كما أن هناك مجالا لأن تدعو الحكومة إلى جلسة استثنائية خلال العطلة الصيفية لإتمام القانون.

وقد نجح الائتلاف الحاكم برئاسة بنيامين نتنياهو في آخر أيام الدورة الشتوية، التي انتهت في منتصف آذار الماضي، في تأجيل الأزمة. وكما كان متوقعا، فإن الخلاف بات أشد في الأيام الأخيرة مع اقتراب الموعد الأخير لسن القانون البديل.

والمعركة على سريان قانون التجنيد الالزامي لشبان الحريديم الذكور بدأت تحتد في أوائل سنوات التسعين. فمنذ العام 1948، وبمبادرة من دافيد بن غوريون، حصل الحريديم على اعفاء جارف من الخدمة العسكرية الإلزامية، في سعي الصهيونية والمؤسسة الحاكمة لتقريب الحريديم الرافضين للصهيونية، إلى الحكم؛ إذ أن طوائف كبيرة من الحريديم رفضت الصهيونية وقيام إسرائيل، وهي حاليا قلة في إسرائيل (5% من الحريديم وفق التقديرات)، إلا أن اعدادهم الكبيرة موجودة في دول العالم الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

لكن في بدايات إسرائيل كانت أعداد الحريديم هامشية، ولهذا لم يتم الالتفات لهم. وفي نهايات سنوات الثمانين، وبدايات سنوات التسعين، بدأت المؤسسة الحاكمة، والجمهور الإسرائيلي ككل، يشعرون بأن أعداد الحريديم تتعاظم بوتيرة عالية، وامتناعهم عن الخدمة العسكرية بدأ ينعكس بشكل كبير على نسبة المجندين سنويا للخدمة الإلزامية. وكلما تقدمت السنين استفحلت هذه الظاهرة، خاصة وأنه في السنوات الأخيرة، أظهرت استطلاعات أن 30% من المواليد في إسرائيل هم من الحريديم، وهذا يعني 5ر36% من مواليد اليهود وحدهم. وهذا انعكاس لنسبة التكاثر العالية جدا لدى الحريديم- 8ر3%، مقابل حوالي 3ر1% لدى جمهور العلمانيين، و8ر2% لدى التيار الديني الصهيوني.

وحسب التقارير الصحافية، فإن الصيغة التي بلورتها لجنة حكومية خاصة اعتمدت من جديد مبدأ التجنيد التدريجي للشبان الحريديم على مدى سنوات، بحيث تتراجع نسبة الشبان المعفيين من التجنيد بشكل تدريجي، ولكن النسب ما تزال ليست واضحة.

ويقول المحلل الاقتصادي حجاي عميت، في صحيفة "ذي ماركر"، إن الصيغة المتبلورة تدل على حلول وسط بين وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان وبين مجموعات الحريديم، بحيث لا يخرج أحد منهم رابحا على حساب الآخر. وبحسب عميت، فإن ليبرمان بات يعي أن التصلب بموقفه، الداعي إلى تجنيد كلي لشبان الحريديم، لن يقود إلا لحل الحكومة، وبالتالي حل الكنيست، والتوجه إلى انتخابات مبكرة، ليس معنيا بها ليبرمان، الذي تدل استطلاعات الرأي على أن قوة حزبه- "يسرائيل بيتينو"- ستتراجع ولو بمقعد واحد عن قوته الحالية اليوم- 6 مقاعد.

في المقابل، فإن قادة كتلتي الحريديم شاس ويهدوت هتوراة يقرأون نتائج الاستطلاعات جيدا، فهي من ناحية تتوقع زيادة في قوة يهدوت هتوراة التي لها 6 مقاعد اليوم، في حين أن قوة شاس قد تتدهور إلى 5 مقاعد بدلا من 7 اليوم. ولكن الأمر المهم الآخر لدى هاتين الكتلتين، هو التشكيلة البرلمانية التي تتوقعها الاستطلاعات. وباتوا يدركون أنه من ناحية مصالحهم، فإن هذا الائتلاف الحاكم هو الأفضل لهم.

