مع أن المحور الخاص بأوضاع الصحافيين في إسرائيل، الذي تضمنه العدد الأخير (تموز/ يوليو 2005) من مجلة "هعاين هشفيعيت" (العين السابعة) الإسرائيلية المتخصصة بشؤون الاتصال، والذي يقدّم الزميل سعيد عيّاش عرضًا مشوّقًا له في مكان بارز من الموقع، جاء منحصرًا في الاجتماعية- الاقتصادية منها، فإنه لا معنى لقراءة معطياته التي شفّت خلافًا لتوقعات البعض عن حالة رثة، بائسة، دون استعادة الأداء العام لوسائل الإعلام الإسرائيلية الذي يتناءى، يومًا بعد آخر، عن الأداء المفترض أن تؤديه وسائل إعلام في دولة تعرّف نفسها بأنها "دولة ديمقراطية".
وتشكل هذه الخلاصة الأخيرة في الوقت ذاته تحصيل حاصل مقالات وأبحاث سابقة قدمناها كما هي أو عرضناها بقدر من التفصيل عبر صفحات "المشهد الإسرائيلي" في الفترة المنصرمة.
وكان آخرها، للتذكير فقط، الاستطلاع العام الذي تجريه مرة كل سنتين هذه المجلة نفسها حول رؤية الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم لهذا الأداء.
في واقع الأمر جاء هذا المحور ليقدّم خلفية شديدة الأهمية لبعض نتائج ذلك الاستطلاع. ومنها مثلاً أن معظم الصحفيين الإسرائيليين يواجهون- على الأقل بوتيرة معينة- حالات من تشويه الاقتباسات من قبل زملائهم الصحفيين، وحالات خنوع لتأثير اعتبارات تجارية على مضامين الأخبار وتغطية غير معقولة نتيجة لـ"علاقات هات وخذ" بين الصحفيين ومصادر الأخبار. ويعتقد حوالي سبعة من كل عشرة صحفيين أن منظومات الإعلام لا تطبّق بالمدى المطلوب قواعد الأخلاق والاستقامة التي تطلبها من الأشخاص الذين تغطي أخبارهم. وقال حوالي نصف الصحفيين إنهم يتعرضون لضغوط شديدة من أجل التجاوب مع التوقعات بأي ثمن. وعلى المستوى الأكثر عملية أيضًا تشير النتائج إلى أزمة شديدة في مشاعر الأمن والاستقرار لدى الصحفيين، وهي مشاعر من شأنها أن تمّس بقدرتهم على أداء عملهم بصورة مهنية. ويشعر حوالي ثلث الصحفيين أنهم لا يعتاشون بكرامة من مهنتهم ولا يشعر حوالي ربع منهم بالأمن فيما يتعلق بمكان عملهم. وأشار أربعة من كل عشرة صحفيين إلى تعرضهم لملاحقات أو مظاهر عداء من جانب الجمهور. وقد يكون الأمر الأكثر غرابة من كل ذلك، برأي معدي الاستطلاع، أن حوالي 40 بالمئة من المستجوبين أشاروا إلى أنهم كصحفيين في إسرائيل سنوات الألفين يشعرون أحيانًا بأنهم عرضة لخطر ملموس على حيواتهم.
يطرح هذا المحور، كما الاستطلاع المذكور، كما "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" الذي أظهر أن حرية الصحافة في إسرائيل متدنية، أقرب إلى الحدّ الذي قد يدفع بإسرائيل دفعًا في زمن مرئي نحو تعريفها بأنها "دولة شبه حرّة" في هذا المضمار، حسبما كررنا في الآونة الأخيرة، سؤالاً لا بدّ منه حول "اليوم التالي".
لكن بدل الاستغراق في البحث عن أية إجابات مستحقة من الجدير ملاحظة عارض ما في المجتمع الإسرائيلي يفيد بأن وضعية تشخيص الأمراض التي تنخر جسد هذا المجتمع، والتي يقع عبء القيام بها على كاهل أداء مؤسساته المدنية، لا تتناسب طردًا مع ما ينبغي أن يستحضره هذا التشخيص الزخم من أوضاع العلاج الجذري، بالتأكيد من جانب الهيئات الرسمية ولكن أيضًا من جانب مؤسسات المجتمع المدني، بكيفية ما.
هل بات الأمر مرتبطًا بمعيقات إدراكية بنيوية؟ أم أنه يرتبط كذلك بالذاكرة الإسرائيلية نفسها التي لا تنفك موثقة برباط وثيق بالحاضر، إلى حدّ الاستنقاع فيه؟.
وإن الأمر بشأن هذا السؤال الأخير غير منحصر على ما يبدو في الإعلام فحسب. ففي تقرير نشر قبل مدة وجيزة في إحدى المجلات المتخصصة، حول خلاصة تجربة خاضتها خبيرة تربوية إسرائيلية عملت في حقل تقليص اللامساواة في جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي (بين الطلاب اليهود أنفسهم وبينهم وبين الطلاب العرب)، تقول إنها حاولت، كتعزيز لمهمتها، أن تعرف نتائج عشرات الخطط التي أعلنت عنها وزارة التربية والتعليم لتقليص الفجوات في عشرات السنين الأخيرة، ولكن "فوجئت بعدم وجود أرشيف في الوزارة يحتوي التقارير المقدّمة سابقًا والخطط التي جُربت". وتمثلت النتيجة التي توصلت إليها في "أن وزارة التربية والتعليم تفتقر إلى ذاكرة تاريخية، ولا توجد أية وسيلة لمعرفة ما حدث أو ما لم يحدث سابقًا".
وتتابع: "فهمت من الذين قابلتهم أنه في السنوات الأخيرة تركّزت النشاطات لتقليص الفجوات فيما يعرف بـ(مشروع الثلاثين بلدة)، فقد اختاروا هذه البلدات الفقيرة في أرجاء البلاد وحوّلوا إليها الملايين من الشواقل بواسطة مقاولين خصوصيين، لتقليص الفجوات بين هذه البلدات والبلدات الغنيّة. أردت معرفة نتائج هذه الخطة لدى الوزارة وبما أنه لا توجد ذاكرة للوزارة فقد تحدثت مع نائب المدير العام الذي ركّز الاهتمام بهذا المشروع، وفي حديثي معه فوجئت من جديد: لا معطيات لدينا ولا تقديرات!! خمس سنوات بعد إنهاء المشروع الذي كلّف الملايين لا معطيات ولا نتائج لدى الوزارة".
لكن على الضد مما تقوله هذه الباحثة ثمة معطيات ونتائج بالنسبة للإعلام الإسرائيلي، على الأقل خلال السنوات الخمس الأخيرة. ومع ذلك فبين هذه المعطيات وتلك النتائج تستمر الصحافة الإسرائيلية في كونها صحافة رخيصة، كتوصيف مجلة "العين السابعة"، صحافة عادة ما يسهل انقيادها وراء المالك، من جهة وأخطر من ذلك يسهل انقيادها وراء المؤسسة الحاكمة، من جهة أخرى.
وقد قدمت السنوات الأخيرة، وبالذات منذ اندلاع الانتفاضة، العديد من القرائن الدالة على هذا الانقياد الذي لا يقتصر ثمنه ومترتباته على الصحافيين أنفسهم، كما أنه لا يرخي بظلاله القاتمة على الحاضر فقط.