تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.

تدأب بضع جهات في إسرائيل على وصف خطة رئيس الوزراء الفلسطيني، الدكتور سلام فيّاض، الرامية إلى وضع حدّ للاحتلال الإسرائيلي وإعلان إقامة دولة فلسطينية مستقلة في أواسط العام 2011، حتى لو لم يكن هناك اتفاق مع إسرائيل في هذا الشأن إلى ذلك الوقت، والتي حظيت إلى الآن بتأييد الرباعية الدولية، بتعبير "الهجمة الدبلوماسية الفلسطينية"، وذلك في موازاة التأكيد أن هذه الخطة تثير قدرًا كبيرًا من القلق والإحراج في أوساط المؤسسة السياسية الإسرائيلية، فضلاً عن المؤسسة الأمنية.

ويكاد يكون ثمة إجماع على أن أكثر ما يجب أن يقلق إسرائيل هو أن عملية دفع هذه الخطة قدمًا، على المستوى السياسي والدبلوماسي وعلى المستوى الميداني على حدّ سواء، تتزامن مع وجود أزمة حادّة في العلاقات الثنائية بين إسرائيل والإدارة الأميركية الحالية برئاسة باراك أوباما.

وتشير تحليلات إسرائيلية كثيرة إلى أن هذه الأزمة عائدة بصورة رئيسة إلى واقع أن أوباما يضع موضوع النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وضرورة تسويته على أساس حل الدولتين في رأس سلم أولوياته، وبدرجة لا تقل إن لم تكن أكبر من "الموضوع الإيراني"، ولذا فقد نشأ تناقض معين بين سلم أولويات الإدارة الأميركية وبين سلم أولويات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وحكومته اليمينية، والذي لا يزال "الموضوع الإيراني" مدرجًا في رأسه.

ويمكن مصادفة تلميحات عديدة إلى أن نتنياهو "أقدم" على ما يسمى بـ "مبادرات حُسن النية" تجاه الفلسطينيين (وهو تعبير إسرائيلي رسمي وإعلامي متداول لتوصيف قبول رئيس الحكومة الإسرائيلية "حل الدولتين"، وقرار تعليق أعمال البناء في المستوطنات لفترة عشرة أشهر، وإزالة بعض الحواجز والسواتر الترابية وما إلى ذلك) بعد أن راوده "الأمل" بأن يتبنى أوباما مواقف متصلبة أكثر إزاء إيران.

وتذهب تحليلات أخرى إلى أبعد من ذلك، فتشير إلى أن الرئيس أوباما يفكر بطريقة مغايرة عن الرؤساء الأميركيين السابقين، وإلى أنه يؤيد الفلسطينيين وسيبذل كل ما في وسعه لمنحهم الاستقلال، وكذلك إلى أن الفلسطينيين ينسقون مع الأميركيين عملية إقامة البنى التحتية في الضفة الغربية باعتبارها عملية تحضيرية للاستقلال الاقتصادي والانفصال عن السيطرة الإسرائيلية التي جعلت الاقتصاد الفلسطيني على امتداد الأعوام اقتصاداً تابعاً يعاني من ضعف وعدم قدرة على التطور، كما قال مثلاً الكولونيل في الاحتياط موشيه إلعاد، الذي يعمل باحثاً في "مؤسسة شموئيل نئمان للأبحاث المتقدمة في العلوم والتكنولوجيا" في معهد "التخنيون" في حيفا ومحاضرا في موضوع الأمن القومي في الكلية الأكاديمية الجليل الغربي في عكا.

ووفقًا لمعلق الشؤون الاقتصادية والسياسية في صحيفة يديعوت أحرونوت، سيفر بلوتسكر، فإن رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض، الذي كرّر في عيد الفصح العبري الأخير أن شعبه سيحتفل قريبًا بإقامة دولته الجديدة، والتي ستكون القدس عاصمة لها، كان يتكلم باسم أوباما، ذلك بأن كلاً منهما يعمل على تحقيق الرؤية نفسها. ولا شك في أن نتنياهو يدرك ذلك جيدًا، وعليه أن يحسم قراره (يديعوت أحرونوت، 6 نيسان 2010)..

تجدر الإشارة إلى أن صحيفة هآرتس كانت قد ذكرت، في 8 تشرين الثاني 2009، أن تقارير وصلت إلى إسرائيل مؤخرا أفادت أن فياض توصل إلى تفاهمات سرية مع إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تشمل اعترافا أميركيا بدولة فلسطينية مستقلة في حدود العام 1967. وأشارت الصحيفة إلى أن من شأن اعتراف كهذا أن يجعل الوجود الإسرائيلي في المناطق الواقعة وراء الخط الأخضر بما فيها القدس الشرقية على أنه "غزو غير قانوني وسيمنح الفلسطينيين الحق في الدفاع عن النفس". وقالت هآرتس في حينه إن إمكان تنفيذ خطوة فلسطينية أحادية الجانب تطالب بالسيادة على حدود العام 1967 تقلق إسرائيل كثيرا وحتى أن هيئة "اللجنة الوزارية السباعية" الإسرائيلية أجرت مداولات في هذا الخصوص عدة مرات خلال الشهور الأخيرة. واعتبر مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى أن "هذه خطوة خطرة للغاية" لكنه لفت إلى أن "عددا متزايدا من الوزراء الأعضاء في المجلس الوزاري (الإسرائيلي) المصغر للشؤون السياسية والأمنية باتوا يدركون أن انعدام العمل السياسي من جانب إسرائيل قد يؤدي إلى دعم دولي لخطة فياض". ووفقا لعدة مصادر سياسية إسرائيلية فإن نتنياهو طرح الموضوع خلال لقاءاته مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والمبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل وطالب الولايات المتحدة أن توضح لفياض أنها لن تؤيد خطوة فلسطينية كهذه بل إنها ستستخدم حق النقض (الفيتو) ضدها. وقالت هآرتس في حينه إن نتنياهو لم يتلق ردا واضحا من الإدارة الأميركية فيما يتعلق بموقفها إزاء خطة فياض.

وتضيف تحليلات أخرى إلى ما تقدّم كله عملية تغذية متبادلة تحدث باطرّاد في الآونة الأخيرة بين هذه "الهجمة الدبلوماسية الفلسطينية" ومواقف الإدارة الأميركية، من جهة، وبين نشوء مناخ دولي أسفر عن عزلة إسرائيل سياسيًا، من جهة أخرى. وفي خضم ذلك يُشار إلى أن المسؤولية جراء هذه العزلة تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية وذلك في إثر رفضها تلبية الشروط المطروحة لاستئناف العملية السياسية ومفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية، وفي ضوء تداعيات الحرب على غزة وما انطوت عليه من ممارسات عسكرية إسرائيلية منتهكة للقوانين والشرائع الدولية.

في الوقت نفسه لا بُدّ من القول إن فياض قام بمخاطبة الرأي العام الإسرائيلي بصورة مباشرة فيما يتعلق بخطة حكومته، وأساسًا بواسطة مشاركته في "مؤتمر هرتسليا لميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" خلال دورته العاشرة، التي عقدت في الفترة ما بين 31 كانون الثاني و3 شباط 2010، ومن خلال مقابلة

صحافيتين: الأولى أدلى بها إلى صحيفة هآرتس في 2 نيسان 2010 والثانية أدلى بها إلى الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت في 21 نيسان 2010، وشرح فيهما رؤيته وتصوراته حول إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي أدى إلى جعل تلك الخطة تتصدّر اهتمام وسائل الإعلام ومعاهد الأبحاثفي إسرائيل.

الحملة الإسرائيلية العامة

على الفلسطينيين

إن الاهتمام بخطة الحكومة الفلسطينية يعكس نوعًا من الحراك السياسي والجدل العام غير أنه لا يعبر عن وجود تأييد كبير لها لدى الأوساط السياسية والحزبية والشعبية في إسرائيل. وبسبب هذه الخطة فإن فياض "حظي" بلقب "دافيد بن غوريون الفلسطيني"، كما ورد على لسان رئيس الدولة الإسرائيلية، شمعون بيريس، في مؤتمر هرتسليا العاشر، في إشارة إلى الإستراتيجيا التي انتهجتها الزعامة الصهيونية برئاسة بن غوريون، والتي تسمى بحسب القاموس الصهيوني "خلق حقائق على أرض الواقع".

في الوقت نفسه فإن الحملة، التي يشنها المعارضون لهذه الخطة، هي جزء من الحملة الإسرائيلية الضارية على السلطة الوطنية الفلسطينية وعلى رئيسها محمود عباس، وذلك في موازاة رفض استئناف المفاوضات، والتحايل على الضغوط الأوروبية والأميركية، واستمرار الممارسات الاستيطانية في الضفة الغربية وممارسات تهويد القدس.

ويشير معظم المحللين الإسرائيليين إلى أن هذه الحملة ناجمة، في الوقت نفسه، عن "انزعاج" حكومة بنيامين نتنياهو جراء الطريق السياسية، التي تنتهجها السلطة الفلسطينية بصورة مثابرة، منذ تولي تلك الحكومة مهمات منصبها في 31 آذار 2009. ومهما تكن عناصر هذه الطريق السياسية فإن عنصرين أساسيين منها هما على ما يبدو أكثر ما يثيران "الانزعاج" في إسرائيل. هذان العنصران هما:

- أولاً، رهن استئناف المفاوضات الثنائية (المتوقفة منذ الحرب الإسرائيلية على غزة في أواخر 2008) بتجميد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بصورة مطلقة، وتحديد الجدول الزمني للمفاوضات ومرجعياتها؛

- ثانيًا، مواصلة عملية مأسسة أجهزة الدولة الفلسطينية المستقلة ومؤسساتها وتحسين أوضاع السكان الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وتعميق التنسيق والعلاقات الدبلوماسية مع الأطراف العربية والدولية.

ورأى أحد كبار المتخصصين الإسرائيليين في الشؤون الفلسطينية، الدكتور إفرايم لافـي، وهو عقيد في الاحتياط ومدير "مركز تامي شتاينيتس لأبحاث السلام" ومدير "برنامج كونراد أديناور للتعاون اليهودي العربي" والباحث الكبير في "مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والأفريقية" في جامعة تل أبيب، أن هذه الطريق السياسية من شأنها أن تعود بفوائد جمّة على الجانب الفلسطيني، ذلك بأنها تمكّنه من فضح صورة إسرائيل باعتبارها دولة رافضة للتسوية السياسية، ومستمرة في التذرّع بحجج واهية لهذا الرفض، من قبيل "محاربة الإرهاب"، كي تتهرّب من المستحقات المطرّدة لعملية التسوية، وكي تحافظ على الاحتلال والاستيطان. وقد ورد ذلك في سياق مقالة ضافية نشرها في مجلة "المستجد الإستراتيجي" الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب (العدد 4، كانون الثاني 2010).

وفي رأي هذا المتخصص وغيره فإن هذه المقاربة الفلسطينية تجد مزيدًا من الآذان الصاغية في العالم أجمع، لا سيما في إثر تقرير "لجنة غولدستون" الأممية، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد السكان المدنيين خلال الحرب على غزة، وأسفر عن تآكل مكانتها في الأمم المتحدة وفي العالم كافة (تجدر الإشارة هنا إلى أن بضعة تقارير إسرائيلية شبه رسمية نوهت مؤخرًا بأن التآكل في مكانة إسرائيل في الكثير من الأماكن تحوّل إلى تحدٍ لحقها في الوجود في حد ذاته، فضلاً عن تأكيد أن هذه العملية تستمد استمراريتها من تفاقم المأزق الإسرائيلي في الساحة الفلسطينية. وقد تداول مؤتمر هرتسليا العاشر في تقريرين من هذا النوع: الأول، تقرير "معهد ريئوت للتخطيط الإستراتيجي" بعنوان "تحدي نزع شرعية إسرائيل وضرورة إيجاد سور ناري سياسيّ"، والثاني، ورقة عمل أعدها طاقم خاص من المؤتمر بعنوان دوافع "الحرب الناعمة" ضد إسرائيل ووسائل مواجهتها).

وقد أشير، في هذا الصدد أيضًا، إلى أن أكثر ما يطير صواب إسرائيل هو أن رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض يعمل على استكمال بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية حتى العام 2011، بالاشتراك مع الرئيس عباس، ولهذا الغرض فقد "أقام لجانًا وزارية تعمل، ليل نهار، في تلطيخ سمعة إسرائيل في أية ساحة دولية ممكنة، وتقوم بتقديم شكاوى في اليونيسكو ومحكمة العدل الدولية في لاهاي ومنظمة الصحة العالمية. كما أنه يبذل جهودًا شخصية كبيرة من أجل عدم قبول إسرائيل في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، قبل تلبية مطالبه منها. وينوي إقامة مدينة فلسطينية جديدة باسم روابي قرب رام الله، ويطالب بإقامة قرى ومزارع للاجئين الفلسطينيين على أراضي غور الأردن. وبناء على ذلك فإن أكثر ما يخشاه المسؤولون الإسرائيليون الآن هو أن ينجح فياض، بهذه الوتيرة، في انتزاع قرار من الأمم المتحدة يقضي بإقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 تكون عاصمتها القدس الشرقية، من دون مفاوضات مع إسرائيل" (يديعوت أحرونوت، 31 كانون الثاني 2010).

وطبقًا لمصادر إعلامية إسرائيلية فإن حكومة نتنياهو وجهت إلى الإدارة الأميركية مذكرة ادعت فيها أن "السلطة الفلسطينية تواصل مقاطعة المفاوضات والتحريض ضد إسرائيل والثناء على الإرهابيين، على الرغم من المساعي الكبيرة التي تبذلها إسرائيل لتشجيع قيادة السلطة الفلسطينية على العودة إلى محادثات السلام" (هآرتس، 17 كانون الثاني 2010).

وتبلغ الحملة من طرف اليمين الإسرائيلي المتطرّف درجة التحريض الدموي، فقد أدلى وزير البنى التحتية الإسرائيلية، عوزي لانداو ("إسرائيل بيتنا")، بمقابلة إلى صحيفة "يسرائيل هيوم" (10 شباط 2010) قال فيها: إنه لا فرق بين الرئيس الراحل ياسر عرفات وبين الرئيس عباس، مضيفا أن هدف كل منهما هو إبادة إسرائيل. وشبه لانداو عباس بـ "سفاح بوسطن"، الذي نفذ ثلاث عشرة عملية قتل بالخنق في الستينيات من القرن الفائت.

وكان عضو الكنيست أرييه إلداد من كتلة "الاتحاد الوطني" اليمينية المتطرفة صرّح للإذاعة الإسرائيلية، يوم 6 تشرين الثاني 2009، غداة إعلان الرئيس عباس أنه لن يرشح نفسه لولاية رئاسية أخرى في انتخابات مقبلة محتملة، إن "محمود عباس لا يمثل أحدا، وعندما تتحدث إسرائيل معه فإنها في واقع الأمر تتحدث مع نفسها". وأضاف أن "أفضلية عباس الوحيدة هي أنه لا ينشط في مجال الإرهاب، وعلى الرغم من أنه لا يبدو إرهابيا إلا إنه أحد ألد أعداء إسرائيل".

"فياض ليس بن غوريون"

اعترض معلقون إسرائيليون على توصيف بيريس لفياض بأنه "بن غوريون الفلسطيني"، وكان أبرزهم الصحافي آفي ترانغــو الذي كتب يقول: لو كان في نية فياض فعلا أن يكون "بن غوريون الفلسطيني"، لكان عمل من أجل الاستقلال الاقتصادي وبناء البنية التحتية للدولة الفلسطينية القادمة. لكنه بدلا من ذلك، يخصص الأموال الكثيرة التي يحصل عليها من العالم من أجل دفع الأجور والرواتب الجارية كي يبني لنفسه جمهورا يؤيده. وهو يذكر جيدا أن الحزب الذي أقامه قبل سنين حصل على أقل من 2 في المائة من مجمل الأصوات. ومثل كل سياسي، فإن الأمر الذي يعنيه فعلا هو بناء قاعدة تأييد شعبية له (الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت، 21 نيسان 2010).

