تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 1962

حملت نتائج الانتخابات للكنيست الإسرائيلي الـ17 (جرت في 28 آذار/ مارس 2006) عدة دلالات سياسية واجتماعية وفكرية، تحيل أساسًا إلى التركيبة المتوقعة للحكومة الإسرائيلية المقبلة وإلى أجندتها العامة، بمقدار ما تحيل إلى مستقبل علاقة إسرائيل الخارجية مع الجانب الفلسطيني وخصوصًا ما هو متعلق بالعملية السياسية، فضلاً عن إحالاتها إلى التطورات الداخلية السياسية والاجتماعية والحزبية.

يتناول هذا التقرير أبرز هذه الدلالات وكيفية انعكاسها على تشكيلة الحكومة المقبلة وعلى برنامجها في المجالات السياسية والاقتصادية- الاجتماعية وفي مجال السياسة الداخلية حيال المواطنين العرب. كما يتطرق إلى تأثير تلك الدلالات على مستقبل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.

النتائج

 

أسفرت الانتخابات عن النتائج التالية:

·        حزب "كديما"- 29 مقعدا، 690095 صوتا.

·        حزب "العمل"- 19 مقعدا، 472146 صوتا.

·        حزب "شاس"- 12 مقعدا، 299130 صوتا.

·        حزب "الليكود"- 12 مقعدا، 282070 صوتا.

·        حزب "يسرائيل بيتينو" (إسرائيل بيتنا)- 11 مقعدا، 281850 صوتا.

·        تحالف "هئيحود هليئومي (الاتحاد الوطني)- المفدال"- 9 مقاعد، 223838 صوتا.

·        حزب "المتقاعدون"- 7 مقاعد، 185790 صوتا.

·        حزب "يهدوت هتوراة"- 6 مقاعد، 146958 صوتا.

·        حزب "ميرتس"- 5 مقاعد، 118356 صوتا.

·   القائمة العربية الموحدة (تحالف الحركة الإسلامية- الجناح الجنوبي والحزب الديمقراطي العربي والحركة العربية للتغيير)- 4 مقاعد، 94910 صوتا.

·        الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة- 3 مقاعد، 85980 صوتا.

·        التجمع الوطني الديمقراطي- 3 مقاعد، 72090 صوتا.

 

لماذا الوسط؟ وما هو على وجه التحديد؟

 

لعل أول ما يلفت النظر في دلالات نتائج الانتخابات للكنيست الـ17 أنه للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل يفوز بالانتخابات حزب جديد وينتزع السلطة التنفيذية من أيدي الحزبين التقليديين: "الليكود" و"العمل".. هذا الحزب- كديما- سوّق نفسه، منذ أن أسسه رئيس الوزراء السابق، أريئيل شارون، باعتباره حزب وسط. ويعني الوسط هنا، بادئ ذي بدء، مفهومًا ما بين الليكود، كيمين وبين العمل، كيسار، بمقدار ما يشكل "كديما" من توليفة بين الحزبين ومن استقطاب لقوى الوسط التقليدية التي التفت في الانتخابات السابقة حول حزب "شينوي" المندثر.

 

الاستنتاج المطلوب من ذلك أن التصويت لكديما يعكس، بكيفية ما، تبرّمًا بالطريقين التقليديين اللتين عرفتهما إسرائيل إلى الآن، وهما الطريقان اللتان ارتسمتا في الذهنية العامة بكونهما طريقي اليسار واليمين، ذواتي المقاسات الإسرائيلية المخصوصة.

 

ومن خلال الاستعانة بتحليل خبير عالمي في علم النفس السياسي (البروفيسور دانيئيل بار- طال) يمكن القول إن "المعسكر اليميني"، الذي يطلق عليه تسمية "القومي/ الوطني"، جبري، منقاد خلف شعار: لا حل سلميًا للنزاع في الشرق الأوسط (الإسرائيلي- الفلسطيني). إنه يركّب "نظارة سوداء" ويرى عبرها أن المستقبل ينذر بأعظم الشرور. أما "المعسكر اليساري"، الذي يطلق عليه تسمية " الحمائمي"، فهو مضغوط، هستيري، لكونه يشعر بأنه عاجز وليس في مقدوره التأثير على مجريات الأمور. كلا المعسكرين يهرب من الواقع، في التحصيل الأخير. "المعسكر اليميني" يفعل ذلك بواسطة التنكر لما يسميه بـ"علائم السلام". "والمعسكر الحمائمي" يعيش في وضعية تنصّل من المسؤولية وهروب من الواقع إلى عالم الخيال (اسكيبزم). وهو مقطوع من الأحداث، منعزل عن الواقع، أشبه بمن هاجر دون أن يترك البلاد فعلياً. بكلمات أخرى فإن هذا المعسكر الأخير فقد الدافعية لتغيير الوضع، بينما "المعسكر القومي" لا يرغب البتة في التغيير!

 

هنا يطرح السؤال: هل دافع هذا التبرّم هو سياسي محض، إلى ناحية الاستئناف بصورة رئيسية على جوهر التعاطي مع القضايا الخارجية الذي ميّز اليسار الإسرائيلي، من جهة وميّز اليمين الإسرائيلي، من الجهة الأخرى.

النتائج النهائية للانتخابات لا تقول هذا الأمر تحديدًا، وإن كانت تلمّح إليه.

