قال بحث إسرائيلي جديد إن شركات إسرائيلية بدأت أخيراً بنقل استثمارات لها في قطاع التقنية العالية (الهايتك) إلى دول عدة، وبالذات إلى دول فيها قدرات وفي ذات الوقت من دول الأيدي العاملة الرخيصة. وبحسب ذلك البحث، فإن حجم استثمارات الإسرائيليين في الخارج في قطاع الهايتك هو بقدر كان سيضمن للسوق الإسرائيلية حوالي 20 ألف وظيفة جديدة في هذا القطاع. وتنضاف هذه القضية إلى عدة قضايا يواجهها قطاع التقنية العالية، على الرغم من أنه يبقى ركنا أساسيا للاقتصاد الإسرائيلي والنمو فيه.
وقطاع الهايتك هو محرك أساسي للنمو الاقتصادي، وله تفوق نسبي في الاقتصاد الإسرائيلي. وبلغ عدد العاملين فيه، عام 2017، حوالي 290 ألفا. وقد تضاعف العدد منذ العام 1995 وحتى نهاية العام الجاري، بحسب معطيات مكتب الاحصاء المركزي الإسرائيلي. ومستوى معدل الرواتب فيه ارتفع، ووصل إلى ضعفي معدل الرواتب في الاقتصاد ككل. ومن ناحية ثانية، فإن هذه المعطيات تبرز التخلف الذي تعاني منه باقي قطاعات الاقتصاد، من حيث الإنتاجية، ومعدل الرواتب، ونسبة نموها الاقتصادي.
وأجرت هذا البحث شركة أتوسيا، المختصة أكثر بجانب التشغيل في قطاع الهايتك الإسرائيلي. وكان العنوان الأبرز لهذا البحث أن المشاريع التي فتحها إسرائيليون في دول مثل الهند وشرق أوروبا تضم 20 ألف عامل، بكلفة تشغيل تصل إلى 960 مليون دولار سنويا. وهذا كله يأتي على حساب الاقتصاد الإسرائيلي، وخاصة جانب التشغيل فيه.
وقامت الشركة بإجراء بحثها في فترتين متباعدتين، في شهر كانون الثاني 2017، ثم في شهر شباط 2018، وقارنت المعطيات بين الفترتين. وشمل البحث استطلاعا بين 138 شركة إسرائيلية في قطاع الهايتك، يعمل فيها حوالي 30 ألف عامل.
وبيّن البحث أن مكان التشغيل الأكبر للاستثمارات الإسرائيلية في هذا القطاع هو أوكرانيا، التي تعمل فيها 28% من الشركات الإسرائيلية العاملة في الخارج، وتليها بولندا- 19%، وبلغاريا وروسيا البيضاء، في كل واحدة 14%، والهند- 12%، ورومانيا- 7% ومقدونيا- 2%، وعدة دول أخرى- 4%، بضمنها التشيك وسلوفاكيا وكازاخستان.
وحسب البحث، فإن الشركات الإسرائيلية تعتمد نظام التشغيل المباشر وغير المباشر، مع تركيز خاص على غير المباشر، كونه شكل التشغيل الأكبر. ووجد البحث أنه خلال عام ارتفع عدد العاملين في الشركات الإسرائيلية في الخارج، بنسبة 25%، بين كانون الثاني 2017، وشباط 2018. في حين أن عدد العاملين في قطاع الهايتك في إسرائيل ارتفع في ذات الفترة بنسبة 6%. وأخذ البحث جزئية العاملين في الخارج بشكل غير مباشر، إذ ارتفع عدد هؤلاء وحدهم من 1760 عاملا إلى 2240 عاملا.
وعلى الرغم من نتائج هذا البحث، وبموجب هذا البحث، فإن قطاع الهايتك استوعب في العام الماضي 2017 حوالي 62 ألف عامل، لكن غالبية هؤلاء انضموا للعمل، بدلا من عاملين آخرين غادروه، بمعنى ليس كل هذا ملاكات عمل جديدة. وتواصل الشركات توسيع نطاق عملها. فعلى سبيل المثال أعلنت شركة إنتل العالمية أنها ستستثمر في مصنعها في كريات جات (جنوب) 5 مليارات دولار، دون أن تذكر عدد العاملين الجدد في هذا الاستثمار الجديد، الذي سينتهي العمل فيه حتى العام 2020. وكانت الشركة قد استثمرت في العام 2015، في ذات المصنع، 6 مليارات دولار. ويعمل حاليا في مرافق إنتل في إسرائيل 11 ألف عامل.
ويستدل من البحث أن ثمة عاملين مركزيين يدفعان المستثمرين الإسرائيليين نحو الاستثمار في الخارج: الأول، حسب 35% من الذين شملهم الاستطلاع، هو تدني كلفة التشغيل، وكلفة الشروط والضمانات الاجتماعية؛ الثاني، حسب 31% من الذين شملهم الاستطلاع، هو البحث عن مبرمجين وخبرات جديدة في العالم. ويقول هؤلاء إنهم لا ينجحون في العثور على مبرمجين في إسرائيل، في مجال مخططات العمل التي وضعوها.
