المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الاستيطان الإسرائيلي.. مدجج بالسلاح وبالأساطير. (أ.ف.ب)
الاستيطان الإسرائيلي.. مدجج بالسلاح وبالأساطير. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1952
  • أنس إبراهيم

في الثّالث عشر من أيَّار الماضي ظهرت فيديوهات لمُواطنين عرب في مدينة اللدّ تُظهِرُ تجمهر مجموعاتٍ من المستوطنين المُسلِّحين الذين كانوا قد وصَلوا من مستوطنات الضفَّة الغربيَّة لقَمْعِ الاحتجاجات العربيّة في المدينة؛ في الوقت الذي كانت فيه الشّرطة الإسرائيليّة قد أعلنت حظر تجوالٍ في المدينة ومنعَتْ دُخول أو خُروج أيّ أحَدٍ منها. في الآن ذاتهِ، كان بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيليّة السابق، يُحاولُ الدَّفع باقتراحِ إدخال الجيش الإسرائيليّ إلى المُدُنْ التي يمكِنُ وصفها الآن بالمُتمرِّدة، كمدن اللد، حيفا، أمّ الفحم، عكّا وغيرها من المُدُن الفلسطينيّة التي شهِدَتْ حالَةً غير مسبوقة من الاحتجاجات العنيفة التي كانت قد خرجت في البداية ضدّ المخططات الاستعماريّة الصهيونيّة في حيّ الشيخ جرّاح، ولكنَّها وخلال أسبوعين تحوّلت إلى احتجاجاتٍ ضدَّ وحشيّة الشّرطة التي كانت قد قتلت الشهيدين محمَّد كيوان (19 عاماً) من مدينة أم الفحم، وموسى حسّونة (31 عاماً) من مدينة اللد.

في الآن ذاته كانت جبهاتٍ أخرى تشهدُ حالة متصاعدة من العنف، مثل مدينة القدس المحتلّة، والضفّة الغربيّة وكذلك الحرب على قطاع غزّة. كلُّ ذلك في تقاطعه الزمنيّ بعثَ شعوراً إسرائيلياً بـ"قلَقٍ سِياديَّ" كانت أشدّ تمظهراته وضوحاً وخطورة، هو الاستعانة بالميليشيات الاستيطانيّة لاستعادَة السّيطرة على المُدن ولاستعادة الرّدع الصهيونيَّ. كانت إسرائيل تعيشُ حالة من الفَوضى المُطلقة، وفي تلك اللحظة من الفوضى والاضطّراب – الذي تُضافُ إليه الأزمة السياسيّة المتمثِّلة في عدم القدرة على تشكيل حكومة إسرائيليَّة ما تطلَّب 4 انتخابات إسرائيليّة عامة متتالية – في تلك اللحظة وصل المستوطنون إلى المُدُن المتمرِّدة؛ قتَلوا، أحرقوا مساجداً وممتلكات، أرهَبوا وهدَّدوا بالموتِ وبمعسكرات هولوكوست صهيونيَّة تحرقُ الفلسطينيين داخلها حتَّى الرَّماد.

الخلفيّات النظريَّة للبلطجة الاستيطانيَّة

إنّ الحدث الذي تسمَحُ – تُفوِّضُ – فيه الدّولة لفاعِلين غير رسميين بحيازة امتيازِها الحصريَّ بممارسة العُنفِ وحيازة أدواتِ إنتاجهِ ليسَ حدَثَاً فُجائِياً، بل هُو حدَثُ تراكميّ يصلُ حدَّ أن يكون بِنية ممأسسة ومدعومة من قبل الدَّولة وأجهزتها الرَّسميَّة. في إطار النّظر هذا، يمكِنُ فهمُ الآليَّات التي تُمكِّنُ من ظهور ما يُسمِّى بالأدبيات الإنكليزيّة الإسرائيليَّة التي تُشيرُ إلى الممارسات العنفيَّة الاستيطانيَّة بالـ Vigilantism؛ أيَّ القصاصيَّة الاستيطانيَّة – لكنِّ المُصطلح غير دَقيقٍ في حالة المُستوطنين؛ فالقصاصيَّة هي شكلٌ من أشكال العنف الممأسس، وتشملُ أفعال الإكراه أو التهديد التي تشكِّل خرقاً لحدود النّظام السياسيّ الاجتماعيّ القائم، وهي خُروقاتٌ في أساسها تكون موجَّهة إلى الحفاظ على هذا النّظام القائم من أيَّة انحرافاتٍ عن مبادئه المؤسِّسة، أو عن غاياتهِ الأساسيَّة المُتَّفَقْ علَيها في الخطابات الرسميَّة وغير الرَّسميَّة .

