بقلم: سماح بصول (*)
أظهر بحث بعنوان "ما زلن خاضعات: تمثيل المرأة في الصحف العربيّة القُطريّة" (داخل إسرائيل) أعدّه د. أمل جمّال وسماح بصول، وأصدره "مركز إعلام" (مركز إعلامي للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل) في أواخر الصيف الفائت، أن النساء في الإعلام العربي في إسرائيل ما زلن خاضعات لاعتبارات تحرير تفتقر إلى أجندة نسوية، وأنهن مغيبات على الرغم من وجودهن الواضح من على صفحات هذه الصحف.
واعتمد البحث على رصد التغطية الصحافية للنساء في الصحف العربية التجارية الكبرى الثلاث "كل العرب" و"الصنارة" و"بانوراما"، حيث جرى فحص 677 مقالا صحافيًّا حول النساء (من أصل 3213 مقالا) خلال تسعة أسابيع. وعلى الرغم من أن هذا العدد يبدو للوهلة الأولى إيجابيا، إلا إن تحليل مضامين هذه المقالات أظهر أن الجانب الكمّي لا يتفق شرطا مع الجانب الكيفي.
تشير هذه البيانات إلى تقدُّم في درجة تغطية النساء في الصحافة العربيّة التجاريّة مقارنة ببيانات البحث السابق الذي أجراه مركز "إعلام" ونُشر في العام 2006، وظهر فيه ما بين 2 أو 3 مقالات حول النساء في كلّ واحدة من الصحف. يظهر، إذًن، على نحو جليّ وقاطع ارتفاعٌ كثيف في عدد المقالات حول النساء في كلّ واحدة من الصحف، وهو ارتفاع تصل نسبته إلى 800% في الصحف الثلاث العربيّة القطْريّة الأوسع انتشارًا. ويعكس هذا الارتفاع قفزة كمّـيّة في المقالات حول النساء خلال فترة زمنيّة قصيرة نسبيًّا (خمس سنوات).
النساء بين "المكان" و "المكانة"
تظهر المقالات حول النساء، في المعدّل، في الصفحة الرابعة والعشرين. وتحتلّ هذه المقالات (بالمعدّل) ما يتراوح بين سدس وربع صفحة، أي أنّها مقالات صغيرة الحجم نسبيًّا، لذا فهي ليست بارزة.
جرى التطرّق في المقالات إلى نساء بمهنٍ مختلفة. في 36% منها جرى التطرّق إلى نساء مشهورات: فنّانات وممثّلات وشخصيّات تلفزيونيّة. وفي 4ر14% جرى التطرّق إلى النساء كربّات منازل أو كأمّهات. هذه البيانات تُشير إلى أنّ تغطية أخبار النساء وأحوالهنّ تخلق صورة تضادية للنساء كما درجت الأدبيّات النسوية على الادّعاء. فمن ناحية، تُعرض النساء كسيّدات عفيفات (أمّهات، وأخوات، وقرينات وَ/ أو ربّات منزل) يعتنين بالوجود المجتمعيّ، ويساهمن في الاقتصاد الأسريّ. ومن ناحية ثانية، يجري عرضهنّ كأداة جنسيّة من خلال إشغال أدوار ترفيهيّة تقترن بكشف أجسادهنّ. تُبقي هذه الازدواجيّة على المفهوم البطريركيّ التقليديّ الذي يُخضع النساء، وينسب لهنّ أداءً ثانويًّا أو دونيًّا.
تعالج أكثر من ثلث المقالات نساء في أدوار ترفيهيّة غير إنتاجيّة. أي أنهن يشغلن أدوارًا ثانويّة تعكس مساهمتهنّ الهامشيّة في رفاهية المجتمع. ثمّة القليل من المقالات حول نساء في المهن الحرّة (كالطبيبات والمهندسات والمحاميات)، أو في وظائف من حقل التدريس والإدارة (كالمعلّمات ومديرات المدارس)، أو في وظائف من حقل الرفاه الاجتماعيّ (كالعاملات الاجتماعيّات والممرّضات) أو النساء المزارعات. يحوي بروز الوظائف الترفيهيّة في طيّاته دلالة كبيرة ودورًا مهمًّا في الإبقاء على صورة النساء الهامشيّة، كمن يوفّرن - في الأساس- احتياجات رجوليّة أو غير حيويّة. لا ينبغي أن يُستنتج من ذلك أنّنا نتعامل بسلبيّة مع عالم الترفيه والغناء، بل إنّنا نبتغي الوقوف عند دلالة محوريّة الجانب الشعبيّ والسطحيّ لهذا العالم في الصحف.
