*المحكمة العليا تقرر وقف العمل بقانون مؤقت لتنظيم إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية *في حال سقوط حكومة نتنياهو ستنتقل الأزمة إلى الحكومة المقبلة*
أدى قرار المحكمة الإسرائيلية العليا القاضي بوقف العمل بـ "قانون طال" المؤقت لتنظيم مسألة إعفاء الشبان اليهود الأصوليين (الحريديم) من الخدمة العسكرية، إلى ارتفاع لهيب واحد من أكثر الملفات سخونة بين جمهوري العلمانيين والمتدينين الأصوليين في إسرائيل، إلا أن هذا اللهيب ارتفع في داخل الائتلاف الحكومي، بين كتلتين علمانية وأصولية، تهدّد كل منهما بنسف الائتلاف في حال الانصياع أو عدم الانصياع لقرار المحكمة، ما دفع بعض وسائل الإعلام إلى توقع سقوط حكومة بنيامين نتنياهو في شهر آب المقبل، إلا أن سقوط الحكومة لن يحل هذه القضية، التي تبدو حاليا "معضلة"، بل ستنتقل الأزمة إلى أي حكومة قادمة في حال تحقق التوقعات.
وكانت المحكمة العليا قد قبلت التماس جهات علمانية لوقف العمل بـ "قانون طال"، نسبة لاسم واضعه قبل عدة سنوات، والذي يقضي بتنظيم إعفاء الشبان الحريديم من الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال، لأسباب دينية محضة، رغم تغلغل الأفكار اليمينية المتشددة بينهم، ومن بين هذه الأسباب مسألة الاختلاط بالمجتمع العلماني المفتوح، ولكن في خلف هذا رفض الحريديم أصلا فكرة الكيان الإسرائيلي كفكرة صهيونية، رغم التعاطي مع هذا الكيان الذي يعتبره الحريديم مؤقتا، وهم يؤمنون بإقامة "مملكة إسرائيل" حينما يأتي المسيح لأول مرة إلى العالم.
ومع تقدم السنين تتفاعل هذه القضية، وتصبح أكثر سخونة، وهذا على ضوء المعطيات التي تقلق المؤسسة الإسرائيلية بشقيها السياسي والعسكري، إذ تقول المعطيات إنه حينما بدأ الإعفاء بعد العام 1948، لم تكن نسبة الحريديم تصل إلى 1% من نسبة الذين يسري عليهم قانون التجنيد الإلزامي، ولكن في فوج التجنيد الأخير الذي كان في خريف العام الماضي 2011، بلغت نسبتهم 13%، مع مؤشرات واضحة إلى ارتفاع هذه النسبة تدريجيا إلى نحو 30% في السنوات الـ 18 المقبلة، استنادا إلى نسبة الولادات في مجتمع الحريديم المنغلق على نفسه، بينما نسبة الحريديم من مجمل المُطالبين بالخدمة الإلزامية كانت في العام 1992 حوالي 9ر4%.
وقد ساهم ارتفاع نسبة الحريديم بمرور السنين في تقليص نسبة الذين يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية. وقالت معطيات نهاية العام الماضي، 2011، إن نسبة الذي تجاوبوا مع الخدمة كانت 67%، مقابل نسبة 75% في العام 1990، ويتوقع الجيش أن تهبط هذه النسبة في العام 2014 إلى 64%.
وأيضا حسب المعطيات الرسمية لفوج التجنيد في الخريف الماضي، فإن 1ر25% من الشبان اليهود حصلوا على إعفاء، أو تهربوا من الجيش، بينما ارتفعت هذه النسبة لدى الشابات إلى أكثر من 41%، ومن أكثر الأسباب التي تطرحها الشابات هو التدين، ويقول الجيش الإسرائيلي إنه حسب التقديرات فإن 7% من اللاتي يدعين التدين كاذبات.
وهذه النسب لا تأخذ بعين الاعتبار ظاهرة التسرب لاحقا من صفوف الجيش، قبل إكمال فترة الخدمة الإلزامية، وهي حوالي ثلاثة أعوام للشبان، وحوالي عامين للشابات، وأكبر نسبة تسرب نجدها بين الشابات تحت ذرائع مختلفة، ولكن أكثر إما الزواج، أو الأمراض النفسية وعدم التحمل، وفي المجمل فإن من ينهون فترة الخدمة الإلزامية كليا من بين من يسري عليهم قانون التجنيد الإلزامي ككل، أدنى من نسبة 60%، وهناك من يتحدث عن 57%.
وبطبيعة الحال، فإن قرار المحكمة العليا لم يكن من دون ردود فعل صارخة، فقد جعل القرار كبار حاخامي الأصوليين الغربيين (الإشكناز) والشرقيين (السفاراديم) يلتقون لتنسيق المواقف، وهو من اللقاءات النادرة، نظرا للخلافات بين المجموعتين، واتفق الجانبان على خوض معركة في الحكومة الإسرائيلية من أجل منع تجنيد الشبان الحريديم، الذين يفضلون البقاء في المعاهد الدينية، ويعتاشون على مخصصات اجتماعية وتبرعات من جهات داخلية وخارجية.