David Weisburd, Jewish Settler Violence: Deviance as Social Reaction (University Park, Pa., and London: Pennsylvania State University Press, 1989). Pp. 80-89.في حالة الاستيطان الإسرائيليّ، ورغم أنّ بعض التفسيرات الصهيونيّة تربط نشوء الظاهرة بردّ فعل جمعيّ استيطانيّ على الهجمات الفلسطينيّة في بدايات الحركة الاستيطانيّة الصهيونيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، إلّا أنّ هذه الظاهرة تحوّلت لاحقاً لتشكِّل تعويضاً لغياب الممارسات السياديّة الدولاتيّة، ولتشكِّل ممارسات بديلة أو مُكمِّلة أو دافعة نحو ترسيخ الهيمنة اليهوديّة على المناطق المحتلّة، وذلك يشمَلُ حتّى المناطق النائية والبعيدة عن السيطرة المركزيّة الصهيونيّة في أراضي 1948.

مع ذلك، هناك إشكالية يجبُ الإشارة إليها سريعاً فيما يتعلَّقُ بمفهوم الـ Vigilantism، والذي عادة ما تستخدمه الأدبيّات الصهيونيّة باللغة الإنكليزيّة للإشارة إلى العنف الاستيطانيَّ. فالمصطلح الإنكليزيّ يرتبط بمعنى إيجابيّ عادة ما يُشير إلى الأبطال الخارقين مثل باتمان؛ أيّ الأبطال أو الشخصيّات التي تقتصُّ من المجرمين عندما لا تتمكّن الدولة أو النظام القضائيّ المُطبَّق من إدانة هؤلاء المجرمين بالوسائل القانونيّة المُتاحة، أو عندما تكون الدّولة في حالة فسادٍ مؤسساتيَّ تدفع ببعض الأفراد إلى تطبيق العدالة الأهليَّة بأيديهم؛ فيتحوّل تطبيق القانون من الجهة الرسميّة إلى جهة أو شخصيّة غير رسميَّة ويُسمّى بالقصاص أو العدالة الأهليّة.

بطريقةٍ ما، يمكن تطبيق المنطق نفسه على حالة المستوطنين الصهاينة؛ فهم فاعلون غير رسميين يأخذون على عاتقهم مهمَّة تعويض غياب السّيطرة المؤسساتيّة الرسميّة الصهيونيّة، لترسيخ الهيمنة الصهيونيّة على المناطق المحتلّة. في الآن ذاتهِ يأخذون على عاتقهم مهمّة الحفاظ على النّظام السياسيّ الاجتماعيّ – وحتّى تقويمه وإعادته إلى صوابيَّتهِ الاستعماريَّة الأوَّلية – أيّ المشروع الاستعماري الصهيونيّ، والنأي بهِ عن أيّ انحرافاتٍ عن غايات المشروع المتّفق عليها صهيونياً وهي استعمارُ فلسطين كاملةً، وتقويمه عن أيَّ محاولة سياسيَّة للدفع بعمليَّة سَلام تمنح الفلسطينيين أيّ اعترافٍ سياسيِّ بحقِّهم في تقرير المصير، أو حقّ العودة، أو حتّى منحهم أيّ نوع من أنواع السّيادة على الأراضي المحتلَّة. وكذلك، منع الفلسطينيين في الداخل من التطوّر الطبيعيَّ إلى جماعة هويّاتية أصلانيّة فلسطينيّة فاعِلة، الأمر الذي قد يُشكِّلُ تحدِّياً للهيمنة اليهوديّة الهويّاتيّة على الفضاء العام وعلى الدّولة كدولة يهوديّة لمواطنيها اليهود. لهذه الأسباب كلّها، يمكن ترجمة المفهوم لا إلى القصاصيَّة بل إلى البلطجية، التي تعبِّرُ عن طبيعة الأفعال الاستيطانيَّة في الضفة الغربية ومؤخّراً في الداخل.

تواطؤ الدّولة مع الميليشيات الاستيطانية

يعتقد الباحث نير غازيت أنَّه وعلى الرَّغم من عدم قانونيتها، إلَّا أنَّ البلطجة الاستيطانيَّة تشتغلُ كآليَّة غير رسميَّة للسّلطة الرسميّة في إسرائيل؛ فالوضعيَّة غير القانونيّة الغامضة التي تُقيِّدُ – إلى حدٍّ ما – السّلوك الإسرائيليّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلَّة بما يشملُ حالة الغموض المتعلّقة بهذه المناطق ووضعيّتها السياسيّة المشوَّشة، هي نفسُها التي تمكِّنُ وتدعم هذه البلطجة غير القانونيَّة. Gazit, N. (2019) Jewish Vigilantism in the West Bank .N. Copsey. Vigilantism Against Migrants and Minorities (43-54) Routledge. وذلك يخلُقُ تفاعلاً ديناميكياً بينَ تيَّار البلطجَة الاستيطانيّ غير القانونيّ، وبين السّياسة الرسميّة الإسرائيليّة، يمثِّلُ ظاهرة متفرِّدة من تواطؤ الدّولة مع التيّار البلطجيّ الاستيطانيّ، إلى حدٍّ تصلُ حالة الغموض هذه إلى أن تكون سبباً، ومولِّداً في الآن ذاته، بشكلٍ تلقائيّ لهذه الهجمات. هذا التحليلُ ينطبقُ على أفعال البلطجة اليوميّة التي تجري في الضفّة الغربيَّة والتي تتراوح بين الاحتِلال المُباشر لأراضي الفلسطينيين وقتلهم، وُصولاً إلى التعدِّي عليهم بالضَّرب ورمي الحجارة على مركباتهم على الطّرقات الرئيسة. لكنّ، وعند فحصِ ما جَرى خلال أحداث الهبَّة الأخيرة، نجدُ أنَّ هذا التواطؤ بين أجهزة العنف الرسميَّة الصهيونيّة والميليشيات البلطجيَّة الاستيطانيَّة قد تجاوزَ الترتيباتِ العلائقيَّة بينَ الطرفين التي تمَّ تأسيسُها في الأراضي المحتلَّة، ليصلَ حدّ الاستخدام المُباشر لهذه الميليشيات للسيطرة على المدنيين العرب في الداخل وترهيبهم مع تجنَّب الانخراط المُباشر للأجهزة الرّسميَّة في هذه المُواجهة لتفادِي أيَّ نقدٍ دوليّ أو مُحاسباتٍ داخليَّة على هيئة لجان تحقيق رسميَّة. ففي حالة تواطؤ الدّولة، ثمّة نسَقٌ من النّشاط الإرهابيّ الذي تُديرهُ الدّولة من جهة، أو تغضُّ النّظر عنه من جهةٍ أخرى؛ فالدّولة قد تُبادر إلى توجيه العنف المدنيّ كما حصلَ خلال أحداث الهبّة الأخيرة من خلال استدعائها وتمكينها المستوطنين من شقِّ طريقهم إلى قلب المدن المتمرّدة، أو من خلال غضَّ النّظر عمّا يجري على الأرض، أيضاً مثلما حصَلَ خلال الهبّة الأخيرة؛ "وفي كلتا الحالتين، ستتمكَّن الدّولة من تحقيق أهدافها... وفي هذه الأثناء، تنأى بنفسها عن العمل القذر الذي يستهدِفُ المدنيين". Ibid. لكنْ ليسَ النأيُ بالأجهزة الرسميّة عن العمل القذر وحده هو ما تجنَّبته السَّلطة الاستعماريّة خلال الأحداث الأخيرة، بل كانت تُدركُ أنَّ الشخصيّة العسكريّة الرَّسميَّة وإن دُرِّبَتْ لتفكِّر بالعربيّ كعدوٍ للدّولة، لن تُبادِرَ إلى ارتكابِ الفعل العنيف القذر على هيئة الاستفراد بعربيٍ وتهشيم جمجمته حرفياً في الشّارع على مرأى من الشّرطة، كما فعلت قُطعانُ المستوطنين مع العديد من العرب خلال الهبّة الأخيرة؛ فهي تلكَ الدّرجة من الوحشيّة الطّبيعية، العفويّة، التلقائيّة وحتّى الإبداعيَّة التي أرادت السَّلطة الاستعماريّة الصهيونيّة أن يُظهِرها المستوطنون لمواطنيها العرب المتمرّدين لتحقيق حالة ردعٍ طويلة الأمد. Gazit N. State-sponsored Vigilantism: Jewish Settlers’ Violence in the Occupied Palestinian Territories. Sociology. 2015; 49 (3) :438-454.

يعتقدُ غازيت أنَّ العنف الإجراميّ السياسيّ المدنيَّ الذي يقوِّضُ بشكلٍ ظاهريّ سلطة الدّولة، يشتغلُ في الواقع كآليّة سياسيّة غير رسميّة تعيد إنتاج سلطتها بشكل غير مُباشر عبر قنوات غير رسميّة. هذه الوضعيَّة تسودُ وفقاً لتحليله في حالات السّيادة المُتنازع عليها والمجزّأة التي تعتمد فيها السّلطة الرسميّة على سلطاتٍ جزيئيّة متعددة محلِّياً، زمنياً وذات استقلاليّة نسبيّة بدلاً من مؤسسات رسميّة ذات سُلطةٍ شاملة غير مُتنازعٍ عليها – كما هي الحال في الضفَّة الغربيَّة التي تقتسِم سيادتها الزمانيّة والمكانيّة ثلاثة أنواعٍ من السّلطات؛ وهي السّلطة العسكريّة الإسرائيليّة ممثلّة بالحاكم العسكريّ الإسرائيليّ، والمجالس الإقليميّة الاستيطانيّة، وكذلك السّلطة الفلسطينيَّة. وغالباً ما تظهر مثل هذه الأنظمة عندما تكون الهيمنة السياسيّة غير مؤسَّسية ومرسَّخة أو شبه منظَّمة، بسبب معارضة مستمرَّة من قبل السكّان التابعين أو الافتقار إلى الشرعية الدولية أو المحلَّية، كحالة الاحتلال الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة. وكذلك تظهرُ في المناطق النائية الهامشيّة جغرافياً ومؤسساتياً حيثُ لا تمارس فيها السّلطة السياديّة بشكلٍ كاملٍ ومُطلق، كالضفّة الغربيّة أيضاً ولكن إلى حدٍّ ما بعض المناطق الفلسطينيّة في أراضي 1948 كالمناطق البدوية، أو حتَّى المدن المتمرّدة التي مثَّلت انتفاضتها زمانياً مقاومة مُباشرةً للسّلطة السياديّة الصهيونيَّة. في تلك السّياقات تُنفَّذُ وتظهر الممارسات والتشكيلات البلطجيّة كبديلٍ لغيابٍ السّلطة الممأسسة لتعويضها ولترسيخ الهيمنة اليهوديّة الصهيونيّة في الفضاءات الزمانيّة والمكانيَّة التي تُظهِرُ مقاومةً للسّلطة المركزيّة ونزعةً تحرّرية.

في الضفَّة الغربيَّة يُحلُّ كلَّ شيء

شكَّل الاستيطانِ والاحتلال الإسرائيليّ للضفّة الغربيَّة موضوعاً جدلياً في الأوساط الصهيونيَّة منذُ بدايات الحركة الاستيطانيّة بعد احتلال فلسطين كاملة عام 1967؛ فمن جهة هناك الأصوات التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال ومنحِ السّيادة لدولة فلسطينيّة منزوعة السِّلاح، ذلك أنّ استمرار الاحتلال سيعني استمرار الصّراع – وهذه الأصوات أخذت تخفُت تدريجياً منذُ عقودٍ وتعقِدُ مساوماتٍ نظريَّة تصلُ إلى حدَّ التمسَّك بالمستوطنات الكُبرى، وفقط التخلّص من البقع الاستيطانيّة الصغيرة ومنح سيادة منقوصة جزئيّة على مناطق (أ) للسّلطة الفلسطينيّة. ومن جهة أخرى، هناك التيار اليمينيّ الصهيونيّ الذي يُهيمنُ على السياسة الإسرائيليّة منذ نهاية السبعينيات والذي يرى في الاستيطان مشروعاً قومياً له أهميَّة أيديولوجيّة، أمنيّة وديمغرافيَّة، بمثل أهميَّة مشروع تهويد الجليل والنّقب ويفكِّرُ بالضفّة الغربيّة كجزءٍ لا يتجزّأ من أرض إسرائيل، والأكثر أهميَّة أنّه يمتلك قاعدة انتخابيّة كاسِحة في مستوطنات الضفَّة الغربيَّة إضافةً إلى القُدس وأهميَّتها الدينيّة المزعومة بالنّسبة للتيار القوميّ الديني الصهيونيّ الذي يُمثِّلُ التيّار الأكثر فاعليّة وحضوراً في الحركة الاستيطانيّة الصهيونيّة في الضفّة الغربيَّة؛ ومن المنطقيّ التَّفكير أنَّ في الضفَّة الغربيَّة اليوم، وخاصَّة بعد تدفّق المستوطنين من مستوطناتها إلى شوارع مدينة اللد، حيفا، عكا، النّاصرة، أمّ الفحم ويافا، تتزاحَمُ المعضلات الوجوديّة التي يفرضُها المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ على مواطِنيه اليهود وأصلانيي البلاد الفلسطينيين. فمِنَ الضفَّة وصَلَ المستوطنون الذين كانوا حتَّى قبل الهبَّة الأخيرة، مُشكِلة تخصُّ الفلسطينيين في الضفَّة الغربيَّة، وصلوا إلى المدن المتمرِّدة ليتعاملوا مع فلسطينيي الداخل وليجعلوا أنفسهم مُشكلةً لكلّ الفلسطينيين من دون استثناء. وبعد فَحْصٍ سريعٍ لتطوّر نشاط المستوطنين البلطجيّ وصولاً إلى تجاوزهم لدورهم الدّائم في مدينة القدس ومشاركتهم الفعّالة في قمع الفلسطينيين في مدن الداخل، سنجدُ أنَّ هذه النّشاطيّة البلطجيّة السياسيّة في طريقها لتنتزع لها دوراً بارزاً في السياسة الداخليّة الصهيونيّة، وتحديداً سياسات الهويّة العامّة للدولة والسياسات الأمنيّة.