عندما نفحص دور المرأة في المقالات، يبدو جليًّا أنّ المرأة في غالبيّة الصحف هي موضوع نحو 50% من المقالات. في 6ر12% من المقالات تتحدث المرأة عن تجربتها الشخصيّة، ولا تظهر المرأة كاختصاصية في الموضوع الذي تعالجه إلا في 7ر6% من هذه المقالات. ما يعنيه الأمر هو أنّ النساء يظهرن في أغلب الحالات أداةً لا ذاتًا، على الرغم من أنّ معظم المقالات يتمحور حول النساء على نحو مباشر. وعلى الرغم من وجودهنّ في مركز المقال، فهن لا يَحضرن كاختصاصيّات أو كمن ينشطن في مجال تخصّصهن؛ وانما تتمحور المقالات في ما صدر تجاههنّ مِن تصرُّف أو في الطريقة التي عامَلَهنّ فيها أحدُهم.
عندما تظهر للنساء في المقالات الصحافيّة عدّة أدوار مثل أم ومهنية، تَظهر المرأة كاختصاصيّةً في المقام الأول في 3ر18% من المقالات فقط. وبكلمات أخرى: تغطَّى النساء بدايةً كنساء، ومن ثَمّ كاختصاصيّات في مجالٍ ما أو قضيّة ما. وضْع تخصُّص النساء في المكان الثاني يشير إلى هامشيّتهنّ في المجتمع، وإلى تجاهُل استقلاليّتهنّ كأفراد لصالح معاملة لا تستطيع النظر إليهنّ في ما وراء (أبعد من) نسائيّتهن. تتحوّل النسائيّة إلى حاجز أمام التعامل الموضوعيّ، أو تأتي (أي النسائيّة) على حساب هذا النوع من التعامل. ما تثبته هذه المعاملة هو أنّه حتّى حين يجري الحديث عن نساء ناجحات، يتواصل النظر إليهنّ كمن شذذن عن القاعدة التي تقرن النجاح بالرجال، ويُخضَعن للتراتبيّة البطريركيّة التي تكون فيها الغلبة للرجال. إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الكثير من المقالات تُظهِر نساءً من عالم الترفيه، يمكن التوصّل إلى استنتاجٍ مُفادُه أنّ الصحافة لا تدفعهنّ قُدُمًا بل تُبقي على هامشيّتهنّ وعلى صورتهنّ كمن لا يساهمن مساهَمة مؤثّرة في تحمُّل عبء الاحتياجات الاجتماعيّة الحيويّة، ولا سيّما في مسألة الدخل.
وفي فحص دور المرأة في المقال يتبيّن أن 7% فقط من المقالات التي ظهرت فيها النساء عالجت موضوع حقوق النساء. تعزّز هذه النسبة التعاملَ معها (أي مع النسبة) كحالة اعتياديّة في أعين القرّاء. بعبارة أخرى، تتمثّل الرسالة في أنّ مكانة النساء الاجتماعيّة ليست ذات إشكاليّة، وليس ثمّة حاجة إلى تغييرها. من البديهيّ أنّ الأمور لا تقال على نحو مباشر وصريح، لكنّها الرسالة المبطّنة الراكدة في أعماق أنماط التغطية.
