المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1661
  • أنطوان شلحت

هذا الأسبوع ارتأينا تسليط مزيدٍ من الأضواء على اليمين الإسرائيلي المتطرّف والمتمثّل تحديداً في مثلث الأحزاب الذي شكّل تحالف "الصهيونية الدينيّة" (والقصد أحزاب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وعوتسما يهوديت بزعامة إيتمار بن غفير، ونوعام بزعامة آفي ماعوز) والذي فاز في الانتخابات العامة الأخيرة (جرت يوم 1/11/2022) بـ 14 مقعداً في الكنيست المنتخب (الـ 25). وبسبب هذا اليمين المتطرّف وما يحمله من أفكارٍ وما يقوم به من ممارسات ميدانية، توصف الحكومة التي أقامها بنيامين نتنياهو معه، ومع أحزاب اليهود الحريديم (المتشددون دينياً)، وهي حكومته السادسة، بأنها الأكثر تطرفّاً دينياً وقوميّاً حتى من طرف أقرب أصدقاء إسرائيل وحلفائها، كما عبّر عنهم الرئيس الأميركي جو بايدن.

كما يتم تحميل هذا اليمين المتطرّف، الذي يحظى بتأييد في صفوف حزب الليكود، المسؤولية عن خطة التغييرات في الجهاز القضائي والتي رأت فيها المعارضة وأوساط واسعة من المجتمع الإسرائيلي بأنها تهدف إلى إضعاف هذا الجهاز والانقلاب على نظام الحكم القائم على الفصل بين السلطات الثلاث من خلال إخضاع السلطة القضائية إلى السلطة التنفيذية بعد أن أقدمت هذه الأخيرة أيضاً على إخضاع السلطة التشريعية إليها، بالإضافة إلى تحميله المسؤولية عن سياسة إسرائيل الخارجية ولا سيما في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية والاحتلال في أراضي 1967.    

وفي إطار مزيد الأضواء هذا، يمكن الإطلالة على سِير زعماء أحزاب اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وعلى الصراعات الآخذة في الاحتدام في صفوف تيّار الصهيونية الدينية أو التيار الدينيّ- القومي والتي يبدو أنها في طريقها إلى أن تنتج واقعاً لا يزال في علم الغيب، لكنّه قد يكون مغايراً للواقع السائد الآن.

على صلةٍ بهذا نشير إلى أن أغلبية التحليلات الإسرائيلية التي تناولت التحوّلات التي خضعت لها الصهيونية الدينية تؤكد، في شبه إجماع، أن هذا التيار استنقع في الآونة الأخيرة أكثر فأكثر في أحضان اليمين المتطرّف المسياني، وذلك منذ احتلال 1967 وصولاً إلى الآن، مروراً بعدة محطات مفصلية، منها على سبيل المثال "اتفاقيات أوسلو" التي دشنت طريقاً لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم تكن مشقوقة من قبل (طريق المفاوضات المباشرة)، وخطة الانفصال عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. وترمي هذه التحليلات من وراء ذلك إلى ترسيخ استنتاج فحواه أن الصيرورة الحالية لإسرائيل، على مستوى السياسة الداخلية والخارجية المتبناة من جانب الحكومة، هي نتاج منطقي لصعود نفوذ الصهيونية الدينية في صيغتها اليمينية المتطرفة الراهنة.

ربما لا يجوز لنا أن نقلّل من أهمية الجدل الداخلي الدائر في صفوف التيار الديني القومي، ولا أيضاً من النتائج التي قد يسفر عنها، والتي قد تكون إحداها نشوء تيّار جديد يتسم بالمواقف المعتدلة بما قد يحيل على محطات سابقة في تاريخ هذا التيّار في الأعوام التي سبقت احتلال 1967. ولكن في الوقت عينه لا بُدّ من توكيد أن نشوء تيّار كهذا من دون معالجة الأسباب التي أدّت إلى سيطرة اليمين المتطرّف على سياسة الحكومة لن يغيّر واقع الحال السياسي في إسرائيل على نحو جذريّ.

