"اسمي عبد الله"- يعلن أحد طلاب الصف الخامس من ذوي المظهر المرتبك والشعر الأشقر بصورة غير مقنعة تماماً. ويقول طالب آخر "اسمي صدّام". فتجيب ميري أوحيون بكلمة "طيّب" طلاب صف اللغة العربية في المدرسة الابتدائية التي تحمل اسم "هرتسل".
أوحيون هي امرأة مفعمة بالطاقة الكبيرة تبلغ من العمر 28 عاماً وهي تتحلى بالكفاءات. ويبدو أن الأولاد متشوقون لتعلم المادّة ويتصرفون أفضل مما يتمّ عادة في مثل هذه السنّ وباستثناء ذلك لا نشاهد في الصف أموراً غريبة. فاللغة العربية هي إحدى اللغتين الرسميتين في دولة إسرائيل ومن المنطق أنْ يتعلمها طلاب الصف الخامس من اليهود. مع العلم بأن اللغة الإنجليزية وعلى الرغم من عدم كونها لغة رسمية إلا أنها مادّة إلزامية لجميع الطلاب ابتداءً من الصفّ الثالث. يُذكر أن اللغة العبرية هي لغة إلزامية في المدارس العربية ابتداءً من الصف الثاني، إلا أن مثل هذا الصف العبري الذي يتعلم اللغة العربية غير موجود بكثرة بل فقط في 16 مدرسة ابتدائية في إسرائيل، 13 مدرسة منها في حيفا (وهي مدينة مختلطة حيث يبلغ السكان العرب فيها 10% من مجمل سكانها الذين يبلغ عددهم 272,000 نسمة) أما المدارس الثلاث الأخرى ففي مدينة كرميئيل في الجليل الأسفل.
صفّ المعلمة أوحيون هو جزء من مشروع تجريبي عنوانه "نبدأ في سنّ مبكرة" بدأ تطبيقه في شهر شباط الماضي من قبل "مبادرات صندوق إبراهيم"، الذي يتمّ تمويله بصورة خاصة ويعمل من أجل تحقيق التعايش بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل مع التنويه بأنّ المشروع يحظى بدعم وزارة التربية والتعليم وبلديتي حيفا وكرميئيل. وتقوم "مبادرات صندوق إبراهيم" بإعداد البرنامج التعليمي وبتأهيل المعلمين وبتمويل غالبية الساعات التعليمية. وتمّ الترحيب بحفاوة بهذا البرنامج وعلى الرغم من تقليص ميزانية وزارة التربية والتعليم وكتب الفصل الجماعي للمعلمين من قبلها إلا أنّ هناك ثلاث مدن أخرى مرشحة لدخول مشروع تعليم العربية في العام المقبل. وتأمل "مبادرات صندوق إبراهيم" أن يتمّ تطبيق البرنامج بأربعة أضعاف بحيث يضمّ في السنة القادمة 60 مدرسة في شتى أنحاء البلاد.
لولا الصندوق لاضطر طلاب الصف الخامس للتعامل مع اللغة العربية لأول مرة في الصف السابع دون أن يفعل الجميع ذلك. اللغة العربية هي مادة إلزامية في السوابع والثوامن والتواسع في المدارس اليهودية الرسمية لكن في الواقع وبسبب عدم الاهتمام من قبل الطلاب والمعلمين والمديرين فلا يتعلم هذه اللغة سوى نصف الطلاب الذين يبلغ عددهم 80,000 في هذه الشريحة العمرية. أما في الصف العاشر فيهبط عدد الطلاب الذين يتعلمون العربية إلى أقلّ من الربع. وعندما يصبح تعليم المادة اختياريا في المرحلة التالية يهبط عدد الدارسين بصورة حادّة بحيث أنّ حوالي 3,000 طالب يهودي فقط يتقدمون لامتحانات البجروت في اللغة العربية كلّ سنة.
من إحدى الاسطوانات التي تضعها المعلمة أوحيون تنطلق عبارة "السلام عليكم يا آفي" فيجيب رجل آخر"وعليكم السلام يا حسن". ويسرّ آفي وحسن أن يكتشفا بأنهما من حيفا وأنهما جاران. ونسمع أصوات الموسيقى الشرقية من الاسطوانة مما يجعل الأولاد يصفقون مع أن بعضهم ترتسم على وجوههم ابتسامات يشوبها الارتباك.
وتأتي هذه الاسطوانة التي يستمع إليها الطلاب لتحضير الوظائف البيتية جزءاً من رزمة الوسائل التي أعدتها "مبادرات صندوق إبراهيم" وتجد في هذه الرزمة دفتراً للكتابة والخط يحتوي على أمثال شعبية عربية بعضها واضح تماماً وبعضها مثير للإلهام (كلبان يستطيعان قتل أسد) وبعضها يحذر القرّاء بأن عليهم أن يخافوا ممّن لا يخاف الله. ويعرض الكتاب التعليمي محادثات سهلة باللغة العربية المكتوبة بأحرف اللغة العبرية بالإضافة إلى قصص وقصائد عربية مترجمة إلى العبرية. والعالم الذي يصوّره الكتاب يخلو من أي فجوات ناجمة عن الشك والتمييز بين العرب واليهود في إسرائيل. كلا الشعبين يعيشان في هذه الدولة اللطيفة ويتبادلان العبارات المهذبة حول أخواتهم وإخوانهم وبيوتهم.
يُعتبر تعليم العربية في الخوامس والسوادس أحد التجديدات الرئيسية للصندوق ومن المعروف أنّ تعلم اللغة العربية يتمّ بأفضل أشكاله في سنّ مبكرة إلا أنّ الفكرة التي تقف من وراء المشروع في هذه الحالة تكمن في إعطاء الأولاد انطباعا ايجابيا حول اللغة حتى قبل تذويت الآراء المسبقة المناهضة للعربية مما يجعل الطلاب يرفضون دراسة اللغة في سنّ متقدمة أكثر.
ومن التجديدات المثيرة في المشروع نوع اللغة التي يتعلمها الطلاب، فإذا كان الطلاب سوف يتعلمون اللغة العربية في مرحلة لاحقة سوف تكون الفصحى المستخدمة عادة في النصوص المكتوبة. هذه هي اللغة التي يتمّ تدريسها في المدرسة وفي مرحلة لاحقة في الجامعة. وهي ملائمة لمطالعة الكتب إلا أنها غير مناسبة لتبادل أطراف الحديث مع الناس. أما العامية فلها قواعدها الخاصة ومفرداتها المختلفة مع الإشارة إلى أنها تتفاوت من منطقة جغرافية لأخرى وأنها تختلف إلى أقصى الحدود عن اللغة الفصحى إلى درجة انك تظنها لغة أخرى تماماً. يتعلم الطلاب في مشروع "مبادرات صندوق إبراهيم" خليطاً من كلتا اللغتين يسميه مخططو المشروع "لغة الاتصال" والمقصود هو تعليم اللغة العربية القابلة للاستعمال في الحديث مع الناس وتتيح فهم البرامج التلفزيونية التي تعتبر أعلى من العامية بقليل إلى جانب تعلم مبادئ القراءة والكتابة. تقول أوحيون التي تعلمت في جامعة تل أبيب اللغة العربية وآدابها: "اللغة العامية هي التي تتبادل الحديث مع الناس من خلالها ونحن نريد أن يتعلم الأولاد شيئاً يمكنهم استخدامه من اليوم التالي".
المطلب بزيادة عدد الساعات المخصصة لتعليم اللغة العربية في المدارس اليهودية يلامس المشاعر المختلطة في إسرائيل بالنسبة لتعليم هذه اللغة التي تعدّ إحدى اللغتين الرسميتين في الدولة إلى جانب كونها لغة أكثر من مليون مواطن عربي وكونها لغة العدوّ حيث إن مكانة اللغة العربية عُرضة للتجاهل، أما ما يعرفه الجمهور اليهودي من الكلمات العربية التي دخلت إلى اللغة العبرية فمعظمُه من الشتائم الفظة التي تمسّ بالأخوات والأمهات وهي لا تجعل من إسرائيل دولة ثنائية اللغة. والقاعدة التي لا تشذ عنها سوى حالات معدودة هي أن الإسرائيليين الوحيدين الذين يعرفون اللغتين هم إمّا أنْ يكونوا العرب الذين لا مفرّ لهم وإمّا أنْ يكونوا اليهود الذين خدموا في الاستخبارات أو جهاز الأمن العامّ (الشاباك).