ونقلت صحيفة "هآرتس" عن مصادر في أحزاب الأصوليين اليهود قولها إن اللقاء والتنسيق بين الإشكناز والسفاراديم، الذين تشارك أحزابهم في الائتلاف الحكومي ولها مجتمعة 15 مقعدا، سيؤدي إلى حالة صدام مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وعلى خلفية هذا الصدام قد تسقط الحكومة ويتم تقديم موعد الانتخابات.
في موازاة ذلك، أعلن زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، بأنه لن يقبل بتمديد القانون المؤقت ولو ليوم واحد بعد شهر آب المقبل، ولليبرمان 15 مقعدا في الحكومة الائتلافية، مثل عدد مقاعد الأصوليين.
وأمام مشهد شد الحبل، الذي تغذيه قيادات في حزب "كاديما" المعارض، يحافظ رئيس الحكومة نتنياهو على الصمت، وهذا له تفسير في عدة نواح، فإما أنه يعد مخرجا هادئا من الأزمة ليحافظ على ائتلافه من السقوط، أو أنه بالفعل لا يملك الجواب، ويتخوف من الإعراب عن موقف يخدم جهة واحدة من الجهتين.
وهذه أزمة لم تكن في الحسبان، وقد يكون القرار الحاسم قد فاجأ سياسيين في إسرائيل، إذ أن المحكمة تماطل في إصدار القرار منذ سنوات، وجاء صدور القرار في الأيام الأخيرة لرئيسة المحكمة العليا دوريت بينيش، قبل أن تنقل رئاسة المحكمة إلى القاضي آشير غرونيس، المحسوب على اليمين الإسرائيلي.
ويتبين من قرار هيئة القضاة التي ضمت 9 قضاة من المحكمة العليا أن رئيسة المحكمة بينيش أيدت وقف العمل بـ "قانون طال"، بينما رفض القرار القاضي غرونيس، ولهذا يراهن سياسيون على طلب إعادة النظر في قرار المحكمة، خاصة بعد تغيير تركيبة القضاة في مطلع شهر آذار الحالي، ولكن تغيير القرار يبقى سيناريو ضعيفا.
لكن في المقابل فإن سقوط الحكومة لن يحل الأزمة، لأنه حسب استطلاعات الرأي العام التي تصدر تباعا في الأشهر الأخيرة، فإن أي انتخابات برلمانية تجري في هذه المرحلة ستثبّت الوضع القائم حاليا من حيث توزيعة المقاعد البرلمانية، بين الكتل المختلفة، يمين ووسط ويسار، ومتدينين وأصوليين وعلمانيين، وكما يبدو من الوضع الناشئ فإنه لن يكون بوسع أي ائتلاف حكومي سيتم تشكيله بعد الانتخابات تحييد كتل الأصوليين، كما لن يكون بالإمكان تحييد كل الكتل العلمانية، ولذا فإن اللقاء والصدام مجددا في حكومة مقبلة سيكون أمرا حتميا، وفق الظروف الراهنة.
أضف إلى هذا، أن الأمر لن يبقى محصورا في الحلبة السياسية، بل إن الحريديم سينزلون إلى الشوارع، كما فعلوا ذلك قبل سنوات، في قضايا تتعلق بقوانين الإكراه الديني، أو في أمور تتعلق بمجتمعاتهم، ولذا فإن الأشهر الخمسة أو الستة المتبقية لسريان مفعول "قانون طال"، الذي يجري تمديده مرة كل عامين، ستخصص للبحث عن مخرج يُنزل الجميع عن الشجرة، لكن الأمر المؤكد منذ الآن أننا لن نرى تدفق عشرات آلاف الشبان اليهود الحريديم من الآن فصاعدا على معسكرات الجيش لتأدية الخدمة الإلزامية.
وأحد الحلول التي كثر الحديث عنها في الأيام الأخيرة، لإسكات هذا الجدل، هو فرض ما يسمى بـ "الخدمة المدنية"، على كل من لا يخدم في الجيش، أو كل من لا يسري عليه قانون التجنيد الإلزامي، وهذا يعني أساسا جمهور الحريديم، والمواطنين العرب في إسرائيل، وكلا الجمهورين يرفضان لأسباب مختلفة هذه الخدمة.
وبالنسبة للحريديم يعتبر هذا الفرض إبعادا قسريا عن المعاهد الدينية والتعلم فيها، والاندماج في مجتمع علماني مفتوح، من دون رقابة وقيود، وغير ذلك من الأسباب.
أما بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل، فإن رفضهم نابع من أن هذه "الخدمة" تحل محل الخدمة العسكرية، التي يرفضونها، خاصة وأن الخدمة المدنية ستكون تحت إشراف وزارة الدفاع، كذلك فإن المؤسسة الحاكمة تتحدث عنها كشرط للمساواة في الحقوق، رغم أن هذه المساواة يجب ألا تكون مشروطة، وهناك الكثير من الأسباب التي تجعل الفلسطينيين يصرون على رفض هذه الخدمة، ولكن هذه تحتاج إلى معالجة أخرى.