ولا شك أيضاً في أن كل هذه التحليلات تعتبر عملية معرفة تفيد كثيراً في الغوص على جذور الصهيونية الدينيّة ومسيرتها، وتساعد في فهم ما تقوم به حالياً ويؤثر في راهن إسرائيل، غير أنها تبقى قاصرة في كل ما يتعلّق بتلمس الأسباب الفعليّة، ولذا فإن أقصى ما تفعله لا يتجاوز التلهي عن تلك الأسباب بالنتائج التي تفيد بأن الصهيونية الدينية هي أصل الداء في ما آلت إسرائيل إليه الآن. بيد أنّ ما يلزم، من أجل تقديم قراءة صحيحة لهذا المآل، هو تحليل الأسباب أو السياق السياسي والتاريخي الذي جعل هذا التيّار يتصدّر المشهد، أكثر من استعراض ما يفعله التيّار نفسه لفرض هيمنته سياسياً.

وقبل عدّة أعوام كتب عالم الاجتماع الإسرائيلي ليف غرينبرغ بأنه لا يمكن فهم اتساع قوة ونفوذ تيار الصهيونية الدينية المسياني (الذي فسّر حرب 1967 كتدخلٍ إلهي وأمرٍ سماوي للاستيطان في "أرض إسرائيل" كلها) من دون فهم الدعم الذي حصل عليه من حركة العمل الإسرائيلية التي مأسست السيطرة العسكرية المؤقتة على الفلسطينيين في أراضي 1967. فرؤساء حزبي "أحدوت عفودا" و"رافي" تناقشوا فيما بينهم حول مكان الاستيطان في الخليل، داخل "مدينة الآباء" (كما طالب يغئال ألون) أو فوقها في "كريات أربع" (مثلما دعا موشيه دايان). أما رؤساء حركة "هشومير هتسعير" فأبدوا انفعالهم الكبير من الفتية المثاليين الذين كانوا على استعداد لمواصلة مشروع الاستيطان (الكولونيالي) الذي بدأوه هم في فترة الانتداب البريطاني (قبل العام 1948). وفي ذلك الوقت، فضلت حركة الكيبوتسات والموشافيم الاستيطان في أراض خصبة، ولكن "نظيفة" من العرب. وهذا هو الفرق، برأي غرينبرغ، بين استيطان ما يُعرف بـ"اليسار الصهيوني" الذي جاء بعد "تنظيف المنطقة" من العرب وبين استيطان اليمين المستعد لإقامة مستوطنات في قلب منطقة فلسطينية مأهولة لكي يمارس حقّه في البلاد كلها. وهكذا واصل الليكود ابتداء من العام 1977 التوسع الاستيطاني في أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة لكي يمنع إمكانية تقسيم البلاد بصيغة "هم هناك ونحن هنا" والتي سوّقها "اليسار الصهيوني" لأسباب ديموغرافية بالأساس. غير أن القاسم المشترك بين هذين المعسكرين السياسيين بقي أكبر من ذلك الذي يفصل بينهما: لكل يهودي، لمجرد كونه يهودياً، هناك حق أكبر في البلاد في مقابل حق العرب الأصلانيين. والجميع في المعسكرين يتفقون على نظام الامتيازات الفائضة لليهود الذي يسمى دولة يهودية وديمقراطية، ولهذا فجميعهم بحاجة إلى أحزاب دينية تقرر من هو اليهودي "الحلال" ومن هو المواطن صاحب القيمة الأعلى. وفي ضوء ذلك لم يكن صدفة أن المعسكر السياسي للقومجيين المسيانيين تحوّل إلى مجموعة مهيمنة في السياسة الإسرائيلية.

وكانت الخلاصة التي توصل إليها عالم الاجتماع هذا في حينه أشبه بالنبوءة حيال ما يحدث الآن فعلاً، ومؤداها ما يلي: ما دام هناك إجماع في إسرائيل على الاحتفاظ بالحقوق الفائضة لليهود، وعلى إخراج الصهيونية إلى حيّز التنفيذ كمشروع استيطاني، ستستمر مجموعة المتعصبين المسيانيين في إملاء الاستراتيجيا الإسرائيلية.

معه حقّ...

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات