انتجت المؤسسة البحثية الاكاديمية في اسرائيل خلال العقدين الاخيرين كمّا كبيرا من الدراسات النوعية في تاريخ الصراع في الشرق الاوسط، تطورت بفضل تأثيراتها المجتمعية الواسعة الى حالة ثقافية – اجتماعية – فكرية، يشار اليها منذ اليوم على انها مفصل مهم في الهستوريوغرافيا الصهيونية والاسرائيلية الجديدة
نقد الصهيونية من الداخل
محمد حمزة غنايم
(1)
انتجت المؤسسة البحثية الاكاديمية في اسرائيل خلال العقدين الاخيرين كمّا كبيرا من الدراسات النوعية في تاريخ الصراع في الشرق الاوسط، تطورت بفضل تأثيراتها المجتمعية الواسعة الى حالة ثقافية – اجتماعية – فكرية، يشار اليها منذ اليوم على انها مفصل مهم في الهستوريوغرافيا الصهيونية والاسرائيلية الجديدة.
بدأ ذلك في اواسط الثمانينيات، عندما بدا ان الثقافة الصهيونية المعاصرة كانت تحاول تجاوز فصامها التاريخي المزمن الذي صنعته الحكاية القومية الواحدة، بعد ان تكشفت في سياقها التوثيقي عن النقيض التام للحقائق الراسخة التي توصل اليها عدد من اساتذة الجامعات والباحثين في موضوع النكبة الفلسطينية والترحيل الكبير (في سنة1948). كانت تلك تيارات ما بعد حداثية جديدة تتفاعل في المجتمع الاسرائيلي العريض، خيل ان وجودها كان مقدمة ضرورية للخوض في غمار تجربة الفكاك من ذلك الفصام المزمن. لذلك بدت هذه التجارب مغايرة في كتابة وتحليل الوقائع التاريخية، خارج دائرة "التابو"، وإن كانت في الواقع تؤدي عملها في صميمه بالتحديد. اكتسبت هذه التجارب الجديدة في التأريخ صفات مختلفة لدى الباحثين في التاريخ الصهيوني والاجتماعي المعاصر، وكانت منذ بدايتها مثار جدل عويص خاضه كثيرون على جبهة الصراع الثقافي الداخلي. بدت ابحاث هذه الفئة الجامعية تتويجا لمرحلة من البحث في اسئلة ما بعد الحداثة التي جابهتها اسرائيل في تلك الايام. كانت اعمالها مقدمة ضرورية لتأسيس بنية "ما بعد صهيونية"، كان لا بد لها ان تحمل موقفا سياسيا وثقافيا جديدا من مختلف الاسئلة المغلقة والمحرمات القومية، ذات الإجماع القومي الراسخ.
اعتبر "البوست صهيونيون" خارجين على السرب في الاكاديمية والمجتمع الاسرائيلي العريض، بفضل اشتغالهم المحدد بمواد جديدة كانت تتوفر حديثا امام البحث الاكاديمي الاسرائيلي في التاريخ اليهودي المعاصر. ولم تكن الوثائق الجديدة وحدها ما اوصل هذا البحث الى صيغ جديدة ومختلفة لحكاية الترحيل الكبير، الذي ارتكبته الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني قبل وبعد العام 1948.
لم يكد الجدل يبدأ خارج الجامعة في اسئلة "المؤرخين الجدد"، حتى تجاوز البحث الجديد داخلها مجال التاريخ واسئلة الصراع، ليتداخل في مختلف قضايا الثقافة والمجتمع والفرد، ويصبح سؤالا ثقافيا كبيرا تحدد بموجبه مواقف الكثيرين وترتسم هيئاتهم المسيسة، رغم حرصهم الاكاديمي – العلمي على البقاء خارج "الحالة الايديولوجية" التي الصقت بهم، عنوة تارة، وبكثير من الصدق تارات.
لم ينحصر البحث الاكاديمي الجديد في الفصل المشترك المأساوي من الصراع في مراحله الاولى، ويخيل ان ما قيل في بحث عميق وجاد واحد حول نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين (بيني موريس، مثلا) يظل كافيا ليفتح عيون الجميع على ان ما كان قبل هذه المؤلفات سيكون مختلفا بعدها، ولا يمكن تجاهله على الاطلاق. ولعل ما لحق من خدش بالحكاية الرسمية الواحدة في هذا الموضوع، كما ادته الابحاث التاريخية الجديدة في بدايات الصراع، كان سببا مباشرا في ادلجة هذه المجموعة من الباحثين التي تبلورت داخل الحرم الجامعي، تمهيدا لنفي الشرعية عنها داخل المجتمع، في محاولات محمومة لتجنب تأثيراتها المحتملة على الخطاب القومي العام، باتهامها بالانحياز في ابحاثها التاريخية.