الافتراض الذي تنطلقُ منه الدّراسات الإسرائيليّة أنَّ البلطجة الاستيطانيَّة ظهرت كردّ فعلٍ على مقاومة فلسطينيّة للمشروع الاستيطانيّ في الضفَّة الغربيَّة، لكنَّها لاحقاً تحوَّلت لتشكِّل انعِكاساً للتغيّرات في التيّارات السياسيّة الإسرائيليّة والانتقال من الهيمنة العمّالية إلى الهيمنة اليمينيّة التي دعمت المشروع الاستيطاني والمستوطنين في الضفّة الغربيّة.Weisburd, Jewish Settler Violence, 88-90. كذلك شكَّل امتناع الحكومات الإسرائيليّة عن ضمّ الضفّة الغربيّة بشكلٍ رسميّ دافعاً دائماً لتحفيز نشاطيّة سياسيّة معادية للحكومات الإسرائيليّة المتتالية، وكان هذا التوتّر بين الطرفين يتضاعف في أوقات مفاوضات السّلام، أو عند إعلان الحكومة عن استعدادها لإزالة المستوطنات أو بعضها. وهذا هو ما حدث عندما تمّ تطبيق بعض هذه الأفكار مثل الانسحاب من شمال سيناء العام 1982، أو خطّة الانسحاب الأحاديّ من قطاع غزّة العام 2005؛ وهذه الأخيرة ربَّما شكَّلت صدمَةً للحركة الاستيطانيّة دفعتها إلى تطويرِ عقيدةٍ استيطانيّة أمنيّة داخليّة منفصِلة عن العقيدة الأمنيّة الرّسميَّة التي تخلَّت عن منطق الغزو العسكريّ، ما شكَّل شرخاً في الثقة بين المستوطن وبين الجنديّ الإسرائيليّ، شرخاً يمكنُ قراءته في السّطور التالية لأحد المستوطنين في الضفّة الغربيّة: "لا نستطيع الوثوق بالجيش في حماية ملكيّتنا وحقولنا. ليس كلّ جنديّ وضابط لديه الالتزام نفسه بالاستيطان... فهم نادراً ما يكونون هنا. ولذلك علينا أن نرسّخ أمننا بأنفسنا". Gazit N. State-sponsored Vigilantism.