وعلى هذه الخلفية ظهر خلاف داخل كتلة يهدوت هتوراة، التي تتشكل من ثلاث طوائف. وبينما توافق طائفتان على الصيغة المتبلورة، فإن طائفة "غور"، التي يمثلها نائب وزير الصحة يعقوب ليتسمان ما تزال تتشدد في مسألة القانون. وتجري محاولات لسد آخر الثغرات للتوصل إلى حل وسط. وإذا ما كان هذا هو المشهد حقا، الذي تعرضه الصحافة الإسرائيلية، فيكون الائتلاف الحاكم قد تخطى أزمة أخرى، كان من المحتمل أن تقود إلى حل الحكومة.

ويقول المحلل والإعلامي رفيف دروكر، في مقال له في صحيفة "هآرتس"، إن اعتبارات انتخابية من الائتلاف والمعارضة، هي التي تحدد مسارات حل هذه القضية، وليس القضية الجوهرية، وما يسمونه "تقاسم العبء". ويقول دروكر إن "قضية قانون التجنيد هي قصة سياسية فريدة. والخطة الجديدة هي خطة تؤيد الحريديم بشكل واضح. فأهداف التجنيد تم تخفيضها، وجرى توسيع تعريف حريديم" ما يعني توسيع قاعدة الاعفاءات.

كما أشار إلى أن العقوبات الشخصية الجنائية التي كان يفرضها القانون على من لا يتجند ألغيت، ومرة أخرى حصل الحريديم على عدد سنوات تأقلم، وكأنهم لم يبدأوا بـ "التأقلم" منذ سن قانون التجنيد الاول، قانون طال، الذي ولد في حكومة إيهود باراك. ولا يوجد خلاف على تساهل هذه الخطة. ورد الجهاز السياسي مدهش. وأكد أن أبا هذه الخطة هو وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، فهو قام بمناورة لامعة.
فوائد اقتصادية

 الجدل الدائر في الصحافة الإسرائيلية يعكس الهدف الجوهري من سعي المؤسسة الحاكمة إلى تجنيد الحريديم، وهو كسر جدران هذا المجتمع المنغلق على ذاته، والذي يعيش حياة تقشفية، ولا ينخرط بالشكل المطلوب في سوق العمل، بمعنى أنه مجتمع غير منتج وغير مستهلك، يضاف لهذا أنه جمهور لا يتلقى العلوم الأساسية من رياضيات ولغات، كما هو في باقي القطاعات.

ويقول نائب رئيس المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، البروفسور يديديا شتيرن، وهو محاضر للحقوق في جامعة بار إيلان في رامات غان، إن فرض عقوبات اقتصادية على الممتنعين عن أداء الخدمة العسكرية، أو الخدمة المدنية البديلة، سيكون آلة ضغط أكثر نجاعة من العقوبات الجنائية، "التي ستقود إلى شرخ في الشعب"، حسب تعبيره.

ودعا شتيرن إلى تقديم محفزات مالية تشجع المعاهد الدينية على توجيه أعداد أكبر من طلابها للخدمة، بمعنى أنه كلما كانت نسبة الطلاب في تلك المعاهد (ما بعد المرحلة المدرسية) الذين يتوجهون لواحدة من الخدمتين أعلى، فإن الميزانيات التي ستحصل عليها المعاهد أعلى.

وتمويل المعاهد الدينية هو قضية مركزية لدى الحريديم، وأحزابهم تضغط على كل الحكومات التي تشارك فيها لزيادة تلك الميزانيات. ويجري الحديث عن معاهد دينية تضم عشرات آلاف رجال الحريديم، الذين يمضون أوقاتهم في دراسة التوراة، مقابل حصولهم على مخصصات اجتماعية.

ففي حكومة نتنياهو السابقة، التي غاب عنها الحريديم، تم خصم نسبة كبيرة من مخصصات الحريديم، لكن في الحكومة الحالية، التي تضم كتلتي الحريديم، تمت إعادة كل الميزانيات إلى سابق عهدها وزيادة، ويجري الحديث اليوم عن أن ميزانيات معاهد الحريديم باتت اليوم أعلى بنسبة 120% مما كانت عليه قبل الحكومة السابقة.

وما يريد شتيرن قوله هو أن توجه شبان أكثر من الحريديم إلى الجيش، أو للخدمة المدنية، هو بدء الطريق نحو العالم المفتوح، إلى عالم العلم والعمل، وبذلك فإن الحكومة ستوفر على حالها مخصصات مالية ضخمة يتم دفقها على طلاب المعاهد الدينية.

لكن هناك من يرى أن القضية ليست فقط في دفع الشبان الحريديم نحو الجيش، بل إن المشكلة الأساسية عندهم تبدأ من التعليم المدرسي في مراحل التعليم الأولى، إذ أن الطلاب يتلقون تعليما دينيا متزمتا، ويحرمون من المنهاج التعليمي الرسمي، وهم لا يتعلمون مواضيع أساسية، وإن تعلموها مثل الرياضيات، فليس بالقدر الكافي والعصري، وإنما بمبادئ أساسية.

ويقول الكاتب إنشيل بيبر، في مقال في صحيفة "هآرتس"، إن شبان الحريديم هم ضحية سبعين سنة من ألاعيب القوة السياسية. فهم يستحقون الاعفاء من الخدمة العسكرية ليس بفضل اتفاق "توراته- مهنته"، بل بسبب الاهمال المستمر لدولة إسرائيل. فالإعفاء من الخدمة العسكرية ليس نوعا من "التسهيل" الذي يحصلون عليه، بل اعتراف بأن الجهاز تنازل عنهم. ومثلما أن الجيش لا يفرض على من يعانون من مشكلات جسدية معينة التجند، هكذا من المحظور أن يتم تجنيد من لم يحظ بالتعليم الاساسي الذي يستحقه كل شاب في إسرائيل لأي سبب كان للجيش الإسرائيلي.

ويتابع بيبر، أن "المطالبة الشعبوية لسياسيين مثل أفيغدور ليبرمان ويائير لبيد واتباعهم في الاعلام بشأن "المساواة في العبء" تتجاهل تماما الاضطهاد المتواصل للشباب الحريديم. يجب اصلاح هذا الظلم التاريخي الذي تم التسبب به لهم، وأن يتم سحب التمويل الحكومي من كل مؤسسة تعليم لا تدرس المهن الاساسية بالمستوى المطلوب، وعلى الاقل إيجاد أطر لاستكمال التعليم للمتسربين من جهاز تعليم الحريديم، قبل البدء بالحديث عن تجنيدهم للجيش".

الحق الإنساني في الرفض

أما الكاتب ب. ميخائيل فيدافع عن الحق الإنساني للحريديم في رفض الخدمة العسكرية، وهو يعارض أصلا الخدمة الإلزامية، ويقول في مقال له في صحيفة "هآرتس" إن "الجيش سبق له أن أشار إلى أنه يمكنه أن يتدبر أمره من غير المجندين إلزاميا. فمعظم مهامه العسكرية بالأساس ينفذها الجيش النظامي الدائم. ولمجندي التجنيد الالزامي لم يبق تقريبا سوى مهام سهلة. لقد حان الوقت إذن لإعفاء الجيش من المهام "التعليمية" التي فرضت عليه، وتحريره من ضرورة أن يطبع على المزيد من المجندين الشباب ختم الانضباط والانغلاق والعنف وقسوة القلب الضرورية لتنفيذ مهام الخدمة العسكرية، وأن يتم جعله مهنيا تماما. الجيش حينها لن يكون أقل نجاعة، والمجتمع الإسرائيلي بالتأكيد سيخرج رابحا".

ويقول ب. ميخائيل إن "حق عدم التجند يعود لكل مواطن إسرائيلي وليس فقط لجمهور الحريديم. والعبء العسكري كما هو سار في دول سليمة، يتحمله الذين يرون بالتجند مهنة. أولئك الذين يختارهم الجيش ويعيلهم باحترام وسخاء براتب جنديتهم المهنية. إن الشعار الذي يجب الدفاع عنه هو بناء على ذلك مساواة في الإعفاء وليس مساواة في العبء".

وما يطرحه ب. ميخائيل هو أحد المواضيع الشائكة، لكنه لا يحظى بأغلبية في الشارع الإسرائيلي، الذي يواصل تقديس العسكرة، تماشيا مع الدعاية الصهيونية العالقة بها، إذ يرفض الجيش وحكومته على مر عشرات السنين الاعتراف بالرفض لأسباب ضميرية. وكل الشبان والشابات، الذين رفضوا الخدمة العسكرية لرفضهم الاحتلال، أو رفضهم العسكرة من حيث المبدأ، قبعوا في السجون العسكرية، لأحكام تمتد لأشهر طويلة، وفقط حينما يرى الجيش أن لا جدوى أكثر من الضغط على الرافض، فإنه يحصل على شهادة بأنه "غير صالح للخدمة العسكرية!".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات