سربت الشرطة الإسرائيلية لوسائل الإعلام على مدار الأيام الأخيرة معلومات حول حل ألغاز جرائم قتل ومحاولات تصفية رؤساء عصابات، لكنها فرضت حظرا على النشر، لتسمح يوم 19 أيار الحالي، عبر افتعال أجواء درامية، بالنشر عن تفاصيل القضية المسماة "القضية 512"، التي تسلط الضوء على جزء من الأحداث الجنائية الكبيرة التي شهدتها إسرائيل خلال العقد الماضي.
يشار بداية إلى أن الشرطة حققت في جميع هذه القضايا خلال السنوات الماضية، لكنها لم تتمكن من جمع أدلة كافية من أجل توجيه لوائح اتهام، فيما ينفي المشتبهون بهم بارتكاب هذه الجرائم علاقتهم بها.
وسعت الشرطة الإسرائيلية إلى الكشف عن "القضية 512" واعتقال معظم زعماء عصابات الجريمة المنظمة، الواحد تلو الآخر، على مدار أيام تصدرت فيها هذه الاعتقالات عناوين وسائل الإعلام، التي أجرت مقابلات مع كبار المحامين الجنائيين الذي يمثلون زعماء العصابات، والذين أشاروا إلى حقيقة أن الشرطة حققت في كافة الشبهات ضد موكليهم ولم تنجح في الربط بينهم وبين الجرائم ولم تقدم لوائح اتهام ضدهم.
الجدير بالذكر أن إعلان الشرطة عن التحقيقات في "القضية 512" يأتي بعد سلسلة "فضائح" هزت أركان الشرطة الإسرائيلية وأدت إلى تراجع ثقة الجمهور بها.
وأبرز هذه الفضائح تتعلق بالكشف عن ظاهرة منتشرة بين قادة الشرطة وتتعلق بشبهات قيام ضباط شرطة كبار بالتحرش الجنسي بشرطيات عملن تحت إمرتهم. وفي هذا الإطار جرى إقالة أو استقالة 7 ضباط برتبة نقيب من أصل 18 نقيبا في سلك الشرطة، وقد أدى ذلك إلى إبقاء مناصب في الشرطة شاغرة لفترة معينة.
وقضية أخرى هزت أركان الشرطة هي "قضية رونيئيل فيشر"، على اسم المحامي رونيئيل فيشر، الذي نجح في اختراق جهاز الشرطة والنيابة العامة، من خلال دفع رشاوى. وأبرز أسماء هذه القضية هما عيران مالكا، ضابط التحقيقات الكبير في وحدة "لاهف 433"، المسؤولة عن "محاربة الإجرام المنظم والفساد السياسي العام"، والمحامية روت دافيد، النائبة العامة (السابقة) في لواء تل أبيب.
وثمة قضية ثالثة هي قضية الحاخام يشياهو بينتو، الذي يشتبه به بأنه دفع رشاوى لقائد شعبة التحقيقات في الشرطة، إفرايم براخا، بمبلغ 200 ألف دولار من أجل الحصول على معلومات بشأن تحقيق ضده يتعلق باختلاس أموال.
ويعتقد البعض أن الكشف عن "القضية 512" الآن يأتي بهدف تجميل صورة الشرطة وإلهاء وسائل الإعلام، وبالتالي الرأي العام، عن إخفاقات الشرطة وقصورها.
"معلومات ذهبية"
أطلقت الشرطة اسم الشيفرة "بوينغ" على ما وصفتها بالمعلومات "الذهبية" التي أدت إلى فتح "القضية 512"، التي اعتقلت الشرطة في إطارها أكثر من 60 مشتبها به، معظمهم من زعماء عصابات الجريمة المنظمة في إسرائيل.
ووفقا للشرطة، فإنها تمكنت في إطار هذه القضية من حل ألغاز 40 جريمة وقعت خلال الـ15 عاما الماضية، وبضمنها جرائم قتل ومحاولات قتل وجرائم خطيرة أخرى، بينها جرائم في مجال الاتجار بالمخدرات حول العالم.
وأفادت تسريبات من الشرطة إلى وسائل إعلام بأن الشرطة نجحت في تجنيد ثلاثة شهود ملك، وتجري محاولات لتجنيد آخرين، في إسرائيل وخارج البلاد.
وأعادت الشرطة فتح التحقيق في هذه الجرائم مجددا بفضل التعاون مع مكتب المباحث الفيدرالي الأميركي (FBI) ووحدة شرطة في إحدى دول أميركا الجنوبية. وقال ضابط شرطة ضالع في التحقيق في القضية لوسائل إعلام إن "هذا تحقيق قطع قارات وتخلله تعاون بين وحدات شرطة في عدة دول. وتوجد للأميركيين حصة كبيرة في هذه التحقيقات، إذ إنهم لم يساعدوا في جمع مواد التحقيق فقط، وإنما أيضاً وفروا غلافا لوجيستيا لقسم من عمليات الشرطة في إطار القضية".