ويقول مدير عام شركة "سلكوم- إسرائيل"، عيران كوهين، إن لشركة سلكوم في شرق أوروبا 3500 عامل، من بينهم 500 عامل يعملون لصالح شركات إسرائيلية. ويضيف أن من الصعب تجنيد مبرمجين في إسرائيل، ولهذا فإنه لا يمكن منع خسارة السوق الإسرائيلية هذه الوظائف، لتنتقل إلى الخارج. ويستدل من حديثه لصحيفة "ذي ماركر" أن الشركات الإسرائيلية تبتعد أيضا عن الاستثمار في دول متطورة، على الرغم من وجود خبرات عالية فيها، لكون شروط العمل فيها عالية جدا، كما هي الحال في فرنسا مثلا.
ووفقاً لما يقوله نائب المدير العام في شركة سيملروف، جيسون شفارتس، فإن لسعر صرف الدولار دوراً فاعلاً في اندفاع الشركات الإسرائيلية للبحث عن حلول في الخارج. ويقول إن أساس تمويل الشركات الناشئة ("ستارت أب") الإسرائيلية هو بالدولار، والمداخيل أيضا بالدولار، وكذا بالنسبة لمن يستثمرون من الخارج. وسعر الصرف المنخفض ما بين 3.4 إلى 3.5 شيكل للدولار، كما هو حال العام الماضي على وجه التحديد، يرفع من حصة التشغيل في موازنة تلك الشركات، كون كلفة العمل والإنتاج بالشيكل في حين أن الدفع في أوكرانيا بالدولار، والرواتب التي تُدفع تُعد مرتفعة قياسا بالسوق هناك بالنسبة للمبرمجين.
ويتابع شفارتس أنه لو أن سعر صرف الدولار يتراوح ما بين 3.8 شيكل إلى 4 شواكل (كما كان قبل عامين)، لكان ممتازا للاقتصاد وللمصدرين. وكل دولة ذات نظام سليم عليها أن تصحح سعر صرف عملتها أمام العملات الأجنبية، وخاصة الدولار، وعلى إسرائيل أن تتخذ إجراءات للجم المستثمرين بالعملات الأجنبية، ويؤثرون على سعر صرف الدولار أمام الشيكل.
مشاكل أخرى
في الآونة الأخيرة اتضح أيضاً أن هناك مشكلة جديدة في قطاع الهايتك الإسرائيلي.
وذكر تقرير سابق في صحيفة "ذي ماركر" أن هذا القطاع في إسرائيل ما عاد يوجد أماكن عمل، مقارنة مع ما كان في الماضي. فإذا كان بمقدور كل وظيفة في الهايتك، في منتصف سنوات التسعين، أن تخلق مكاني عمل إضافيين في غير هذا القطاع، فإن المعدل في العام 2011 هبط إلى 1.3 وظيفة، وفي العام 2016 هبط إلى 0.8 وظيفة فقط. وهذا يعني أن كل وظيفة في الهايتك باتت تخلق وظائف أخرى بدرجة أقل حتى في القطاع ذاته، كما أنها لم تعد وظيفة شمولية تؤثر على باقي القطاعات، مثل المطاعم والسفريات.
وهذه قضية تثير التخوف من أن يكون قطاع الهايتك محرك نمو محدودا، هذا إذا بقي محركا للنمو أصلا. وهو قطاع باتت قدرته على خلق أماكن عمل لأشخاص ليسوا تقنيين وفيزيائيين أو مهندسين تتراجع باستمرار.
ولهذه الظاهرة بضعة تفسيرات.
ويعتقد البروفسور يوجين كانديل، الرئيس السابق للمجلس الوطني للاقتصاد، ومن يرأس حاليا جمعية "ستارت أب نيشين سنترال" لتعزيز مكانة إسرائيل كقوة هايتك عظمى، أن هذا التراجع نابع من أن نشاط الشركات متعددة القوميات في إسرائيل يتركز أساسا في عمل مراكز الأبحاث والتطوير، وليس في التشغيل والإنتاج. ففي العقد الأخير وسّعت الشركات متعددة القوميات نشاطها في مراكز الأبحاث والتطوير في إسرائيل، ويتم سنويا شراء حوالي 30 مركزا كهذا. وفي العام 2015، عمل في مراكز الأبحاث والتطوير للشركات متعددة القوميات، 45.2 ألف شخص، 68% منهم عملوا مباشرة في تلك المراكز. ويعمل في هذه المراكز أساسا تقنيون وباحثون ومهندسون، ومن حولهم قلة قليلة جدا من القوى العاملة الأخرى.