مع ذلك، من المهمّ الإشارة سريعاً إلى أنّ الغالبية العُظمى من المستوطنين يعيشون في المستوطنات الكبرى، ويعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيليّ، وهُم لا يُضطَّرون إلى ارتكاب أعمال بلطجة نظراً لكون هذه المستوطنات أشبه بالمدن الإسرائيليّة من حيثُ تواجد الشّرطة وقوات الجيش لحراستها بشكلٍ دائم. لكنّ البلطجة كممارسة يوميّة سياديّة، بالمعنى المُشار إليه في السابق، تُمارس من قبل المستوطنين الذين يعيشون في المستوطنات الأصغر حجماً، وتلك الأكثر انعزالاً عن بقية المستوطنات الكُبرى أو حتّى متوسّطة الحجم، حيثُ تنشَطُ الحركات الاستيطانيّة الأكثر راديكاليّة وعنفاً مثل حركة شبيبة التّلال التي تنشَطُ تقريباً في كلّ أنحاء الضفَّة الغربيَّة وتُدعَمُ من قبل العديد من المجالس الاستيطانيّة والأحزاب اليمينيّة الصهيونيّة. Weisburd, Jewish Settler Violence, 82-88.

تظهر بعض البيانات أيضاً، أنَّ العنف الاستيطانيّ قد يكون بديلاً للعنف العسكريّ الرسميّ خلال أوقات الهدوء النسبيّ في الأراضي المحتلَّة. فمنذُ نهاية الانتفاضة الثانية العام 2005 وحتّى العام 2015، كان هناك صعود في عدد الهجمات اليهوديّة ضدّ المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، وفي عدد ضحايا هذه الهجمات من الفلسطينيين. ويتوازى هذا الصعود مع هبوطٍ ملحوظٍ في مستوى العنف العسكريّ للجيش الإسرائيليّ في الأراضي المحتلّة على غرار عمليّة السور الواقي خلال الانتفاضة الثانية. ففي العام 2008 تمّ تسجيل 290 هجوما مرتبطا بالمستوطنين، وهذا العدد يتجاوز الأعداد التي تمَّ تسجيلها من قبل في الأعوام السابقة، 182 في العام 2006، 243 في العام 2007. وبالمثل، تضاعف عدد الفلسطينيين الذين قتلوا بسبب هجمات المستوطنين في العام 2008 ووصل إلى 131 مقارنة بالأعوام السابقة، 74 في العام 2006، 92 في العام 2007. وبعد هبوط الرّقم إلى 90 العام 2009 وهو الهبوط الذي يمكن أن يُعزى إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، عاد الرّقم ليرتفع بحدّة العام 2010 ويصل إلى 312 ويرتفع مرّة أخرى ويصل إلى 411 العام 2011. ووفقاً للمركز الفلسطيني في واشنطن، فقد كانت هناك زيادة بنسبة 315% في الهجمات الاستيطانيّة في الأعوام الخمسة بين 2007 و2011، وهي الفترة التي شهدت هبوطاً بنسبة 95% في الهجمات الفلسطينية في الضفَّة الغربيّة.

ومن المؤكَّد أنّ هذه الأرقام تضاعفت بحدَّة خلال العقد المنصرم، ومن المؤكّد أنّها تضاعفت بحدّة أكبر خلال عام 2021 فقط؛ لتؤشِّر على نمَطٍ تصاعديّ في أيديولوجيا العنف الاستيطاني وأنماط البلطجة الاستيطانيّة ونطاقات تطبيقها وممارستها. فمنذُ أن كانت بالكاد بمثابة ردّ فعلٍ على المقاومة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة قبل ما يزيد عن خمسة عقود، تصلُ الآن في العام 2021 لتشكِّل بَديلاً للممارسات السلطويّة الاستعماريّة الرّسميّة في الضفَّة الغربيَّة، وسلاحاً فتّاكاً في ردع الفلسطينيين في الدّاخل، وأيضاً، مُحرِّكاً لآلة الاستيطان الصهيونيّة الرّسميَّة بسبب نشاطها التوسّعيّ الجغرافيّ الدّائم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلَّة ما يُجبِرُ السَّلطات الاستعماريَّة على ترسيخ الهيمنة اليهوديَّة على هذه الأراضي، مثلما حدَثَ في جبل صبيح في بيتا وفي مناطق أخرى. بكلماتٍ أخرى؛ لقد تطوّرت الحركة الاستيطانيَّة في الضفّة الغربيَّة من حركة مدعومةٍ من الدّولة ووكالات يهوديّة عالميّة، إلى تشكيلٍ اجتماعيٍ سياسيّ يهوديّ مُهيمنٍ فعَّال بمفهومٍ متطوّر وأكثر تطرّفاً للسيادة اليهوديَّة، ويمتلك التّفويض الحكوميّ لامتياز العنف وأدواتهِ لممارسته على الفلسطينيين أينما كانوا، سواء في الضفّة الغربيَّة أو في أراضي 1948.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات