تثير الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة التي تعصف بالدولة اللبنانية هذه الأيام والتي تشهد تفاقماً مستمراً منذ فترة طويلة دون أن تلوح في الأفق أية فرص جدية أو بوادر للحل، اهتماماً وقلقاً واسعين وعميقين في إسرائيل تعكسه، أكثر شيء، التقارير الإعلامية والبحثية التي تُنشر بوتيرة عالية، سواء في وسائل الإعلام الإسرائيلية أو ضمن إصدارات معاهد الأبحاث المتخصصة في الشؤون الاستراتيجية والأمنية والسياسية الإقليمية بصورة أساسية، إذ تركّز هذه التقارير على ما تسميه "تفكك الدولة اللبنانية وتأثيرات ذلك على إسرائيل"، حسبما ورد في عنوان أحدها، وهو ما يشي بالتأكيد بأن الأزمة اللبنانية تشغل بال المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، السياسية والعسكرية وتثير قلقاً بالغاً لديها. ونعرض هنا لاثنين من أبرز هذه التقارير التي نُشرت في إسرائيل مؤخراً عن اثنين من أبرز معاهد الأبحاث المتخصصة.
مع بدء عملية التجنيد للجيش الإسرائيلي، يخضع الشبان والشابات الإسرائيليون إلى امتحان تقييمي لمعرفة قدراتهم، ومهاراتهم، واستشراف إمكانياتهم المستقبلية، وبالتالي معرفة الجهاز الأكثر ملاءمة لهم مثل سلاح المدفعية، أو المشاة، أو فرع التكنولوجيا والاستخبارات، أو حتى استبعادهم كليا من الخدمة العسكرية وإرسالهم إلى أنواع أخرى من الخدمات المدنية. هذا الامتحان التقييمي كان يجرى وفق مقياس يسمى "كابا" (بالعبرية: اختصار لمصطلح نموذج المجموعة النوعية). بعد أكثر من ستين عاما من اعتماد هذا المقياس داخل الجيش الإسرائيلي، وبعد انتقادات متكررة على عدم مهنيته، وتمييزه الممنهج ما بين الإسرائيلي الأشكنازي والإسرائيلي الشرقي، وبعد اعتراضات على عدم ملاءمته لمتطلبات الجيش الحديث، وضع قسم القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي مقياسا جديدا. وقد بدأ الجيش باستخدام المقياس الجديد في آب 2021 بين أوساط المجندات الإناث على أن يتم توسيعه وتطبيقه على المجندين الشبان ابتداء من الشهر الحالي.
أول ما ينبغي أن نستنتجه من سيلِ الانتقادات التي وُجِهّت في معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (يوم 27 أيلول 2021) وتجاهل فيه الفلسطينيين وقضيتهم والاحتلال الجاثم على أراضيهم ووطنهم، هو أن قضية فلسطين ستبقى حاضرة بالرغم من كل الظروف المُحيطة بها.
وإذا ما جاز لنا أن نُجمل فحوى تلك الانتقادات فبالإمكان أن نفعل ذلك من خلال العبارات التالية؛ إن تجاهُل بينيت الفلسطينيين في خطابه لن يُزيل القضية الفلسطينية عن جدول الأعمال، ولن يساعد أبداً في التخفيف من ألسنة اللهب إزاء إسرائيل، والتي تصدر عن أصوات تقدّمية في العالم، وحتى في داخل الولايات المتحدة نفسها.
وبديهي أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة بقوة أحياناً، وقد لا تكون كذلك أحياناً أخرى، تحت تأثير عوامل عديدة، منها ما هو موضوعي مُرتبط بالأوضاع الإقليمية والدولية عموماً، ومنها ما هو ذاتي يُحيل إلى الوضع الفلسطيني خصوصاً.
قريباً من نهاية فيلم (Oslo, 2021)، للمخرج الأميركيّ بارتليت شير، وإنتاج المخرج الأميركيّ الدّاعم للصهيونيّة، ستيفن سبيلبرغ، والذي يَروي قصَّة الأحداث التي أدّت في النّهاية إلى توقيع اتّفاق أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وبين إسرائيل، يأتِي مشهَدٌ فيهِ كلٌّ منْ شمعون بيريس (وزير الخارجيّة الإسرائيلي آنذاك)، وتيري لارسن (العاملُ في معهد فافو النرويجيّ)، ومونا جول (المسؤولة في الخارجيّة النرويجيّة آنذاك وزوجة تيري لارسن)، ويوهان هولست (وزير الخارجيّة النرويجيّ آنذاك)، جَميعهم في غُرفةٍ في القصر السويديّ الملكيّ في ستوكهولم على اتّصال هاتفيٍّ مع أحمد قريع (أبو علاء)، والذي يُفترَضُ أنّه كانَ في غُرفَة في تونس تضمُّ الرئيس ياسر عرفات وبقيّة أعضاء اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، والمُفاوضاتُ التي كانت تجري على مدى أربعةِ شهورٍ مُتوقِّفةٌ في تلك اللحظة على تفصيلين رئيسَين وهُما: مستقبل مدينة القُدس، واعترافُ إسرائيل بمنظَمة التحرير "صوتاً رسمياً للشعب الفلسطينيّ"، واعتراف المنظّمة في المقابل بـ "شرعيّة دولة إسرائيل وحقّها في الوجود"! يقفُ بيريس برداء النّوم ويُصرُّ على رفضِ مُناقشة مستقبل القُدس وحقِّ إسرائيل بفرضِ سيادتها
الصفحة 179 من 859