من السهل أن نعتاد على أمور جيدة، وأن نتعامل معها كأمور مفروغ منها. وأحد هذه الأمور هو الوضع الاقتصادي الممتاز في دولة إسرائيل، في العقد الأخير: الاقتصاد ينمو بوتيرة ما بين 3% إلى 5ر3%، مستوى المعيشة والرواتب في ارتفاع، نسبة التشغيل في ذروتها والبطالة في الحضيض، وحتى أن نقاط ضعف تقليدية، مثل نسب الفقر، والفجوات الاجتماعية، فيها تحسن ملحوظ.
ومن السهل الافتراض أن الأمور ستستمر على هذا النحو، إلا أن هذه فرضية خطيرة. البروفسور مانويل تراختنبرغ، الرئيس السابق للمجلس الوطني الاقتصادي، قال إن العام 2018 يذكّرنا بالعام 1972، بمفهوم أن دولة عالقة بشعور النشوة، وعلى قناعة بأنه لا شيء سيوقفها، إلى حين تتوقف بشكل مفاجئ والأكثر سوءا.
في الاقتصاد مؤشرات تحذير واضحة جدا، وعليها أن توقظنا من حالة اللامبالاة العالقين فيها. بالأساس يجب أن ننتبه للسبب الأساس لكون الاقتصاد حاليا ممتازا: أعجوبة التشغيل في السنوات الـ 15 الأخيرة، التي مرّت خلالها إسرائيل بانقلاب حقيقي، إلى دولة فيها نسبة البطالة متدنية جدا، وباتت الأولى بين أعضاء منظمة التعاون بين الدول المتطورة OECD. وعدا هذا، فإن الارتفاع في نسبة التشغيل نجده أساسا لدى الشرائح الضعيفة: نساء الحريديم، النساء العربيات، الرجال الحريديم، والمتقدمون بالسن.
إن نسبة التشغيل والانخراط في سوق العمل الإسرائيلية، التي تسجل ذروة غير مسبوقة، تعود إلى خروج الشرائح الفقيرة إلى العمل. وبالإمكان أن نرى بهذا تحولا إيجابيا جدا، كان من المفترض أن يؤدي إلى ارتفاع في نسبة البطالة، إلا أن المعطيات تشير إلى أنه إلى جانب الارتفاع الكبير في نسبة الانخراط في سوق العمل، فإن البطالة انخفضت هي أيضا، إلى مستويات غير مسبوقة. ولا تعبير آخر لوصف هذه الحالة المذهلة سوى أنها "أعجوبة التشغيل الإسرائيلية".
وثمة ثمن آخر لهذا الارتفاع في نسبة الانخراط في سوق العمل، بالذات لدى الشرائح الضعيفة، هو الضغط على الراتب، فعلى مدى فترة طويلة، ارتفعت نسب التشغيل، بينما معدلات الرواتب بقيت من دون أي تغيير. إلا أن هذا الضغط خفّ في السنوات الأخيرة. وتشير معطيات بنك إسرائيل المركزي إلى ارتفاع كبير في معدلات الرواتب، وتقريبا بنسبة متشابهة بين الدرجات الخمس لسلم التدريج الاقتصادي الاجتماعي. كما يشير البنك إلى ارتفاع حاد في نسب التشغيل، وبشكل خاص عند الدرجة الأدنى (الأضعف) في سلم التدريج الاقتصادي الاجتماعي. وعلى الرغم من هذا، فإن الفجوات في معدلات الرواتب بين الشرائح المختلفة ما تزال كبيرة.
إن أعجوبة التشغيل كبيرة إلى الحد الذي جعل الحكومة تشكل لجنة جديدة، لوضع سياسات جديدة للتشغيل الوطني، بعد أن كانت لجنة سابقة قد وضعت توصيات قبل نحو ثماني سنوات، وباتت توصيات ليست ذي صلة، في أعقاب تحقيق كل الأهداف التي وضعتها تلك اللجنة. فمنذ زمن لم نر سياسة حكومية تنجح في تحقيق كل الأهداف التي وضعتها لذاتها، وحتى في وقت مبكر، أكثر من المتوقع، خاصة حينما يكون الحديث عن سياسة لمحرك أساس للنمو الاقتصادي.
إن النجاح في مجال التشغيل جعل هدف اللجنة الجديدة أن يتم وضع سياسات حتى العام 2030، وهي برئاسة البروفسور تسفي أكشتاين. وقد وضعت أهدافا طموحة، ومن بينها رفع نسبة الانخراط في العمل، لدى رجال الحريديم والنساء العربيات، إذ أن أهدافا سابقة لهاتين الشريحتين لم تتحقق. وضياع هذه الفرصة جعل الحكومة تواصل الدفع نحو الأمام، ووضعت أهدافا لتشغيل هاتين الشريحتين الأكثر ضُعفا في إسرائيل.