ويقول أمنون بئيري سولتسيانو، مدير الفعاليات في إسرائيل من قبل "مبادرات صندوق إبراهيم": "لا يمكنك تأييد التعايش بين شعبين غير متساويين أو دون الإعلان بأنّ المساواة هي الهدف" مردفاً: "إن اللغة تلعب دوراً حاسماً في هذا المضمار ويتوجب على مجتمعنــا أن يصبح مجتمعاً ثنائيّ اللغة دون أن يقتصر ذلك على الجهاز التربوي فحسب بل يجب أن تكون اللغة العربية شرعية في كلّ مكان".
وقد أفضى المنطق الذي يقف من وراء هذا المشروع التجريبي إلى دعم وزارة التربية والتعليم له إلى جانب المدن المساهمة فيه.
وفي هذا السياق يقول عادي إلدار، الذي يرئس بلدية كرميئيل منذ 16 عاماً "إنني أومن بأنه يتعيّن على جميع مواطني الدولة عربا ويهودا أن يتقنوا كلتا اللغتين" مع الإشارة إلى أن كرميئيل تعتزم توسيع نطاق مشروع "مبادرات صندوق إبراهيم" من 3 مدارس ابتدائية تطبّق البرنامج اليوم إلى 6 في العام القادم.
وكان يونا ياهف، الرئيس الحالي لبلدية حيفا وأحد أنصار المشروع، قد حاول في أواسط التسعينيات عندما كان نائباً في الكنيست من قبل حزب العمل أنْ يمرّر مشروع قانون لتعزيز تعليم العربية في المدارس غير أن جهوده ذهبت أدراج الرياح ولم تتكلل بالنجاح. وعقب من خلال الناطق بلسانه قائلاً: "كنت أومن دوماً بأنّ جذور الصراع العربي الإسرائيلي تعود إلى كوننا لا نتكلم نفس اللغة. وآسف حيث لم أتمكن من تمرير مشروع القانون في الكنيست وأشعر اليوم بالندم لأنني لم أتعلم اللغة العربية".
لكن على الرغم من التأييد الرسمي لتعليم العربية إلا أن التمويل الرئيسي لا يأتي من حكومة إسرائيل وإنّما من متبرعين خاصين يعملون على تمويل "مبادرات صندوق إبراهيم"، كما تشير سمر جابر مصاروة، إحدى مديرات المشروع من قبل الصندوق، منوهة أنّ المشروع سيكون بأمس الحاجة إلى التمويل من الحكومة في حال توسيع نطاقه.
هذا التمويل منوط بوزارة التربية والتعليم التي تعاني من نقص في الميزانيات ومن النزاعات على خلفية توصيات تقرير لجنة دوفرات التي أوصت بإدخال تغييرات بعيدة المدى إلى الجهاز التربوي في إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا المشروع يحظى بدعم السيد شلومو ألون، المسئول عن تعليم العربية في جميع المدارس في إسرائيل. ألون يقول: "اللغة العربية هي الحيوية والنشطة في منطقتنا بل حتى أكثر من ذلك حيث تعتبر ثقافة غنية ومدهشة واعتبرها حيوية لحياتنا هنــا". وبينما لا يوصي تقرير لجنة دوفرات بإجراء تغييرات معينة في طريقة تعليم العربية فإنه يوصي برصد موارد أكبر وقدرة متزايدة على اتخاذ القرار توضع بيدي مدير المدرسة. ويرى ألون أنّ هذه طريقة واعدة لزيادة عدد ساعات تعليم اللغة العربية. وأردف يقول إن ما سيعطي العربية الزخم المطلوب هو تحويل اللغة العربية إلى مادة إلزامية في امتحانات البجروت مضيفاً أنّ العرب مضطرون لتعلم العبرية وبالتالي سيكون نزيهاً أن يسري هذا الأمر على اليهود. ويعترف ألون أن مثل هذا التغيير لن يحصل بين ليلة وضحاها منتهزاً الفرصة لكيل الثناء لجمعية "مبادرات صندوق إبراهيم" ملمّحاً إلى أنّ هدف الوصول إلى ضمّ ستين مدرسة في هذا المشروع قد ينطوي على إفراط في التفاؤل.