وتابع: إن ما يريده فياض هو أن نعطيه المزيد من الأراضي المطلوبة ظاهريا من أجل "الاستقلال"، ويريد أن نواصل كوننا الذريعة لعدم توظيف الأموال في مجال التنمية، وكل تقرير يرفعه إلى البنك الدولي مليء بالذرائع التي تبرر سبب عدم استغلال أموال التنمية بكاملها... لو كانت لديه خطط حقيقية للاستقلال، لكن بدأ في إقامة البنية التحتية للعملة الفلسطينية الخاصة. فالدولة التي تريد أن تطور قطاعا خاصا وقدرة على تغطية التصدير، لا يمكنها أن تفعل ذلك عن طريق التمسك بالشيكل. وكاقتصادي عمل في صندوق النقد

الدولي، فإن فياض يعرف جيدا أن القدرة على تنفيذ التطوير والتنمية هي القدرة الأهم التي يطلبها صندوق النقد من كل دولة مستقلة، لكن هذا الأمر لا يناسب " فلسطين" كما يبدو. وهذه الحقيقة تشكل دليلا ساطعا على أنه لا ينوي تحقيق الاستقلال الحقيقي. هو يريد البقاء قريبا من مائدتنا، أن يبقى في وضع من دون تعريف يمكن وصفه بأنه نصف احتلال ونصف استقلال إلى أن تفعل الديموغرافيا فعلها. إن ما تحاول حماس فعله عسكريا وما حاول عرفات فعله سياسيا، يحاول فياض أن يفعله اقتصاديا.

ولدى تطرقه إلى شكل الرد الإسرائيلي على خطة فياض قال هذا المعلق نفسه إنه يتعين على إسرائيل أن تطلب من السلطة الفلسطينية ثلاثة مطالب تكشف انعدام استقلاليتها الاقتصادية وتعلقها بإسرائيل، وذلك على النحو التالي: أولاً، يتعين على الفلسطينيين الشروع فورا في خطوات لإصدار عملة فلسطينية خاصة والحرص على استقرارها. فاستخدام الشيكل الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية سيُلغى في آب 2011- الموعد الذي حدده فياض للاستقلال. ثانيًا، يتعين على السلطة تعويض إسرائيل عن الأضرار التي لحقت بها جراء نشاطاتها (المس بالجدار) والأفعال الجنائية (سرقة السيارات، سرقة الأدوية، سرقات زراعية). ثالثًا، يتعين على سلطات الضريبة والجمارك الفلسطينية أن تجبي بنفسها ومن دون مساعدة إسرائيل أموال الضريبة على القيمة المضافة وسائر الضرائب التي تجبيها السلطات الإسرائيلية لصالح السلطة الفلسطينية.
وإذا ما نفذ فياض هذه الأهداف الاقتصادية، فسيمكنه أن يكون رئيس دولة رائعة. وختم بأن المحك الأكبر للاستقلال الفلسطيني سيكون ما إذا كانت حركة "حماس" ستسمح لفياض بتوسيع سلطته إلى أراضي غزة.

وكان معلق إسرائيلي آخر، هو عاموس كرمل، قد أكد قبل ذلك أن قيام رئيس الدولة الإسرائيلية، شمعون بيريس بإطلاق اسم "بن غوريون الفلسطيني" على سلام فياض كان خطأ، بل ثمة مكان للافتراض بأنه لو كان بن غوريون حيًا لكان بذل كل ما في وسعه من أجل إحباط خطة فياض (يديعوت أحرونوت، 6 نيسان 2010). وأضاف أن على إسرائيل أن تعد العدّة من أجل إحباط المناورة، التي يقوم بها فياض على رؤوس الأشهاد، والكامنة في خطته القاضية بإعلان دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة حتى شهر آب 2011، "سواء بالتعاون مع إسرائيل أو حتى من دونه"، بواسطة استغلال الأوضاع الدولية التي تعتبر مريحة له ومناوئة لنا.

وتابع: لقد عُرضت هذه الخطة أول مرة في آب 2009، وعاد فياض إلى التلويح بها في سياق المقابلة التي أدلى بها إلى أحد الصحافيين الإسرائيليين (عكيفا إلدار من صحيفة هآرتس). وقد فعل ذلك في موازاة توجيه اتهامات مختلفة إلى الحكومة الإسرائيلية وإلى المستوطنين كلهم، وأيضًا في موازاة إسداء بعض النصائح إلى الرأي العام الإسرائيلي. ولم يترك فياض أي مجال للشكّ في أنه مصرّ على إعلان إقامة دولة فلسطينية على كل سنتمتر من الأراضي الواقعة وراء الخط الأخضر (حدود 1967)، ذلك بأنه لم يذكر مطلقًا الكتل الاستيطانية أو موضوع تبادل الأراضي، ولم يلمح إلى إمكان بقاء مستوطنات يهودية تحت السيادة الفلسطينية. علاوة على ذلك، فإن فياض اهتم أن يعلن ما يلي "إننا نعدّ بنية تحتية لاستيعاب لاجئين"، وليس من قبيل المصادفة أنه لم يقل "استيعاب اللاجئين"، ذلك بأنه لا يزال متمسكًا بالوثيقة التي نشرها في الصيف الفائت، والتي تنطوي على بند يقضي بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا لقرار رقم 194، أي تطبيق "حق العودة" في داخل إسرائيل.

ويمكن القول إن الأستاذ الجامعي البروفسور شلومو أفينيري، المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، هو من آخر الأشخاص الإسرائيليين المؤيدين لخطة فياض وذلك لأنها "ستحرّر إسرائيل من الاحتلال" على حدّ رأيه. وقد كتب أفينيري في هذا الشأن مقالاً في صحيفة هآرتس (19 نيسان 2010) جاء فيه: أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض، مؤخرًا، أن حكومته ستعلن في صيف 2011 عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. وقد أثار إعلانه هذا قلقًا في إسرائيل لم يبق مقتصرا على مؤيدي حكومة بنيامين نتنياهو، فضلاً عن أنه حظي بتلميحات إلى احتمال قيام بعض الدول في أوروبا- بل ربما الاتحاد الأوروبي كله- بالاعتراف بهذا الاستقلال الأحادي الجانب. إن مشاعر القلق والمخاوف التي اقترنت بها تبدو مفهومة، لكن ربما تكون في غير محلها، ذلك بأن أي إنسان لم يقع أسيرًا للشعارات الجوفاء لا بُدّ من أن يقرّ بأنه حتى لو استؤنفت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين فإن احتمالات التوصل إلى اتفاق معدومة كليًا. إن سبب ذلك واضح للغاية، وهو وجود فجوات كبيرة حتى بين مواقف الفئات الأكثر اعتدالاً لدى الجانبين فيما يتعلق بالقضايا المركزية- الحدود والقدس واللاجئون. ولذا فإن ما يجب فعله هو أن ندرس، بصورة جادة، ما الذي سيحدث في حال إعلان الفلسطينيين إقامة دولة مستقلة من جانب واحد، وحصولهم على اعتراف دولي واسع نسبيًا.

ومضى يقول: من المتوقع، أولاً وقبل أي شيء، أن تعلن إسرائيل أن هذه الخطوة الفلسطينية تلغي التسويات والاتفاقيات كلها مع الفلسطينيين، بدءًا بأوسلو وما بعده، وأنها في حلّ من أي التزامات أخذتها على عاتقها، بما في ذلك التزاماتها الاقتصاديـة. ومن الواضح أيضًا أن أي التزامات ناجمة عن سيطرة إسرائيل العسكرية على المناطق (المحتلة) ستكون لاغية هي الأخرى. غير أن الاستقلال الفلسطيني الأحادي الجانب لن يغيّر الواقع الميداني (في المناطق المحتلة)، ذلك بأنه لا يستطيع تفكيك المستوطنات، ولا حل مشكلة القدس الشرقية، التي يُفترض أن يعلن الفلسطينيون أنهم يعتبرونها عاصمتهم. وبناء على ذلك فإن ما سينجم عن إعلان الاستقلال الفلسطيني من جانب واحد هو تغيير جوهر النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني من نزاع بين إسرائيليين محتلين وبين فلسطينيين خاضعين للاحتلال إلى نزاع بين دولتين. ولا شك في أن خطوة كهذه من شأنها أن تجعل هذا النزاع "طبيعيًا" أكثر، أي أن تجعله نزاعًا بين دولتين، الأمر الذي سيدفع إمكان المفاوضات قدمًا، ذلك بأن من الأسهل إجراء مفاوضات بين دولتين تتعلق بقضايا الحدود ومستقبل المستوطنات وتبادل الأراضي والقدس وما شابه ذلك.

وأعرب أفينيري عن أمله بأن لا يردع هذا السيناريو الفلسطينيين عن تنفيذ خطة فياض، و"أن يعملوا على تحرير أنفسهم، وتحريرنا نحن أيضًا، من الاحتلال".

أهم التفاعلات في

الساحة الإسرائيلية

إن التقويم القائل إن استئناف المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية ربما لن يجدي نفعًا بسبب وجود فجوات كبيرة بين الجانبين، لا سيما فيما يتعلق بموضوعات الحل الدائم، لا يقتصر على شخص مثل أفينيري فقط، بل هو محل إجماع كبير بين المعلقين والمحللين السياسيين في إسرائيل، فضلاً عن كبار المسؤولين في الحكومة والمعارضة. ومؤخرًا قال النائب الأول لرئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الشؤون الإستراتيجية، موشيه يعلون، في مقابلة أدلى بها إلى صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 26 آذار 2010، إنه لا يوجد وزير واحد من "طاقم الوزراء السبعة" (الذي يقوم بمهمات المطبخ الوزاري المصغر للشؤون السياسية- الأمنية) يعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق (دائم) مع الفلسطينيين. وفي قراءته فإن ما تمّ حتى الآن كله لا يعدو كونه مناورة سياسية إزاء الضغوط الخارجية، التي تُمارس على الحكومة الإسرائيلية، عقب ما أسماه "تغلغل مواقف مناهضة لإسرائيل حتى إلى وعي الإدارة الأميركية". وأضاف أنه من أجل فهم الموقف الإسرائيلي الرسمي إزاء الفلسطينيين، لا بُدّ من رؤية ما الذي حدث هنا على مدار الأعوام الـ 17 الفائتة، ذلك "بأن مفهوم الأرض في مقابل السلام قد مُني بالفشل. وفي مقابل الأرض حصلنا على الإرهاب في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وعلى الصواريخ من قطاع غزة"، على حدّ تعبيره. ويتسق جوهر ما صرّح يعلون به مع قيام نتنياهو، خلال اجتماع الكابينيت، في 10 كانون الأول 2009، باتهام السلطة الفلسطينية بـ "تبني إستراتيجيا رفض إجراء مفاوضات مع إسرائيل، من أجل الامتناع عن التوصل إلى الحلول الوسط التي تطالبها بها كل من إسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي". وكذلك مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية، أفيغدور ليبرمان، الذي قال أمام السفراء الإسرائيليين في 27 كانون الأول 2009 إن "إسرائيل لن تتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في غضون العقدين المقبلين. وحتى لو انسحبنا إلى حدود 1967 وتنازلنا عن أجزاء من القدس (الشرقية) فإننا لن ننهي الصراع بين الجانبين".

مع ذلك فإن المتابع للمشهد الإسرائيلي لا بُدّ من أن يلاحظ أنه نجمت عن خطة الحكومة الفلسطينية تفاعلات مهمة حتى في داخل الساحة الإسرائيلية.

ويمكن القول إن أبرز هذه التفاعلات المهمة هي ما يلي:

أولاً- تأجيج الجدل بشأن المخاطر المترتبة على استمرار الوضع القائم (حالة اللاسلم واللاحرب)، خاصة في ظل انعدام أي مسار تفاوضي.

ثانيًا- التأكيد أن التسويات الأحادية الجانب ليست مرغوبة، فضلاً عن أنها لا تشكل بديلاً من الاتفاقات والتفاهمات الثنائية. ويمكن القول إنه كان هناك حتى بين الأوساط الإسرائيلية، التي تؤيد إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، من حذر بأن الحلول من جانب واحد تعتبر وصفة لعدم الاستقرار وبالتالي للانفجار. ومن هؤلاء، مثلاً، شاؤول أريئيلي، أحد أقطاب "مبادرة جنيف"، الذي أعرب عن اقتناعه بأن مصير خطة فياض سيكون مثل مصير خطة الانفصال الإسرائيلية عن قطاع غزة، التي أدّت إلى تفاقم النزاع بدلاً من تخفيفه.