وقد أخذت اللجنة على عاتقها مهمة طموحة أكثر، ليس فقط رفع نسبة التشغيل، وإنما أيضا تحسين جودة العمل وانتاجيته، من خلال وضع أهداف لرفع مستويات الرواتب لدى الشرائح الضعيفة. إلا أن في هذا مشكلة: فعلى فرضية أن أهداف اللجنة حتى العام 2030 يتم تحقيقها، ونسبة التشغيل ترتفع من 78% إلى 81%، وهي نسبة القمة العالمية، فإن التوقعات للاقتصاد الإسرائيلي مقلقة. بكلمات أخرى، فإن المحرك الأساس، الذي رفع الاقتصاد الإسرائيلي في مجال التشغيل، في السنوات الـ 15 الأخيرة، يبدأ في استنفاد ذاته. فليس بالإمكان تخفيض البطالة أكثر، والتحسن التالي في نسب التشغيل سيكون صعبا جدا، لأن الأمر مرتبط برجال الحريديم والنساء العربيات. وعلى أي حال، فإن تحسنا كهذا، في حال طرأ، لن يكفي، إذ أن توقعات أكشتاين، رئيس معهد "أهران" للسياسة الاقتصادية في المركز الأكاديمي متعدد المجالات في هيرتسليا، أنه حتى لو تحققت كل الأهداف التي وضعتها لجنته، فهذا لن يمنع تراجع الاقتصاد الإسرائيلي.
ويدل تحليل معهد "أهران" على أن معدل نسبة النمو الاقتصادي في السنوات العشر الأخيرة كانت 5ر3%. وهي نسبة جيدة، حسب كل الآراء، ولكن تركيبة هذا النمو إشكالية: 74% نابع من أعجوبة التشغيل، بمعنى ارتفاع في أعداد العاملين. وفقط 26% من النمو نابع من تحسين جودة وانتاجية العمال. وبالأرقام، فإن الارتفاع في نسبة التشغيل ساهم بنسبة 5ر2% في النمو، مقابل 9ر0% بسبب تحسن إنتاجية العمل.
وعلى افتراض أنه سيتم تحقيق كافة الأهداف حتى العام 2030، فإن تحليل معهد "أهران" يدل على أن مساهمة العمل في رفع نسبة الناتج العام، ستتقلص إلى 6ر1% فقط. ما يعني أنه في حال لم يرتفع مستوى الإنتاجية، فإن معدلات النمو الاقتصادي ستهبط إلى نسبة 3ر2% فقط، وهذا تقريبا مثل معدل التكاثر السكاني السنوي. وبكلمات أخرى، نمو أقرب للصفر، ولن يسمح لإسرائيل برفع مستوى المعيشة أكثر.
وترتكز هذه التوقعات على فرضية أننا سنواصل الارتفاع في نسب التشغيل، وأن الطريق الوحيدة لإسرائيل لزيادة النمو، هي رفع مستويات إنتاجية العمل. فكيف يرفعون مستوى الإنتاجية؟
الإنتاجية المنخفضة تعني أن الإسرائيليين يعملون بشكل سيء، وينتجون أقل في ساعة العمل، وهذا نابع من كل المساوئ في الاقتصاد الإسرائيلي: جهاز التعليم السيء، الفجوات الاقتصادية، شرائح مجتمعية يتم إقصاؤها، مثل الحريديم والعرب، بنى تحتية بائسة، بيروقراطية حكومية خانقة، ونقص بنجاعة الخدمات الحكومية.
ومن أجل تحسين الإنتاجية علينا أن نتقدم في عدة مجالات في آن واحد. وهذا جهد وطني ضخم جدا، ولكنه في ذات الوقت متشعب ومعقد، ويثير الإحباط، لكن لا توجد طريق للانتظام من دون هذا الجهد.
وتوصي لجنة الـ 2030 بخطوة هامة لزيادة الإنتاجية: تحسين المؤهلات المهنية في إسرائيل، من خلال إصلاحات في الكليات التكنولوجية، ومن خلال وضع أهداف للجودة، مثل رفع الراتب بنسبة 6% عن كل سنة تأهيل، وفي كل مجالات التأهيل المهني. ويقول معهد "أهران" مضيفا أن هناك ضرورة لتوسيع البنى التحتية وزيادتها، بميزانيات تقدر بـ 20 مليار شيكل سنويا، ما يعني مئات المليارات خلال عقدين من الزمن.
ويشير بنك إسرائيل إلى نقطة الضعف في جهاز التعليم، الذي يحتاج إلى موارد مالية للبنى التحتية والإصلاحات، وبالذات في مجال جودة المعلمين. والحكومة ذاتها مهتمة بتخفيض بيروقراطيتها، لكن كل تلك الجهات متفقة على ضرورة دفق موارد لدمج الحريديم والعرب في التعليم العالي وسوق العمل.
كل واحدة من هذه المهمات، التي تم ذكرها هنا، هي مهمة ضخمة. وكل واحدة منها تحاول دولة إسرائيل منذ عقد من الزمن مواجهتها، وفي بعض المهمات فإن المحاولات جارية منذ عقود من الزمن، والنجاح قليل جدا. والاحتمال بأن ننجح في كل هذه المهمات متدن، ولكن لا مفر من شن هجوم إلى الأمام، من أجل فعل كل هذا، وإلا لن يكون لنا احتمال بالاستمرار.
_______________________
(*) محللة اقتصادية. عن صحيفة "ذي ماركر"