ويتابع أهارون أهارون، رئيس سلطة التطوير، عن قرب، هذه الظاهرة الأخيرة، وينقل رسائل مفادها أن إسرائيل بحاجة إلى ما يسميه "شركات متكاملة"، أي شركات لديها نشاط آخر، وليس فقط في الأبحاث والتطوير، مثل أن تكون إنتاجية ومسوقة وداعمة. وبهذه الطريقة بالإمكان الحفاظ على تنوع تشغيلي في الهايتك، وأن لا يكون قطاعا متركزا بالتقنيين والعلماء، وبهذا سيزداد تأثير شمولية صناعة الهايتك. ونموذج جيد لهذا هي شركة إنتل، التي تزود أماكن عمل لتنوع كبير من أصحاب المهن، مثل أعمال تقنية وإدارية، وحتى مختصين بالأبحاث والتطوير.
والظاهرة العكسية لهذا الوضع هي بيع شركات "ستارت أب" إسرائيلية لشركات متعددة القوميات، التي تقرر التركز هنا في نشاط الأبحاث والتطوير، مثل شركة أنوفيط، التي تم بيعها قبل خمس سنوات لشركة آبل، مقابل نصف مليار دولار. وشركة التكنولوجيا الضخمة هذه قلصت عمل أنوفيط في إسرائيل، لتتركز في مجال الأبحاث والتطوير، ما أدى إلى خسارة أماكن عمل، ليست في قطاع الهايتك كلها. في المقابل، في أعقاب صفقة البيع هذه، أقامت آبل مركز أبحاث وتطوير يشغل 700 عامل، وهناك حالات شبيهة أخرى.
وحسب "ذي ماركر"، هناك تفسير آخر لتقلص عدد الوظائف التي ليست من الهايتك كليا، كالتي كان يخلقها هذا القطاع، وهي مرتبطة بالتكنولوجيا. فكلما تتركز هذه أكثر في مجال الحاسوب والأجسام الآلية، وتستبدل نشاط الإنسان، فهي تقلص أعداد العاملين.
هجرة العقول
إحدى الظواهر المرتبطة بهذه القضية، من حيث تقلص فرص العمل المناسبة أو البحث عن آفاق أوسع مع مداخيل مالية أكبر لذوي الاختصاص، هي ظاهرة هجرة العقول المتصاعدة من إسرائيل. ويستدل من تقرير سابق لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن نسبة هجرة العقول من إسرائيل في تزايد مستمر، وأن السنوات الثلاث الماضية شهدت تراجعا بنسبة 23% في عدد الأكاديميين الذين عادوا، بعد أن أمضوا سنوات عديدة في الخارج.
ويتضح من التقرير أن نسبة أصحاب اللقب الثالث (الدكتوراة)، الذين هم في عداد المهاجرين، بلغت في العام الماضي أكثر بقليل من 11%، بعد أن كانت النسبة 10.3%، قبل خمس سنوات. وفي المجمل فإن 5.6% من أصحاب الألقاب الجامعية هم في عداد المهاجرين، بينما هذه النسبة كانت تقل عن 5% حتى قبل ثلاث سنوات، وفي حينه اعتبرت الحكومات الإسرائيلية أنها أمام ورطة.
ويتبين أيضا أن نسبة الهجرة ترتفع لدى المتخصصين في مواضيع مثل الهندسة والعلوم العصرية، وبشكل خاص علم الحاسوب والتقنية العالية، على الرغم من ازدهار هذا القطاع بشكل خاص في الاقتصاد الإسرائيلي. وكما ذكر في التقرير فإن في عداد المهاجرين، 24.1% من حملة لقب الدكتوراة في الرياضيات، و19% من حملة شهادة الدكتوراة في علم الحاسوب، و18.5% من حملة الدكتوراة في هندسة المواد، و17% في هندسة الفضاء. كما تبين أن 13.6% من حملة شهادة الدكتوراة في الطب، هم في عداد المهاجرين، في حين أن جهاز الطب الإسرائيلي، وعلى الرغم من أنه يُعد من الأجهزة المتطورة في العالم، يواجه نقصا في الأطباء، خاصة في المناطق البعيدة عن وسط البلاد.
كذلك فإن 15.5% من حملة اللقب الثاني في الرياضيات هم أيضا في عداد المهاجرين، وهذا أكثر بثلاثة أضعاف من نسبة إجمالي حملة اللقب الثاني المهاجرين. ويليهم 15% من أصحاب اللقب الثاني في هندسة الفضاء.
أما بين الحاصلين على اللقب الأول، فتبين أن قرابة 21% من الحاصلين على اللقب الأول في الموسيقى هم في عداد المهاجرين، يليهم 15% من حملة اللقب الأول في موضوع اللغة الإنجليزية وآدابها، و15.5% من الذين أنهوا اللقب الأول في العلاقات الدولية.