يتيح التحليل، الذي يقدمه دانيئيل بار طال، البروفسور في علم النفس السياسي، حول تكريس القيادة السياسية الإسرائيلية ومن قبلها الصهيونية لشعور انعدام الأمن والخوف الدائم لدى اليهود الإسرائيليين، بغية توظيفه من الناحيتين السياسية والاجتماعية وسواهما، فرصة للإطلالة على جانب من أدوات تشويه الوعي الإسرائيلي الجمعيّ.
ولتيسير قراءة ما يتداعى من هذا التحليل، عبر تعالقه مع تحليلات أخرى للخبير نفسه، نشير إلى أن بار طال قدّم الكثير من المساهمات في مضمار الوصف العلمي المنهجي للأساس النفساني- الاجتماعي الذي يقف عليه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ولا سيما في كتابه الموسوم بـ "العيش مع الصراع، تحليل نفساني- اجتماعي للمجتمع اليهودي في إسرائيل"، الذي صدر عام 2007. ولم يزعم فيه، آنذاك، تحليل جميع العوامل والمنظومات والسيرورات النفسانية الضالعة في الصراع، بل ركز على الأساسيّ منها، أي تلك التي تؤثر بصورة بالغة في إدراك الواقع، من طرف المجتمع اليهودي في دولة الاحتلال، بقدر ما تؤثر في السلوك الجمعيّ لهذا المجتمع.
وكان الإطار النفساني لذلك الكتاب من تحصيلات كون مؤلفه باحثاً وأخصائياً نفسانياً- اجتماعياً- سياسياً، سبق له أن أشغل منصب رئيس "الشركة العالمية لعلم النفس السياسي"، علاوة على أنه محاضر في جامعة تل أبيب. وتنهل أبحاثه، بقدر كبير، من المقاربة العقلية- الشعورية، التي تعتبر البشر "أعضاء في أطر اجتماعية"، ونتيجة لذلك فإنهم يتأثرون بهذه الأطر على نطاق واسع.
وفي الفترة الأخيرة (منذ أواخر عام 2016) عاد بار طال وقدّم، من خلال حقل الإطار النفساني ذاته، مقاربات جديدة في ذات المحور. وتناولت إحداها ما أسماه "وقائع إسقاط الساسة الإسرائيليين السلام عن جدول أعمالهم"، فيما غاصت مقاربة أخرى على الطرق والوسائل، التي تلجأ دولة الاحتلال الإسرائيلية إليها من أجل حجب معلومات ذات صدقية لا يرقى إليها أي شك تتعلق بممارساتها إزاء الفلسطينيين، عن رأيها العام وعن الأسرة الدولية. وانطلقت هذه المقاربة الأخيرة من فرضية فحواها أن هناك تطابقاً بين ساسة هذه الدولة وبين مجتمعها اليهودي الذي يميل، في أغلبيته الساحقة، إلى تجنّب النظر إلى صورته في المرآة.
كما انطلقت من أن هذه الطرق والوسائل سبق أن استعملت بعد عام 1948 وانحسرت لفترة وجيزة، وعادت بقوة منذ سنوات الألفين وصولاً إلى يومنا هذا. وهي تنطوي على هروب من الواقع نحو مزاعم متخيّلـة لا يمكن أن يقبل بها سوى مجتمع وعيـه مشوّه.
وسبق للفيلسوف الكندي تشارلز تايلور أن عرّف في مقالته "سياسة الوعي" (2003) "الوعي المُشوّه" بأنه وعي مغلوطٌ بشكلٍ متعمد لدوافع سياسية ضيقة.
يبدأ بار طال مقاربته هذه التساؤل التالي: ما الذي يجعل أي تقرير يتعلق بالمساس بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 يغضب الزعامة السياسية والجمهور المؤيد لها في دولة الاحتلال الإسرائيلية؟.
ويجيب قائلاً: إن الإجابة عن هذا السؤال سهلة وجلية لكل من تلقى بضعة دروس في علم النفس. وأحد المعطيات والنتائج الواضحة والمتكررة تتمثل في أن أغلبية البشر لا ترغب في الاستماع إلى انتقادات توجه لها أو إلى المجموعة التي ترى نفسها منتمية إليها، كما أنها تميل إلى رفض مثل هذه الانتقادات جملة وتفصيلاً. فلنأخذ على سبيل المثال الشخصيات العامة، التي تُتهم بارتكاب مخالفات لقواعد السلوك الأخلاقية. بصورة عامة فإن ردة فعل هذه الشخصيات الأولية تتضمن إنكار الأفعال المنسوبة إليها ومهاجمة من يتهمها. وعندما يُتهّم مجتمع معيّن بأكملـه بأفعال غير أخلاقية، نجد أن أفراد هذا المجتمع لا يدّخرون جهداً في سبيل إخفاء المعلومات، وذلك لأنهم غير مؤهلين أو غير قادرين على النظر إلى صورتهم في المرآة. وفي المعتاد يستمد الناس هويتهم الاجتماعية من صورة المجتمع، فإذا ما بدت هذه الصورة سلبية، فإن مثل هذا التقدير يؤثر أيضا على تقديرهم الشخصي. وإذا ما نظرنا إلى سلوك شعوب مختلفة كأمثلة، فسوف نُشخّص بوضوح مثل هذا السلوك. فالفرنسيون رفضوا لعقود عديدة كشف أفعالهم إبان حرب الجزائر، وهناك اليابانيون الذين ما زالوا حتى الآن يواجهون صعوبة في الاعتراف بأنهم حولوا عشرات آلاف النساء من الصين وكوريا إلى وصيفات لتحسين المزاج الجنسي لجنود القيصر، كذلك ما زال البلجيكيون والهولنديون يواجهون صعوبة في الحديث عن الفظائع والأهوال التي ارتكبوها في المستعمرات، وفي تركيا ما زالوا يحاكمون الأفراد الذين يجرؤون على التحدث عن المذبحة التي ارتكبها الأتراك ضد الأرمن قبل أكثر من مئة عام.
وبرأيه يواجه اليهود في دولة الاحتلال الإسرائيلية الصعوبة ذاتها كما سائر الشعوب الأخرى، والقصد صعوبة النظر إلى صورتهم في المرآة والاعتراف بأفعالهم التي لا تتماشى وقواعد الأخلاق والسلوك الإنسانية وتتنافى مع القانون الدولي. غير أن الحالة الإسرائيلية تعتبر أصعب وأعوص من سواها. فما يزال المجتمع الإسرائيلي في خضم صراع دموي مستمر مع الشعب الفلسطيني، وفي ظل هذا الواقع ثمة أهمية قصوى لضرورة أن يتبنى أفراد المجتمع روايات الزعامة التي تقود الشعب في الصراع، وفي أن يتقبل المجتمع الدولي صحة هذه الروايات. وتسعى هذه الروايات إلى تكريس "عدالة طريق المجتمع" وترفض في الوقت ذاته أهداف المجموعة المناوئة، كما أنها تُشخّص التهديدات وتقترح شروطاً لضمان أمن المجتمع، وتميز بين الخصم الذي يُنظر إليه بأنه ذو صفات وسمات دونية وفظة، وبين مجموعة الانتماء التي يجري تعظيمها عن طريق نسب صفات وسجايا إيجابية، وأخلاقية بشكل خاص، لأبناء هذه المجموعة ذاتها، ويُنظر إليها كضحية في الصراع الطويل والمستمر.
وقد يهمنا من هذه المقاربة كذلك أن بار طال تطرّق، من ضمن أدوات حجب المعلومات، إلى دور وسائل الإعلام، فأشار إلى أن السلطة الإسرائيلية تمتلك أيضاً قنوات اتصال وإعلام خاصة بها من أجل بث وترويج معلومات تتلاءم مع الرواية التي ترغب في تكريسها، كما أن المتحدثين ودوائر الدعاية والإعلام لا يكتفون بالتحدث فقط، وإنما أيضاً يكتبون ويلتقطون الصور، وينتجون أفلاماً قصيرة تُبث وتُنشر في سائر الشبكات الممكنة. وذكر أن الزعامة الحالية في إسرائيل تمتلك قنوات بث ونشر غير حكومية، أقيمت بمواردها أو بموارد مؤيديها، ومن هذه القنوات صحيفة "يسرائيل هيوم" وهي بملكية شلدون أدلسون، وتوزع بمئات آلاف النسخ مجاناً في أنحاء البلد ويتم توزيعها في القطارات ومحطات الحافلات وعيادات المرضى وأماكن كثيرة أخرى؛ "قناة التلفزة 20"، وهي "قناة التراث" سابقاً، والتي تؤكد على الرسائل المنسجمة مع الروايات المهيمنة للمؤسسة وأخيراً أخذت تبث بسرعة أيضاً برامج الواقع وذلك خلافاً لغايتها الأصلية. وفي عام 2015 ذكر تقرير أن التلفزيون التجاري الإسرائيلي يحصل على ملايين الشواكل في مقابل تمرير رسائل حكومية في برامجه، كما هي الحال على سبيل المثال في شركة الامتياز "كيشت" (قناة التلفزة الثانية) التي تلقت من الدولة ما لم يقل عن 10 ملايين شيكل في ذلك العام.
وقال الخبير إنه في هذا السياق لا بُدّ من الإشارة إلى أن تدخل رئيس الحكومة الحاليّ بنيامين نتنياهو في المحاولات الرامية إلى التحكم والسيطرة على برامج القنوات الإعلامية المختلفة بات أمراً غير خاف على أحد، وكذلك أيضاً محاولات نتنياهو نفسه الحيلولة دون صعود هيئة البث العامة كهيئة إعلامية مستقلة. وما يزال هذا الأخير مشغولاً حتى عنقه بمثل هذا التحكم والسيطرة، كما تثبت ذلك آخر المستجدات المرتبطة بأوضاع وسائل الإعلام المتعددة في إسرائيل.