كانت هذه الفئة من الباحثين تنحاز الى الحقيقة التاريخية التي طالعتها في الوثائق الجديدة، غير مدركة على ما يبدو ان الانحياز الى الحقيقة سيصير تهمة في دوائر البحث التاريخي الاسرائيلي الجديد، لذلك لم تتوقف اهتماماتها "البوست صهيونية" عند هذا المجال، وامتدت لتطال مجالات يهودية داخلية، بعضها كان بمثابة تابوهات محرمة (الكارثة، ومؤلفات توم سيغف حصرا)، وبعضها الاخر لم يعرفه البحث الاكاديمي العلمي في اسرائيل من قبل (يهود الشرق وتظلماتهم، وكتابات شلومو سفيرسكي في هذا الموضوع).
آذنت كتابات المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع الانتقاديين بميلاد ظاهرة ثقافية داخل الحرم الجامعي، كانت اكثر من مجرد "حالة ايديولوجية" تريد ان تقول للمجتمع الكبير ان الكثير من القيم التي تربى عليها كانت مصطنعة ومفبركة، وانها جاءت في خدمة المشروع الكبير في بناء الدولة والهوية القومية، ونسج التاريخ المؤسس على الحكاية الواحدة واللون الواحد.
نشرت المؤلفات "البوست صهيونية" اولا باللغة الانجليزية خارج البلاد، وكانت بواكيرها مؤلفات سمحه فلابن "ولادة اسرائيل" المنشور في نيويورك عام 1987، وبعده بعام صدر كتاب بيني موريس حول "ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين" (كمبردج 1988) وكتاب آفي شلايم "مكائد ما وراء الاردن" (اكسفورد)، وكتاب ايلان بابه "بريطانيا والنزاع العربي – الاسرائيلي" (لندن).
(2)
استمر تصاعد ظاهرة "المؤرخين الجدد" عقدا من الزمن تقريبا، وعندما بدا انها تتطلب "تسديد فواتير" كثيرة مفتوحة في المجتمع والثقافة الاسرائيلية الواسعة، وبضمنها "فواتير" الصراع الطائفي والتمييز العرقي وعقدة الخوف من الحقيقة التاريخية، اشتدت الحملات الانتقادية الموجهة لهذه الفئة الاكاديمية، وتم تصنيفها بكثير من التجني على انها "معادية للصهيونية"، و "كارهة لاسرائيل".
اشترك ادباء معروفون ومخضرمون في اسرائيل في هذه الحملة، وبرأسهم اهرون ميغد، ومعه عدد من "المؤرخين التقليديين" من نوع انيتا شبيرا(وكتابها "يهود جدد، يهود قدامي") ويوآف غلبر وامنون روبنشتاين (وكتابه "من هرتسل حتى رابين") واخرون، ونشأت اجواء معادية لهذه الظاهرة الممأسسة. قبل مقالات ميغد بسنوات نشر شبتاي طبيت كاتب سيرة بن غوريون ثلاثة مقالات في "هارتس" تناول فيها الظاهرة، واتهم هؤلاء المؤرخين بعدم الاستقامة الثقافية والاستناد الواعي الى "معلومات خاطئة". هنا اندلعت الحرب، وعندما بدأت تتردد لاحقا المواقف النقدية في مجالات اكاديمية اخرى، نشأت الحاجة الى مصطلح اخر، اكثر شمولية، يحيط بالجميع. في البداية، كانت هناك ميول لتعريف هذه الفئة على انها مع "البوست صهيونيين". هكذا اعتبر بيني موريس على انه واحد من هؤلاء، "بوست صهيوني"، على الرغم من انه في مواقفه السياسية صهيوني بالذات.
جاء نقد الصهيونية من داخلها هذه المرة، واخرجت اقسام التاريخ في الجامعات الاسرائيلية سلسلة من الابحاث الجامعية التي وقفت في مجابهة مع الصهيونية ونهجها على مختلف الاصعدة، وبرأسها تدريس مادة الصهيونية في اقسام التاريخ اليهودي العام. رفض المؤرخون "ما بعد الصهيونيون" الفصل التقليدي لتعليم التاريخ في الاكاديمية الاسرائيلية الى قسمين: كل ما جرى لليهود يدرس في اقسام ابحاث "ارض اسرائيل" وتاريخ بني اسرائيل، اما باقي التاريخ، وبدون علاقة باليهود تقريبا، فيدرس في قسم التاريخ العام (فقط في جامعة بن غوريون لا يوجد فصل كهذا).
بالتوازي مع هذه الانتقادات القادمة من اليمين، كان هناك من انتقد غياب الظاهرة في اقسام التعليم والابحاث الاخرى في الجامعة الاسرائيلية. كذلك كان حال البروفسور شلومو زند، مؤلف الكتاب الهام "الحقيقة والقوة" (تل ابيب، 2001)، الذي يرى ان الفصل المشار اليه اعلاه لا مثيل له في أي مكان في العالم. ففي فرنسا لا يتعلمون تاريخ فرنسا بمعزل عن تاريخ اوروبا. لكن هنا، اذا كنت محاضرا في التاريخ العام، فمن غير المفترض ان تتطرق للتاريخ اليهودي. لذلك تبدو "ما بعد الصهيونية" بنظر زاند غير ملائمة للبحث او التعليم في قسم التاريخ العام، دون علاقة بوجود مؤرخين في اقسام التاريخ العام عرّفوا انفسهم باستمرار بأنهم ما بعد صهيونيين او معادين للصهيونية. وينوه البروفسور شلومو زاند (في حوار مع نيري لفنه، "هارتس"، 21/9/ 2001) الى ان الاقسام التي تتطلب ان تكون فيها ما بعد صهيونية بشكل ملح، لا حضور لها. في قسم تفكير اسرائيل – يقول – او في قسم تاريخ شعب اسرائيل، فانني لا اعرف أي شخص هو غير صهيوني او ما بعد صهيوني. لماذا؟ لأن تقسيم التاريخ بهذا الشكل يعني ان تاريخ فرنسا يجب ان يعلم من الخارج وبشكل موضوعي، لكن المفترض بهم ان يعلموا التاريخ اليهودي، لا ان يكونوا ملتزمين بالايديولوجيا الصهيونية.
كلمات زاند هذه التي قيلت بعد اكثر من عقد ونصف على ميلاد المؤلفات الما بعد صهيونية الاولى، تود ان تقول ان عملية "لبرلة الجامعات الاسرائيلية "، لم تصل الى الاقسام العاملة في حفظ الذاكرة الوطنية، أي اقسام التاريخ اليهودي او تاريخ الشعب الاسرائيلي او دراسات ارض اسرائيل وتفكير اسرائيل. هناك جدار من اساتذة التاريخ في هذه الجامعات ممن يضفون شرعية على الادعاء القائل بأن الباحث في تاريخ شعب اسرائيل لا يستطيع ان يكون "ما بعد صهيوني". وفي ذلك ما يفسر حقيقة كون اقسام تاريخ شعب اسرائيل لا تتعامل تقريبا مع الصهيونية، التي تدرس في الاساس في "معهد يهودية عصرنا" فيها.
تعكس هذه الحالة نوعا من "الهيمنة القومية" على كل شيء: الافكار، والرموز، واتجاهات الخطاب القومي. وبعد ان تطور تفكير "ما بعد قومي" وما بعد صهيوني، وماركسي ونسوي، في اسرائيل من النصف الثاني من الثمانينيات، نزلت "البوست صهيونية" في مطلع الألفية الثالثة الى العمل السري، حتى انها "ماتت نهائيا" لدى كثيرين على الساحة الثقافية العامة.
مهما يكن من امر هذه السرعة في "اعلان وفاة" ما بعد الصهيونية والعودة الى نوع من "الصهيونية الجديدة" الجوهرية، بأثر من الاحداث المحيطة، تظل ابحاث هذه الفئة كما اسلفنا مفصلا تاريخيا مهما لا يمكن تجاهله، او العودة الى ما كان قبله في سياق البحث في تاريخ الصراع في الشرق الاوسط.
(3)
يضم هذا الكتاب ست دراسات مختلفة، روعي في اختيارها وتحريرها قاسم نقد الصهيونية بين الماضي والحاضر، المشترك لجميعها.
اثنتان من هذه الدراسات تحاول كل منهما ان تموضع تيار "المؤرخين الجدد" من وجهة نظر سوسيولوجيا نقاش المؤرخين، وفيما هو مختص بحرب 1948 والرواية الاسرائيلية الرسمية (دراستا اوري رام وايلان بابه).
اما دراسة اسحاق لاؤور فهي بمثابة اطلالة معمقة غير مسبوقة على "البدهي" او "المفهوم ضمنا" في النتاج الادبي العبري، الذي دأبت الدولة العبرية ولا تزال على ارسائه وتعهده بالرعاية في "مسعى لا يكل" من اجل اعادة "انتاج رعاياها".
وتتناول دراستا غرشون شفير وشلومو سفيرسكي، وكلاهما باحث اجتماعي ينتمي الى تيار "علماء الاجتماع الانتقاديين"، غايات المشروع الصهيوني التقليدية منذ بدء الاستيطان الكولونيالي لفلسطين. ولئن تركز شفير في الناحيتين الجغرافية والديموغرافية، فإن سفيرسكي يتجوهر في الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، اللتين حددتا، في قراءته، ما يسمي بـ "ثقافة التنمية" او "ثقافة التطور" اللاحقة، والتي تعيد كذلك انتاج نفسها مع اختلاف الظروف المحيطة بالصراع من "نزاع عسكري" الى "صراع من اجل السلام".
الدراسة الاخيرة ظهرت على شكل محاورات، مع المفكلر يشعياهو لايبوفتش وتشمل على ارهاصات سيرورة ثقب المسلمات، التي قامت عليها الرواية الصهيونية الاسرائيلية للصراع حول فلسطين، في التفكير السياسي والعلمي لبعض المثقفين اليهود في الدولة العبرية.
وكما سبق ان ذكرنا، فان هذه الدراسات، مجتمعة، وكلا على حدة، تبدو مغايرة في تحليل الوقائع التاريخية خارج دائرة "الاجماع" او "المحرمات"، ومن هنا فهي تضيء زوايا كعتمة وتقدم اسهامها الرئيس على صعيدي الوعي والمعرفة.