ثالثًا- اتساع حملة النقد لحكومة نتنياهو، وبالذات جراء عدم امتلاكها أي برنامج أو أي خطة للتسوية السياسية. وقد تمثل آخر هذا النقد، وإن بصورة مبطنة، في التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس حزب العمل، إيهود باراك، إلى قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى يوم 23 نيسان 2010. وقد أكد فيها، من جملة أشياء أخرى، أن انعدام خطة سياسية لدى الحكومة الإسرائيلية يعرضها لمزيد من الضغوط الأميركية والدولية.

رابعًا- استمرار حملة المطالبة بتغيير حكومة نتنياهو "لأنها غير مؤهلة لتخليص إسرائيل من المخاطر المتربصة بها"، بحسب تعبير المعلق السياسي في صحيفة معاريف أبراهام تيروش، المعروف بمواقفه اليمينية (معاريف 21 نيسان 2010). وتدعو هذه الحملة إلى إحداث هذا التغيير بواسطة إحدى طريقين: إمّا من خلال تفكيك الائتلاف الحكومي الحالي بصورة تسفر عن خروج أحزاب اليمين المتطرفة منه (والمقصود أحزاب "إسرائيل بيتنا" و"شاس" و"البيت اليهودي") وانضمام حزب كاديما بدلاً منها، وبذا فإنها تصبح حكومة يمين- وسط أكثر اعتدالاً من الحكومة الحالية وتضم أحزاب الليكود وكاديما والعمل، وإمّا من خلال توسيع الائتلاف الحالي عبر ضم حزب كاديما والحدّ من نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة. وعادة ما تكون مثل هذه المطالبة مقرونة بالتأكيد أن هذه الحكومة عاجزة عن تحقيق اختراق يتعلق بالتسوية مع الفلسطينيين، ما يفتح المجال أمام احتمال فرض تسوية كهذه من الخارج تتماشى مع المبادرات الفلسطينية.

ويشار إلى أن الحكومة الإسرائيلية المصغرة للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت) استمعت خلال اجتماع لها، عقد في نهاية العام الفائت لتلخيص أبرز الأحداث السياسية- الأمنية للعام 2009، إلى تقارير أمنية، تمحورت حول الجمود في العملية السياسية، قدمها كل من رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، يوفال ديسكين، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، اللواء عاموس يادلين، ورئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، العقيد يوسي بايداتس، وقدمها مسؤولون آخرون من وزارتي الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي.

ووفقًا لصحيفة هآرتس فإن الرسالة الرئيسة من تقارير ديسكين ويادلين وبايداتس هي أن السلطة الفلسطينية تسعى إلى فرض تسوية سياسية "من أعلى" على إسرائيل بواسطة المجتمع الدولي، وأن "الهدوء الأمني في الضفة الغربية وحقيقة أن السلطة الفلسطينية تحارب الإرهاب بصورة ناجعة جعلا المجتمع الدولي يتوجه إلى إسرائيل ويطالبها بتحقيق تقدم سياسي".

وأضاف المسؤولون الأمنيون أنه في موازاة ذلك فإن السلطة الفلسطينية تنشط بموجب خطة رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض، المتمثلة في تنفيذ إصلاحات شاملة في مؤسسات الحكم وخصوصا في قوات الأمن والجهاز المصرفي، وأن الدمج بين تقليص النشاطات "الإرهابية" في الضفة وبين تطبيق خطة فياض بصورة فعلية "يؤجج ضغطا سياسيا على إسرائيل للتقدم (في اتجاه تسوية) مع الفلسطينيين".

وقال ديسكين ويادلين إن "الفلسطينيين يريدون مواصلة بناء الدولة من أسفل، وفي موازاة ذلك العمل مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل أن يفرض المجتمع الدولي تسوية على إسرائيل من أعلى".

وفي حينه نقلت هآرتس عن أحد الوزراء الإسرائيليين قوله، خلال اجتماع الكابينيت هذا، إنه "بسبب جمود العملية السياسية فقد نشأ فراغ دخلت إليه دول مع مبادرات خاصة بها ليست في مصلحة إسرائيل. وإن حقيقة أن الولايات المتحدة وصلت، هي أيضا، إلى طريق مسدودة في جهودها يزيد الوضع سوءا على سوء".