 

ولعل ما ينبغي الانشغال به لتدعيم هذه الفكرة هو ما يلي:

§        تراجع نسبة التصويت، حيث أنها لم تتعد الـ63.2%. فهذا التراجع يكمن موقفًا لاأباليًا من قدرة الانتخابات في التأثير على مجريات الأمور في إسرائيل.

§        النجاح المفاجئ وغير المتوقع، على الأقل طبقًا لاستطلاعات الرأي، لقائمة "المتقاعدين" (سبعة مقاعد) التي جرفت أعدادًا كبيرة من الناخبين الشباب.

 

لماذا يشكل هذان المعطيان مؤشرًا بالغ الدلالة؟ لأن فيهما، بدايةً، عنصر التغيير الأبرز الذي انطوت عليه هذه الانتخابات الإسرائيلية.

فالمعطى الأول ينطوي على عدم وصول، وبالأحرى ينطوي على فشل الرسالة التي جرى بثها بشأن "مصيرية" هذه الانتخابات، على الصعيد السياسي، إلى قطاعات واسعة من الشارع الإسرائيلي. في حين ينطوي المعطى الثاني على اتجاه "الأمور المصيرية" التي يعتقد هذا الشارع بأنه ينبغي أن تكون لها أولوية على ما عداها من أمور.

 

التصويت الاجتماعي

 

هذه المحصلة كانت شبه حتمية، قبيل الانتخابات، طبقًا لما أوردته معطيات استطلاعات آراء الناخبين الإسرائيليين.

 

وفي المسألة الثانية تحديدًا- التصويت الاجتماعي- سبق لـ"مؤشر السلام" لشهر شباط/ فبراير 2006 أن أبان أن الجانب الاقتصادي- الاجتماعي قد تغلب على المسألة الأمنية كعامل حاسم في التصويت في تشرين الثاني 2005 مع انتخاب عمير بيرتس لرئاسة حزب "العمل"، حيث كانت النسبة 53 في المائة للعامل الاقتصادي ـ الاجتماعي مقابل 35 في المائة للعامل الأمني. ومع أنه في كانون الأول أصبحت النسبة 43 في المائة للعامل الأمني مقابل 37 في المائة للعامل الاقتصادي، وارتفعت النسبة في شباط لتصبح 47 في المائة للأمن مقابل 37 في المائة للاقتصاد، فقد أشار توزيع التقديرات حسب اتجاهات التصويت إلى أن أغلبية ناخبي حزب "العمل" يقدرون أن المسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية ستكون أهم بالنسبة لقرار الناخبين- 58 في المائة. أما بالنسبة لناخبي الليكود فقد كانت النسبة 36 في المائة وكديما 31 في المائة. وبطبيعة الحال لا يمكن التقليل من أهمية عامل فوز "حماس" في التأدية إلى هذه المعطيات الأخيرة.

 

غير أنه بموجب معطيات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، التي تتعاطى مع الموضوع نفسه ولكن بمقاس السنوات، عندما سُئل مواطنو إسرائيل في العام 1969 عن رأيهم في المشكلة الهامة التي يتوجب على الحكومة أن تعالجها قال 80 في المائة إنها المشاكل الخارجية، بينما قال 20 في المائة إنها القضايا الداخلية. وفي العام الأخير كان التوزيع: 38 في المائة للقضايا الخارجية، و62 في المائة للقضايا الداخلية. وبحسب المعطيات ذاتها فإنه قبل 37 سنة قال 98 في المائة من ناخبي الليكود إن الأمن و/ أو السلام هو المسألة الأساسية في اعتباراتهم الانتخابية، بينما كانت هذه النسبة 60 في المائة قبل ثلاث سنوات. أما عند ناخبي العمل فكانت النسبة: 80 في المائة في عام 1969، و50 في المائة في 2003.

 

ووفق المعلق الصحافي عوزي بنزيمان فإن هذا المؤشر يعكس، من جهة، مدى مثابرة الميل إلى الانعتاق من العبء الأمني النابع بدرجة كبيرة من استمرار السيطرة على المناطق (الفلسطينية)، ويعكس من جهة أخرى مدى مثابرة الميل إلى التمحور حول تحسين جودة الحياة داخل حدود الدولة، بمقدار ما يعكس كم أن هذا الميل بطيء جدًا. علمًا بأن هذا البطء يعزى أساسًا إلى إصرار المؤسسة السياسية الإسرائيلية على تكريس "فك الارتباط" بين الميلين رغم أنهما يكملان بعضهما البعض، بل ويمكن القول إنه لا يمكن تحقيق أحدهما دون توفر الثاني، وفقما عبّر عن ذلك الزعيم الجديد لحزب "العمل" عمير بيرتس بتساؤله: ما هي الفرصة التي ستتاح أمام الاقتصاد دون وجود عملية سياسية؟!..

 

قد يؤدي الأمر إلى قليل من التفاؤل الحرج بشأن التصويت الاجتماعي. ومع موقف كهذا ننتظر أن يكون المستقبل مفتوحًا على أفق سياسي ما باعتبار أن المفتاح للتغيير الاقتصادي- الاجتماعي كان ولا يزال سياسيا بامتياز..

 

هل انهار اليمين المتطرف فعلاً؟

 

اعتبر الكثير من المعلقين والمحللين وكتاب الأعمدة الصحافية الهزيمة النكراء التي مُني بها حزب "الليكود" مؤشرًا دالاً إلى انهيار اليمين المتطرف، الاستيطاني، وتحديدًا على خلفية موقفه ضد خطة الانفصال.