وعملت وحدات خاصة في الشرطة الإسرائيلية، وفي مقدمتها الوحدة القطرية لمكافحة الاحتيال والجريمة المنظمة ("لاهف 433")، منذ سنوات على جمع وبلورة أدلة جديدة في هذه القضية، وبالأساس في تجنيد شهود ملك.
المجرمون والشبهات ضدهم
جميع المعتقلين في هذه القضية هم مجرمون معروفون وبعضهم يقبع في السجن بعد إدانته بارتكاب جرائم أخرى. ومددت محكمة الصلح في مدينة ريشون لتسيون اعتقالهم، بناء على طلب الشرطة.
ومن بين أبرز المعتقلين إسحاق أبرجيل، الذي يقبع في السجن، ويعتبر زعيم أكبر عصابة في عالم الإجرام المنظم في إسرائيل. وهو مشتبه في إطار "القضية 512" بارتكاب جرائم قتل ومحاولات قتل وجرائم في مجال المخدرات. كذلك اعتقلت الشرطة شقيقه، مئير، المشتبه به بارتكاب جرائم قتل ومحاولة قتل والعضوية في تنظيم إجرامي والاتجار بالمخدرات وجرائم احتيال.
وتشير الشبهات ضد الأخوين أبرجيل إلى أنهما ضالعان في محاولتي قتل زئيف روزنشتاين، في تل أبيب في العام 2003، والتي راح ضحيتها ثلاثة مواطنين قُتلوا أثناء مرورهم في مكان تفجير سيارة ولا علاقة لهم بالجريمة. ويشار إلى أن روزنشتاين كان في تلك الفترة "الهدف رقم 1" للشرطة.
واعتقلت الشرطة العشرات من رؤساء وأفراد تنظيمات إجرامية تابعة لتنظيم أبرجيل، وتنشط في مناطق القدس وريشون لتسيون وبات يام وإيلات، وأبرزهم أفي روحان، المشتبه به بارتكاب جرائم قتل ومحاولة قتل والمتاجرة بالأسلحة. ومعتقل آخر بارز هو موطي حاسين، وهو أحد أبرز قادة التنظيم الذي يتزعمه إسحاق أبرجيل.
ونشرت الشرطة قسما من الشبهات ضد هؤلاء المعتقلين، وهي محاولتا قتل روزنشتاين، في العامين 2003 و2004. ويقبع روزنشتاين في السجن، بعد الحكم عليه بالسجن لمدة 17 عاما في أعقاب إدانته بالتآمر على تنفيذ جريمة واستيراد وتصدير مخدرات.
وتتعلق قضية أخرى باختفاء المجرم ميخا بن هاروش في جنوب أفريقيا، في العام 2005، ولم يتم العثور عليه أو على جثته حتى اليوم. وتشتبه الشرطة بأن للمعتقلين من تنظيم أبرجيل علاقة باختفائه، وربما قتله.
وتصف الشرطة قضية أخرى تشتبه بضلوع المعتقلين فيها بأنها "قضية مخدرات حول العالم"، وفي إطارها تمكن الأخوان أبرجيل، في العامين 2002 – 2003، من إنشاء شبكة تجارة عالمية بمخدرات الإكستازي. وتقول الشرطة إن إسحق أبرجيل هو أحد أكبر مزودي الإكستازي في الولايات المتحدة، إضافة إلى أنه يعمل في دول أوروبية وإسرائيل. وتعتبر الشرطة أنها نجحت في حل لغز شبكة التهريب بواسطة شهود ملك كشفوا تفاصيل كثيرة حول الشبكة، وبينهم شخص مقرب جدا من الأخوين.
وقالت تقارير إعلامية إن الرأي السائد في أوساط الجهات الإجرامية في إسرائيل هو أن الشرطة نجحت في تجنيد مجرم كبير كشاهد ملك، وكان قد هرب من إسرائيل في أعقاب محاولة اغتيال روزنشتاين، ويصفون ذلك بأنه "تجنيد جوهرة".
ووفقا لهذه التقارير، فإن تجنيد هذا المجرم كشاهد ملك أدى إلى تقدم في التحقيق الذي كان عالقا لأكثر من عشر سنوات. وكانت الشرطة قد جندت في الماضي شاهد ملك، لكنها لم تنجح في جمع أدلة من أجل تقديم لائحة اتهام وتجريم قادة تنظيم أبرجيل. وشاهد الملك الجديد يقيم حاليا خارج البلاد، وهم مجرم مطلوب لدى الانتربول وFBI والشرطة الإسرائيلية، ويعتبر أحد تجار الإكستازي في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية.
واعتقلت الشرطة، يوم الاثنين الماضي، زعيم التنظيم الإجرامي آسي أبوطبول، في إطار "القضية 512". وأبوطبول الذي يقبع في السجن في أعقاب إدانته بتزعم تنظيم إجرامي، مشتبه به الآن بالضلوع في جريمتي قتل على الأقل وبمحاولة قتل واحدة، أصدر أوامر بتنفيذها بحق مجرمين معروفين في العامين 2000 و2001. واعتقلت الشرطة عددا من المجرمين الأعضاء في تنظيم أبوطبول.
وفي اليوم نفسه اعتقلت الشرطة نيسيم ألبرون، وهو أحد وجوه الجريمة المنظمة المعروفين، وذلك بشبهة ضلوعه في قتل فيليكس أبوطبول، شقيق آسي، أمام كازينو بملكيته في براغ. واعتقلت الشرطة ألبرون في مطار بن غوريون.
وقال محامي ألبرون، موشيه يوحاي، إن "الحديث يدور عن اعتقال لخدمة أغراض دعائية لإنسان خرج من عالم الجريمة منذ مدة. والهدف هو تعظيم القضية (512)".
واعتقلت الشرطة الأسبوع الماضي زعيم تنظيم إجرامي يدعى ريكو شيرازي، بشبهة ارتكاب جرائم قتل ومحاولات قتل، بينها محاولة قتل آسي أبوطبول في العام 2004.
الفرق بين التحقيقات الحالية والسابقة
تقول الشرطة إنه من خلال "القضية 512" تواصل التحقيق من النقطة التي توقفت فيها التحقيقات قبل سنوات في قسم من الجرائم، وأبرزها محاولة قتل روزنشتاين، بتفجير سيارته، التي راح ضحيتها ثلاثة مواطنين أبرياء.
ففي العام 2004، اعتقلت الشرطة عددا من المجرمين بشبهة ضلوعهم في محاولة قتل روزنشتاين. لكن بعد مرور شهرين على الاعتقال، الذي جرى بواسطة إصدار تصاريح خاصة من المستشار القانوني للحكومة والمدعي العام، لم يتم تقديم لوائح اتهام، وأخلي سراح المشتبه بهم.
وأدى إطلاق سراح المشتبه بهم إلى توجيه انتقادات شديدة نحو طاقم التحقيق في النيابة العامة، الذي ترأسته النائبة العامة في منطقة تل أبيب في حينه، المحامية روت دافيد، المتورطة حاليا في "قضية رونيئيل فيشر" المذكورة أعلاه.
وتعتبر الشرطة أن الفرق بين التحقيقات التي أجرتها حول قضية اغتيال روزنشتاين وقضايا أخرى، في منتصف العقد الماضي، وبين التحقيقات في إطار "القضية 512" الآن، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تقديم لوائح اتهام، هو أن الشرطة نجحت في هذه الأثناء بتجنيد أكثر من شاهد ملك.
ونقلت وسائل إعلام عن مصدر مطلع على التحقيق قوله إن "شاهد ملك، في معظم الحالات، هو الفرق بين القدرة على تقديم لائحة اتهام وبين عدم القدرة على توجيه أي اتهام. وفي هذه الحالة يدور الحديث عن أداة هامة للغاية، إذ يقف هنا شخص ويروي قصة مكملة للمعلومات الاستخباراتية التي جرى جمعها على مدار سنوات من أجل صنع خريطة تنظم كافة المعلومات الاستخباراتية، وهذا الفرق بين الوضع في العام 2004 والوضع الآن".
وتقول الشرطة إن ملف التحقيق الذي أعدته في العام 2004، يشكل الآن جزءا من الأدلة والمواد الأساسية في ملف "القضية 512". والفرق الذي يعزز الأدلة، الآن، هو أن شاهد الملك هو شخصية أهم بكثير من شاهد الملك الذي كان لدى الشرطة، العام 2004، إضافة إلى أن الأدلة التي جُمعت حينذاك تم إدخالها إلى مختبرات للشرطة أكثر تطورا بكثير مما كانت عليه في الماضي.
وقال ضابط في الشرطة إنه "توصلنا قبل ثلاث سنوات إلى تطور كبير في هذا التحقيق بسبب القدرات التكنولوجية الموجودة بحوزتنا اليوم".
وأضاف أنه من دون شاهد الملك الحالي، ما كانت "القضية 512" ستصل إلى حجم الأدلة الموجودة فيها اليوم. ومحاولات تجنيد هذا الشاهد، الذي كان أحد أبرز رجال تنظيم أبرجيل الإجرامي، من أجل الحصول على المعلومات التي بحوزته، استمرت سنوات وليس من جانب الشرطة الإسرائيلية فقط وإنما من جانب أجهزة شرطة أخرى في العالم أيضا، أرادت معلومات حول تجارة المخدرات التي قادها أبرجيل.
ويبدو أن سبب القدرة على تجنيد شاهد ملك "نوعي"، وربما أكثر من واحد كهذا، في الوقت الحالي، يعود إلى تشكيل "سلطة حماية الشهود" وبدء عملها منذ العام 2010، خاصة وأن عددا من الشهود الذين أدلوا بإفادات أدت إلى سجن مجرمين كبار في الماضي، دفعوا حياتهم ثمنا لشهادتهم.