تعليم اللغة العربية في المدارس في إسرائيل لا يماثل تعليم المواضيع الأخرى. وتستذكر المعلمة ميري أوحيون ما كان يحدث من قبل، تقول: "عندما كنت آتي إلى الصفّ في السنوات الأخيرة بعد هجوم إرهابي كان الطلاب يثيرون ضجة عارمة ولم أتمكن من تعليم أيّ شيء. وكانت إدارة المدرسة تطلب مني أن أدخل إلى الصفّ وأتحدّث عن الأحوال التي نعيشها وكأنني أقوم بدور سفيرة العالم العربي".
"وفي هذا المضمار، تضيف أوحيون، يكون المشروع قد وُلد في اللحظة المواتية حيث تعيش البلاد منذ فترة حالة من الهدوء وذلك للمرة الأولى منذ بدء الانتفاضة قبل أكثر من أربع سنوات. وكنا في الأسابيع الأولى من تطبيق المشروع في مدرسة هرتسل قد واجهنا العديد من الصعوبات حيث عارض بعض التلاميذ دراسة العربية بل وصارَحَني أحدهم على الملأ بأنه لا يحبّ العرب. واعتقد بعض الأهالي أنه يجب تعليم الأولاد الفرنسية بدلاً من العربية". وتشير أوحيون إلى أن هذه المشكلة تمّ تذليلها بسرعة البرق وأن فترة التهدئة ساهمت في النهوض بالمشروع.
ويرى أمنون بئيري سولتسيانو من "مبادرات صندوق إبراهيم" أنّ التعاون الذي حصل عليه المشروع من وزارة التربية والتعليم والسلطات المحلية نابع من المواجهات التراجيدية التي وقعت بين الشرطة والعرب في إسرائيل في أكتوبر 2000 بصورة مباشرة مشيراً إلى أنّ "هذه الأحداث أفضت في البداية إلى الصدمة والى وقف العديد من المشاريع العاملة على تعزيز التعايش مثل اللقاءات بين تلاميذ من الوسطين العربي واليهودي حيث لم يرغب أحد في المساهمة والمشاركة في هذه اللقاءات بعد الأحداث إلا أن الأمر ذاته جعلنا نفكر مليّاً وندرك أنه لا يمكن تجاهل ذلك والمرّ عليه مرّ الكرام".
لدى طلاب ميري أوحيون أسبابُهُم الخاصة حول أسباب دراستهم للغة العربية فتقول ليرون نتان، ابنة الـ 11 عاماً، إنها تجد متعة جمّة في تبادل الحديث مع أختها الكبرى التي تدرس اللغة العربية أيضاً دون أن يفهم أخوهما الصغير ما تقولان. ويشرح عيدو رام بمنطق لا يمكن دحضه أن إتقان اللغة العربية مهمّ حيث "إذا وجّه إليك شخص عربي سؤالاً بالعربية يمكنك فهمه". وتقول يهيل شتراوس إنّ جدّتها التي قدمت إلى البلاد من العراق تهوى سماعها وهي تتحدث لغة الأم الخاصة بها". أما جلعاد نومبرغ فيلعب بفريق لكرة القدم مع أولاد عرب ويتمتع عندما يستطيع طرح السلام عليهم باللغة العربية.
ويتحدث أولاد آخرون عن الأوضاع السياسية. يقول روني لحمنوفيتش، الولد الأشقر الذي قال في البداية إنّ اسمه عبد الله: "هذا هامّ لأنّ العربَ يجيدون اللغة العبرية وبالتالي فهذا غيرُ منصف". ويرى دان شالوم أنه "سيكون من الصعب التوقيع على معاهدة سلام مع العرب إذا لم نعرف اللغة العربية". ويفهم إيتاي عنبار، صاحب الشعر البني القصير والملامح الجادّة، بأفضل الصور النظرة الازدواجية الإسرائيلية تجاه اللغة الرسمية التي تعاني من الإهمال وتجاه الناطقين بها فيقول في البداية: "توجد حرب بيننا وبين العرب لذا يجب أن نفهمهم". ثم يفكر قليلا ويضيف: "وهم أيضاً جيراننا".