 

فهل انهار اليمين المتطرف فعلاً؟.

 

-         في جردة حسابية بسيطة، قد تبدو جافّة بغض الشيء، لا يجوز التغاضي عن أن قوة المعسكر اليميني المتطرف في الكنيست الـ17 قد ازدادت إلى حوالي نصف المقاعد الـ120. والمتشائمون أكثر قد يرون أن قوة هذا المعسكر تضاهي الغالبية المطلقة، أي 50 بالمائة زائد واحد.

إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا المعسكر الواضح يضم الأحزاب التالية: يسرائيل بيتينو، هئيحود هليئومي- المفدال، شاس، يهدوت هتوراة والليكود فإننا نصل إلى 50 عضو كنيست. وإذا أضيف إلى هؤلاء أعضاء كنيست يمينيون في كديما، مثل المستوطن عتانئيل شنلر ونائبة الوزير روحاما أبراهام والوزير تساحي هنغبي وأشباههم، فسنصل بسهولة إلى رقم يزيد عن 60 عضو كنيست.

 

-         في الكنيست السابق الـ16 بلغ عدد أعضاء كتل هئيحود هليئومي ويسرائيل بيتينو والمفدال 12 عضوًا. أما في الكنيست الحالي الـ17 فإن هذه الأحزاب الثلاثة ارتفع تمثيلها إلى 20 عضو كنيست، أي بزيادة حوالي ضعفين.

 

-         تتمثل إحدى ميزات العنصرية الشاطّة في الكنيست الجديد أيضًا في العودة التقليدية إلى استعمال مصطلح "الغالبية اليهودية"، المطلوبة لأية خطة منوطة بانسحاب من المناطق.

 

-         لا ينبغي التقليل من النزعات اليمينية الكامنة داخل حزب مثل "شاس"، مع أنه بالمفهوم العام لا يمثّل خيارًا سياسيًا. فقد طرأت على حزب شاس تحوّلات عميقة في السنوات الأخيرة، بحيث تحوّل إلى حزب سياسي يميني بشكل واضح للعيان بعد أن تردّد سنوات طويلة وراوغ بين اليمين وبين اليسار.

 

وخلافًا لما عهدناه في السابق، فإن الحزب نشر هذه المرّة (انتخابات 2006) خطوطه الانتخابية الأساسية، وقد جاء في مطلعها أنه "يؤمن بكون دولة إسرائيل دولة الشعب اليهودي تقوم على مبادئ ديمقراطية بما يتفق مع توراة شعب إسرائيل". كما يطمح الحزب إلى "تجميع الجاليات اليهودية من كل بقاع الأرض بغية بناء البيت اليهودي في دولة يهودية كبيرة وقوية في جميع أرجاء أرض إسرائيل". وتطلعنا خطوط الحزب على أنه يحترم الشواذ في المجتمع ويدعو إلى التسامح معهم، بحيث أن السلام يبدأ من الداخل، من خلال المحبة بين المجموعات المختلفة في المجتمع، وفي علاقة نديّة مع أبناء الديانات الأخرى واحترام حقوقهم. وتضيف هذه الخطوط بأن حزب "شاس" يسعى ويطمح إلى أن تعيش إسرائيل بسلام وأمن مع جيرانها الدول العربية استناداً إلى أركان أمنية تهدف إلى الحفاظ على كل نفس في شعب إسرائيل.

إضافة إلى ذلك فإن حزب "شاس" يشجّع تطوير كل أطراف أرض إسرائيل: يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، النقب والجليل. لهذا يرى الحزب لزامًا عليه أن يرعى المسائل التالية: "الاستمرار في تطوير الاستيطان في يهودا والسامرة بما يتفق مع قرارات الكنيست والحكومة؛ وتطوير الجليل والنقب بغية تدعيم سكّان الأطراف".

ولا بدّ أن يلاحظ من هذا كلّه المدّ اليميني الذي طاول حزب "شاس". فهو يشدّد على أنه لا يعترف بالشعب الفلسطيني ولا بوجوده في الضفة والقطاع، كما لا يعترف بوجود أقلية فلسطينية أو عربية بين ظهراني الدولة، وإنما يرى بهم أقليات دينية يتوجب التسامح معهم. كذلك فقد ربط السلام مع الدول العربية بشرط يستحيل تطبيقه ألا وهو أن هذا السلام مرهون بعدم قتل أي يهودي. ويلاحظ بأن هذا الشرط يتغذّى من الفتوى التي أطلقها عوفاديا يوسيف في عام 1978، وعاد ونشرها لاحقًا واشتهرت باسم فتوى "الأرض مقابل السلام"، والتي طالما تغنّى بها اليسار الإسرائيلي من دون قراءتها. ولكن هذه الفتوى ترهن هذا السلام، بداية، بالأمن والتفوق العسكري الإسرائيلي، وثانيًا، بعدم قدرة إسرائيل على مواجهة العالم، ولكن في حال حصول قوة كهذه لإسرائيل أو للشعب اليهودي فإنه يتوجب على الدولة "قتل كل نفس غير يهودية وهدم أنصابها ومعابدها ودفعها للخروج من حدود أرض إسرائيل".

لكن حزب "شاس" يعمل في ثلاث جهات في توجّهاته وخطابه السياسي الديني والاجتماعي. فهو يتوجّه إلى العلمانيّين والتقليديّين من الشرقيين والفقراء والطبقة الدنيا في المجتمع الإسرائيلي عبر خطاب اجتماعي- اقتصادي يقول بوجوب تحقيق مكاسب رفاه اجتماعي للطبقات الدنيا في المجتمع. كما أنه يتوجّه إلى الشريحة المتديّنة في المجتمع الإسرائيلي، من خلال خطاب "عودة الماضي التليد"، أي إعادة المكانة المرموقة للشريعة اليهودية بحيث تعود إلى سابق عهدها كالحاكم الفصل في أمور الدنيا والدين. وأخيرًا، فهو يتوجّه إلى الشريحة اليمينية في المجتمع الإسرائيلي، وبخاصة إلى الشرقيّين منهم.

 

عن "الإجماعات الوطنية" الإسرائيلية الراهنة

 

شهدت انتخابات الكنيست الـ17 مجموعة من "الإجماعات الوطنية"، التي على ما يبدو ستتحكم في التطورات المقبلة.

ونشير في هذا الشأن على ما يلي:

-         مضت إسرائيل إلى هذه الانتخابات وهي أكثر تمسكًا بسياسة الضمّ والتوسّع والعدوان، التي لم تكفّ عنها يومًا. أما "الرؤيا" حول حلّ "دولتين للشعبين"، التي لا ينفك البعض يروّج لرسوخها في المسلكية السياسية الإسرائيلية العامة، فتبقى في هذه البرامج لا أكثر من "ضريبة كلامية" بينما هي في الممارسة مجرّد رؤيا غائمة مغلّفة بكل ما في مقدوره أن يفضي إلى المزيد من تمكين الدولة الإسرائيلية وتعزيز أمنها، في جهة وإلى استئصال كل ما من شأنه أن يجعل الدولة الفلسطينية العتيدة دولة قادرة على الحياة، وخصوصًا موردي الأرض والحيّز، في جهة أخرى موازية ومكمّلة.

الصحافي جدعون ليفي ("هآرتس") أشار، مثلاً، إلى ولادة "إجماع وطني" جديد في المجتمع الإسرائيلي في الآونة الأخيرة حول ما يعرف بـ"الكتل الاستيطانية". كما أشار إلى أنه في الوقت، الذي يشير فيه المحللون واستطلاعات الرأي إلى انزياح مزعوم نحو اليسار وإلى وجود أغلبية مؤيدة لإقامة دولة فلسطينية وإخلاء مستوطنات، تتزحزح الخارطة الحقيقية يمينًا وبصورة متطرفة. فإن برامج الأحزاب الكبرى الثلاثة كديما والعمل والليكود- يمين ووسط ويسار كما يبدو ظاهريًا- موحّدة تماما في إجماعها حول إبقاء المستوطنات الكبرى في يدي إسرائيل. وحتى برنامج جنيف، الذي يعتبر "متطرفًا" (من وجهة النظر الإسرائيلية الرسمية والشعبية)، يبقي معاليه أدوميم في داخل إسرائيل.

"فجأة- يقول ليفي- ينهض الإنسان في الصباح ويكتشف أن حوله إجماعًا جديدًا: ليس واضحًا تمامًا كيف تبلور الإجماع اليميني فجأة. ذات مرة كان هناك إجماع حول القدس والآن أصبح حول نصف الضفة، ومع ذلك يطلقون على هذا: زحزحة نحو اليسار".

والحقيقة أنه قبل ليفي بوقت كثير كتب المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس" ألوف بن، تحت العنوان "فرحة البلدوزر"، فيما يشبه النبوءة، يقول إن من يعتقد بأن أريئيل شارون تحوّل إلى يساري وبدأ الاهتمام بـ"حقوق الفلسطينيين" على خلفية "خطة الانفصال"، يكون كمن ارتكب خطأ جسيمًا. فشارون لا يزال يعتقد أن البلدوزرات والشقق السكنية هي التي تحسم الحدود، بتأييد ودعم من أميركا. وأضاف أن "سياسة الكتل الاستيطانية" التي اتبعها شارون تُصيب قلب الوسط السياسي في إسرائيل. فإن الجميع يحبون معاليه ادوميم وأريئيل، باستثناء حركة "سلام الآن" وبعض الزاعقين من اليسار (يقصد اليسار الراديكالي، لا الصهيوني). فإيهود باراك، الذي كان آنذاك يريد منافسة شارون، يلتف عليه من اليمين ويحذّر من فقدان "الكتل الاستيطانية" بسبب النهم المفرط. وشمعون بيريس تمتم محتجا على "توقيت" الإعلان عن خطة البناء في معاليه أدوميم، لكنه لم يعترض على المبدأ. والنتيجة المطلوب استخلاصها هي أن الانتخابات القادمة ستدور، إذًا، حول قضية من الذي سيحافظ على أريئيل وبيت آرييه أفضل من الآخر؟.

-         إذا أضفنا إلى الإجماع الذي يقول به ليفي "إجماعًا وطنيًا" آخر لدى تلك الأحزاب حول وجوب الانفصال ديمغرافيًا عن الفلسطينيين دون الحاجة إلى تحقيق حل عادل ودائم، أي دون الحاجة إلى الانسحاب إلى حدود العام 1967 ودون حق العودة ودون القدس، فإن الكلام السالف يحيل، ضمن أشياء أخرى، إلى طمس الفوارق بين ما يسمى بـ"يمين" و"وسط" وحتى بين هؤلاء وبين ما يسمى بـ"يسار"، في الخريطة الحزبية الإسرائيلية، في حمأة انتخابات يتفق الجميع على كونها مصيرية. بل إن واقع الحال والبرنامج الانتخابي يقتضيان السؤال فيما إذا كان حزب "ميرتس" نفسه ما زال في "اليسار" الذي اعتبر حتى وقت قريب أحد رموزه الدالة، في حين أن برنامجه الانتخابي لا يستأنف، حتى لا نقول يؤيّد، على هذا الضمّ، ويؤيّد "قانون العودة" العنصري ويعارض حقّ العودة المشروع، بحجة الخشية من أن يهدّد الأخير الطابع اليهودي لإسرائيل، الذي جاء الأول من أجل تدعيمه.

-         ينضوي حزب "ميرتس"، وفق برنامجه المنشور، تحت كنف "إجماع وطني" آخر يقول بأن التفاوض مع أية حكومة فلسطينية لا ينبغي أن يتم قبل أن تتوفر فيها الشروط التالية: تعترف بإسرائيل، تتبرّأ من الإرهاب وتحترم الاتفاقيات التي تمّ توقيعها بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا يلبث أن ينتقل منه ليرتمي في أحضان "إجماع وطني" ثالث حول الخطوات الأحادية الجانب، مع فارق أن تأييده لهذه الخطوات يأتي من باب مناداته بإنهاء الاحتلال، لأن ذلك ينطوي أيضًا على مصلحة إسرائيلية، ولا غضاضة في ذلك.

-         أكثر مصطلح يخطف الأبصار في البرامج الانتخابية هو مصطلح "الخطوات الأحادية الجانب"، سواء ورد ذكره في البرامج التي تتبناه وتؤيده أو في البرامج المعترضة عليه، علمًا بأن المعترضين عليه لا يفعلون ذلك بدافع الحماس للوصول إلى تسوية من خلال الاتفاق مع الطرف الآخر. ومن هذا التناقض بين الفئتين يتولّد، للمفارقة، "إجماع وطني" مفاده أن إسرائيل وحدها هي التي يجب أن تمتلك مفاتيح الحلّ والربط، في كل ما يتعلق بصيرورة الصراع مع الفلسطينيين.

-         من أكثر الأمور لفتًا للنظر أيضًا في البرامج الانتخابية أن التشديد على وجوب "يهودية إسرائيل" يأتي فوق أي اعتبار. وإن لهذا الأمر، ناهيك عمّا ذكر، دلالات داخلية، بشكل خاص في المواقف المعبّر عنها من قبل بعض هذه البرامج حيال المواطنين العرب في الداخل، إلى ناحية إمعان إسرائيل في تعميق الكولونيالية الداخلية، وهو ما تجسّده، ليس على سبيل الحصر، المخططات الرسمية الأخيرة الرامية إلى ترحيل العرب من النقب والداعية إلى تطبيق ترانسفير ضد العرب في المثلث تحت شعار "تبادل مناطق"!.

 

في السياسة الداخلية- الأقلية العربية

 

لم يعد خافيًا أنه في المفترق التاريخي الحالي اختارت إسرائيل طريق تعميق الكولونيالية الداخلية.  صحيح أن السيطرة والتمييز تجاه الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل ليسا بالشيء الجديد كما هو معروف، لكنهما يسيران كما يبدو في منحى التعاظم والتفاقم في أعقاب الانسحاب من غزة وفي خضم التوقعات بحصول انسحابات أخرى.

 

ولعل إيراد عدة أمثلة من الفترة الأخيرة كفيل بإثبات صحة ذلك:

 

-         بدايةً هُناك النقاش المستمر لـ"المشكلة الديمغرافية" والذي يوّلد سَيلاً من المبادرات الرامية إلى إقصاء العرب من الحياة الإسرائيلية.  وتشمل هذه المبادرات الاقتراحات الداعية إلى "تبادل سكاني" بين المستوطنات (في الضفة الغربية) ومنطقة المثلث (داخل الخط الأخضر) والتي سيتعين في نطاقها على عرب المثلث أن يدفعوا مكانتهم المدنية ثمناً لجريمة المستوطنات التي بنتها إسرائيل، هذا أولاً.

-         ثانياً هناك خطط مختلفة مطروحة للنقب- وخاصة مبادرة مجلس الأمن القومي الإسرائيلي- تساند وتدعو إلى إخلاء قسري لقرى البدو القائمة في معظمها على أراضي آبائهم وأجدادهم.

-         ثالثاً، أنظمة حالات الطوارئ التي تحظر منذ عدة سنوات تجسيد أحد حقوق المواطن الأساسية جداً، وهو جمع شمل عائلات مواطنين عرب من إسرائيل مع فلسطينيين (زوجات وأزواج) من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967.

 

هذه المبادرات تسوّقها الدولة بغطاء مكشوف، من قبيل: (فرض) "القانون والنظام" في موضوع البدو، و"السلام" في موضوع نقل المثلث، أو "منع الإرهاب" في قضية جمع شمل العائلات.

لكن هذه الذرائع الواهية والكاذبة تخفي وراءها العنصرية العميقة للدولة الإثنوقراطية التي تعمل دون كلل، وبشكل لا ديمقراطي، على تعميق السيطرة اليهودية وسط إقصاء وحرمان السكان العرب في إسرائيل من موارد القوة والأراضي العامة.

 

ومؤخرًا نشرت لجنة الدستور التابعة للكنيست مسودة الدستور العتيد للدولة.  هؤلاء السياسيون أنفسهم، الذين تلهج حناجرهم بأهمية الدستور الديمقراطي، يصممون ويصوغون في الوقت ذاته سياسة تحول إسرائيل إلى دولة أبرتهايد زاحف.

 

 

اتجاهات في مجرى تشكيل الحكومة المقبلة

 

مع أنه من السابق لأوانه أن نحدّد بشكل دقيق الأجندة العامة للحكومة الإسرائيلية المقبلة برئاسة إيهود أولمرت، والتي ستتراوح على حديّ السياسي- الأمني والاقتصادي- الاجتماعي، فإن هناك في الأفق عدة اتجاهات أصبحت منذ الآن واضحة في مجرى المفاوضات الجارية لتشكيلها على قاعدة برلمانية واسعة.

 

ويمكن إجمال هذه الاتجاهات على الوجه التالي:

 

·        انتهت عشية عيد الفصح العبري (صادف أمس الأربعاء، 19/4/2006) جولة جديدة من المفاوضات الائتلافية وسط توقعات بأن يضم الائتلاف الحكومي الجديد، إضافة إلى "كديما" (29 نائبًا)، كلاً من "العمل" (19) وحزب "شاس" (12) وحزب "يسرائيل بيتينو" (11) وحزب "المتقاعدون" (7) وحزب "يهدوت هتوراة" الدينية الإشكنازية (6 نواب).

ونقلت عدة وسائل إعلام إسرائيلية عن مصدر مطلع في "كديما" تقديره بأنه ابتداء من نهاية الأسبوع الجاري سيكون ممكنًا طرح مسودة اتفاقية ائتلافية على الأطراف المذكورة، في حين أن موضوعًا واحدًا على الأقل لا يزال موضع خلاف مع كل طرف منها على حدة، وذلك على النحو الآتي:  حزب "العمل"- موضوع الحد الأدنى للأجر، "شاس"- مخصصات الأولاد، "يسرائيل بيتينو"- البرنامج السياسي، "يهدوت هتوراة"- قضايا تتعلق بالزواج الديني، "المتقاعدون"- صياغات أخيرة في قضايا مخصصات الشيخوخة.

وأضاف هذا المصدر أن نهاية الأسبوع الجاري وبداية الأسبوع القادم ستشهدان "جهود تجسير الفجوات الأخيرة" وبعد ذلك يمكن الدخول في المواضيع الشخصية (توزيع الحقائب) حيث من غير المتوقع أن تحدث فيها أزمة، على حدّ قوله.

 

·        أكدت تقارير صحافية إسرائيلية متطابقة أن زعيم حزب "كديما" المكلف بتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة ايهود أولمرت عاقد العزم على تنفيذ "خطة التجميع/ الانطواء"، القاضية بترسيم حدود الدولة العبرية بشكل أحادي الجانب من خلال تجميع المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية في الكتل الاستيطانية الكبرى المقامة على نحو ثلث أراضي الضفة، حتى موعد أقصاه تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، موعد انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش.

وذكرت كبرى الصحف العبرية أن الطاقم الذي شكله أولمرت لإجراء المفاوضات الائتلافية مع مختلف الأحزاب بلّغ طواقم هذه الأحزاب نية أولمرت تطبيق خطته في غضون العامين المقبلين، وأنه تم تحديد جدول زمني يتلاءم ونهاية ولاية بوش، لاعتقاده أن الرئيس الأميركي سيوفر دعماً دولياً واسعاً للخطة.  وكان أولمرت قال سابقاً إنه يعتزم إكمال تطبيق خطة الانطواء في حلول العام 2010.

 

·        يطالب حزب "العمل" بأن تكون الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الجديدة واضحة تقبل بها كل الأحزاب المشاركة في الائتلاف. ويحاول مفاوضو الحزب إقناع طاقم "كديما" بأن لا تقوم الخطوط العريضة للحكومة على "خطة الانطواء"، إنما على خطاب النصر الذي ألقاه أولمرت بعد فوز حزبه في الانتخابات ولم يأت فيه على ذكر الخطة بالاسم، إنما تحدث عن أن "إسرائيل ستأخذ مصيرها بيدها على أساس توافق قومي واسع وتفهم عميق من أصدقائنا في العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة والرئيس جورج بوش. سنعمل أيضاً في غياب اتفاق مع الفلسطينيين ولن ننتظرهم إلى أجل غير مسمى. لقد حان الوقت لنعمل".

ويؤيد "العمل" مبدئياً خطة تجميع المستوطنات في الكتل الاستيطانية الكبرى وضمها إلى إسرائيل، لكنه يفضل أن يتم ذلك في حال قادت المفاوضات مع الفلسطينيين التي يحدد لها عام من الزمن، إلى طريق مسدود.

 

·        يرى أقطاب حزب "شاس" أن الطريق إلى الائتلاف ممهدة وأن الزعيم الروحي للحزب، الحاخام غوفاديا يوسيف، المعروف بمواقفه اليمينية، سيعرف كيف يجد "فتوى" لتقبل الحركة بالخطوط العريضة للحكومة وبالانسحاب الأحادي، وهو القائل ذات مرة إنه يفضل السلام على الأرض.

 

·        يبدو حزب "يسرائيل بيتينو"  بقيادة المتطرف أفيغدور ليبرمان متحمساً جداً ليكون جزءاً من الحكومة الجديدة وهو أيضاً أخذ يستعد لتبرير موافقته على خطة أولمرت من خلال اعتبار "فك الارتباط" عن غزة انسحاباً أحادياً - يرفضه الحزب - فيما خطة أولمرت تضمن برأيه دولة يهودية ذات غالبية يهودية، كما يطرح الحزب في برنامجه السياسي. ويطالب الحزب لقاء تأييده الخطة، بأن تضمن الحكومة الجديدة تأييداً دولياً لخطة الانطواء واعتراف المجتمع الدولي بالحدود التي سترسمها إسرائيل لنفسها!

 

·        وفقًا لمصادر موثوقة ستكون حكومة أولمرت طيّعة لرغبة حزبه الأساسية في ترسيم الحدود من طرف واحد. ويضيف بعضها أن أولمرت مستعد لتقديم نوعين من التنازلات لتشكيل حكومته: الأول ما يمكن وصفه بـ"تنازلات اجتماعية" عن سياسة بنيامين نتنياهو السابقة إرضاء لـِ"العمل" و"المتقاعدين" و"شاس" . والأمر الثاني هو أن الحلول الوسط الاجتماعية التي سيقوم بها أولمرت ستكون محدودة لكونه فكريًا قريبًا من سياسة نتنياهو الاقتصادية وهو يرى أن نتنياهو قام بدوره في زيادة معدلات النمو الاقتصادي عبر ضرب المنجزات الاجتماعية والآن باستطاعة اولمرت أن يعود فيمنح بعض المخصصات، أقل مما كان قبل نتنياهو وأكثر مما كان أيام نتنياهو معتمدًا عمليا على انجازات هذا الأخير الاقتصادية. هنا يجب التذكير أن أولمرت هو من نفس مدرسة نتنياهو الاقتصادية لكنه سيكون مستعدًا لتقديم تنازلات من أجل تشكيل الائتلاف ومن أجل المهمة الأساسية وهي فرض الحدود السياسية مع الفلسطينيين من طرف واحد.

 

·        هل ستعكس هذه الحكومة رأي غالبية الشارع الإسرائيلي؟

يجدر هنا استعادة ما قاله أحد المعلقين عن حقيقة أن نحو 40 في المائة من الإسرائيليين لم يصوتوا، وأحزاب مثل المتقاعدين وشاس لم تمثل خيارا سياسيا. وحزب كديما حاز على حوالي 20 في المائة من الأصوات فقط، وهذه ليست أغلبية بكل تأكيد. لكن يصح أن يقال إنه في هذه الانتخابات لم يطرح مشروع سياسي بديل لكديما في المجتمع الإسرائيلي، في حين كانت مهمة هذا الحزب الانتخابية هي الطرح السياسي بالتحديد. ما طرح على الإسرائيليين من بديل هو الاستمرار في الوضع الراهن- بحسب طرح اليمين المتطرف - فيما اليسار الصهيوني، هذا إذا اعتبرنا حتى "العمل" يسارًا صهيونيًا، اذدنب لمشروع الفصل الديمغرافي ولم يعد له مشروع بديل، والمجتمع الإسرائيلي انتخب ما هو مطروح.

كما أنه منذ كامب ديفيد (2000) لم تطرح النخبة الإسرائيلية سوى مشاريع تنطلق من أنه لا يوجد طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه، والاستنتاج بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي يكون بالتالي دعم فك الارتباط من طرف واحد دون حل عادل للقضية الفلسطينية، وهو استنتاج خطير بكل تأكيد.

 

أجندة أولمرت السياسية

في الواقع لن يكون تشكيل حكومة بقيادة "كديما" ورئاسة أولمرت انقلابًا كبيرًا عما كانت عليه الحال من قبل. ويتفق أكثر من مراقب للسياسة في إسرائيل على أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى والقدس في أيلول 2000، انتقل المفهوم الإسرائيلي للنزاع من عملية التسوية إلى عملية إدارة النزاع.  وفيما كانت تسوية النزاع تستهدف التوصل إلى اتفاق سلام بين الطرفين، فإن إدارة النزاع تعتبر بمثابة خيار افتراضي، اضطراري، طالما أنه لا يمكن تسوية النزاع، وهي (إدارة النزاع) عملية تهدف بالأساس إلى الحدّ من العنف أو حتى وضع حدّ له وذلك لضمان استئناف العملية السياسية.

 

صعود "حماس" إلى السلطة لم يؤثر من حيث المبدأ على تسوية النزاع نظراً لأن هذه الإمكانية (التسوية) لم تكن قائمة أصلاً، مع ذلك فقد أدى صعود "حماس" إلى إضعاف فرصة استئناف العملية السياسية. كما أنه لا يمكن التغاضي عن أن صعود "حماس" أدى إلى تعزيز الرؤية الإسرائيلية حول إدارة النزاع من طرف واحد، خاصة عن طريق الفصل والانفصال.  ويعتبر ذلك بمثابة انتصار للرؤية التي ظهرت عقب فشل العملية السياسية في تموز/ يوليو 2000، وتعززت بعد اندلاع الانتفاضة (الثانية) ولا سيما إثر صعود أريئيل شارون للسلطة في شباط/ فبراير 2001.

 

ترتكز رؤية الانفصال إلى فرضيات أساسية أهمها:

·        عدم إمكانية المحافظة على الوضع القائم (الستاتوس كوو) الإقليمي والسياسي والعسكري سوى مقابل ثمن باهظ للغاية.

·        بدون فصل وفك ارتباط يمكن للتهديد الديمغرافي أن يشكل خطراً على إسرائيل كدولة يهودية، ومن شأن الانفصال أن يؤدي إلى الحد من العنف.

·        بدون مبادرة إسرائيلية ستظهر مبادرات سياسية (بما في ذلك خريطة الطريق) من شأنها أن تشكل خطراً على إسرائيل.

 

في الوقت الراهن تمثل الإدارة الأحادية الجانب للنزاع أو حتى صيغة لتسوية أحادية للنزاع أولوية عليا لدى إيهود أولمرت وذلك بحكم التقدير أن تسوية النزاع أو إدارة النزاع بشكل مشترك مع الفلسطينيين بصفة عامة ومع "حماس" بصورة خاصة هي أمر غير ممكن.  وبالإضافة إلى استخدام مصطلح انفصال هناك استخدام لمصطلحين إضافيين جديدين: عزل وتجميع، وبينما يعتبر مصطلح "عزل" مصطلحاً إشكالياً أكثر نظراً لأنه يتعلق بعزل الضفة الغربية عن قطاع غزة، فإن "التجميع" يعد مصطلحاً مريحاً أكثر، ذلك لأنه مرتبط ظاهرياً بجهد ذاتي، جهد داخلي غير مرتبط بالآخر، وهو بالقطع مصطلح مريح أكثر من مصطلحات مثل انفصال أو فصل.

وينطلق أولمرت من فرضيات أساسية مشابهة لفرضيات شارون الأساسية، وهذه الفرضيات هي الفرضيات القديمة التي وقفت وراء الانفصال عن غزة و"شمال السامرة" (شمال الضفة الغربية)، والتي تقضي بانعدام الفرصة لتسوية وإدارة مشتركة للنزاع مع الفلسطينيين وتقضي في الوقت ذاته باستحالة الحفاظ على الوضع القائم.

وبحسب أولمرت فإن الوضع الحالي سيء ويؤدي إلى "احتكاكات يومية تولد عنفاً وتتسبب في نفقات ضخمة، وليس هناك أي أمل في أن ينتج عن ذلك واقع إيجابي لإسرائيل.  نحن ملزمون بالتجمع داخل كتل المستوطنات وبتقليص العنف إلى الحد الأدنى".  هذا يعني أن إسرائيل ملزمة بأخذ زمام المبادرة والقرار والعمل، وكما قال أولمرت في نفس السياق "نحن الذين سنحدد أجندتهم وأجندتنا وكذلك الجدول الزمني".

 

رؤية أولمرت هذه تنطلق بالأساس من الشعور بأن الواقع الحالي خلق فرصة نادرة يتعين على إسرائيل استغلالها خلال السنوات الأربع المقبلة (حتى انتخابات الكنيست في العام 2010) من أجل القيام بخطوات تاريخية وخاصة رسم الحدود الدائمة التي تضمن بقاء إسرائيل كدولة يهودية، تعيش فيها أغلبية يهودية راسخة ومستقرة بعيداً عن أي خطر أو تهديد.

وتشمل نافذة الفرص هذه أيضاً صعود "حماس" إلى السلطة، وهو ما يتيح لإسرائيل انتهاج سياسة تقوم على المبادرة، ويجبر الفلسطينيين في الوقت ذاته على الحسم الداخلي الذي يفرضه عليهم فوز "حماس".

 

على الرغم من أن أولمرت لا يحدّد عدد المستوطنات التي سيتم إخلاؤها، أو عدد المستوطنين الذين سيتم إخلاؤهم، إلاّ أن انفصالاً واسع النطاق في الضفة الغربية يهدف إلى إقامة فصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يتطلب تلقائياً، برأي المراقبين أنفسهم، إخلاءً على نطاق واسع لمستوطنات ومستوطنين (حوالي 80 ألف مستوطن).  ويحرص أولمرت (خاصة في ضوء ما تعلمه من تجربة إخلاء نقطة الاستيطان "عمونا") على التأكيد بأنه سيجري "حواراً داخلياً" مع أي جهة في الائتلاف وخارجه وبضمن ذلك مع المستوطنين، وذلك من أجل التوصل إلى "اتفاق وتفاهم- داخلي- حول الحدود المستقبلية" بالإضافة إلى "مفاوضات مع الجمهور الإسرائيلي بواسطة ممثليه السياسيين" ستتمحور حول ذات الموضوع [إخلاء مستوطنات خلف جدار الفصل مقابل "التجميع" داخل كتل استيطانية وتعزيزها].

 

بطبيعة الحال فإن التوصل إلى تفاهم وتوافق (إسرائيلي داخلي) حول هذا الموضوع هو ضرورة حيوية لنجاح الخطة، لكن من المشكوك فيه التوصل إلى مثل هذا التوافق في ظل وضع لن تكون فيه تسوية للنزاع ولا ينطوي على أي مقابل فلسطيني.  لذا فإن أي إخلاء لمستوطنات في الضفة سوف يصطدم على الأرجح بمقاومة واسعة وشديدة جداً ليس من جانب المستوطنين وحسب وإنما أيضاً من جانب أحزاب اليمين وأنصارها.