غالبيّة المقالات التي استعرضها البحث لم تُدرِج اقتباسات من النساء، إذ تضمّن 6ر35% منها فقط اقتباسات، وفي المقابل خلت 4ر67% من هذه الاقتباسات. هذا المعطى المهمّ يعكس نزعة مركزيّة في تغطية صحافيّة لا تمنح النساء منصّة للتحدّث، وتعرضهنّ من دون صوت أصيل يُبرز قدرتهنّ على التعبير عن أنفسهنّ، وعن مواقفهنّ وعن مواضيع اهتمامهنّ. في غالبيّة الحالات، تحدّث المراسلون عمّا قالت النساء، أي تحدّثوا عنهنّ بضمير الغائب، بدل عرض الأقوال باسم قائلتها. إنّ منح الصوت هو قرار في يد المراسلين أو المحرّرين، وقد يكون قرارًا واعيًا أو غير واعٍ. وإذا غُطّيت النساء في معظم الحالات كأداة للوصف أو للتطرّق من قبل المراسلين، فمن شأن ذلك تعزيز صورتهنّ كفاقدات للصوت، وكفاقدات للقدرة على التعبير.
أبرز الخطابات تجاه النساء
التي ظهرت في البحث
خطاب الأمومة -"علاقتي بجميع الأطفال علاقة أمومة، أعتبر نفسي أمًّا لجميع الأطفال في كلّ زمان ومكان": يشدّد هذا الخطاب على الأمومة كعنصر مركزيّ وحتميّ في حياة النساء، على الرغم من أنّه ليس كذلك بالضرورة (المثال مأخوذ من صحيفة "بانوراما").
خطاب المأكولات- "سيدات عربيّات يبحثن عن الرزق من خلال صناعة الكعك البيتيّ": يحتفل هذا الخطاب بدور النساء كمسؤولات عن تزويد الأطعمة في المنزل، ويعكس النظر إليهن كمن يعملن في الحيّز الخاصّ، ويقترنّ بالمطبخ (المثال مأخوذ من صحيفة "كل العرب").
الخطاب الجَماليّ- "عمليّة جراحيّة تجميليّة لأنف متسابقة ميس ليلك ديماريس نوّاورة": يعالج هذا الخطاب الجمالَ النسائيّ ويسوّق جسد المرأة. يعكس هذا الخطاب اختزال النساء إلى أجسادهنّ دون سواها، والتشديد على البعد الجسديّ لوجودهنّ (المثال مأخوذ من صحيفة "الصنارة").
خطاب الإثارة"- سأجسد الإغراء على طريقة أمّي": ظهر هذا العنوان في صحيفة "كلّ العرب" في مقابلة مع الممثّلة دنيا سمير غانم، وهو نموذج على خطاب الإثارة البارز في الصحف والذي يهدف الى جذب الاهتمام إلى جمال جسد المرأة من خلال عرض أجزاء من الجسد، أو وضعيّات جسديّة ذات إيحاءات جنسيّة، علما بأن المقابلة لم تكن حول موضوع الإغراء.
خطاب الوصاية الأبويّة- "وتبقى مهنة التعليم من أكثر المهن المحببة على قلوب الفتيات... وأهاليهن": يخفي خطاب الوصاية الأبويّ تأثير البنية الاجتماعيّة والمفهوم الثقافيّ السائد المتعلّق بقدرة النساء على الاختيار (المثال مأخوذ من صحيفة "بانوراما").
خطاب الضحيّة: يعرض خطاب الضحيّة النساءَ كضحايا لواقع اجتماعيّ وثقافيّ واقتصاديّ وسياسيّ. يمكن العثور على كثير من الأمثلة العينيّة لهذا الخطاب الذي تُعرض فيه النساء كمن لا حول لهنّ ولا قوّة. من الجدير أن نذكّر أنّ البيانات الكمّيّة تشير إلى أنّ النساء يظهرن كضحايا في ما يتراوح بين عشرة وعشرين بالمئة من المقالات. ولا شكّ في أنّ هذه المقالات تعكس واقعًا اجتماعيًّا صعبًا، ولا تريـد الاستئناف على وجود ظواهر اجتماعيّة مأساويّة ومنتشرة. المشكلة تتبدّى في أنّ خطاب الضحيّة في الصحيفة يتمثّل في تغييب أيّة فاعليّة للضحايا، وفي تعزيز صورة المرأة الخانعة والفاقدة للقوّة، وعرض الأمر كجزء من النظام الطبيعيّ، وحتّى في المقالات التي قامت فيها الضحيّة بتقديم الشكوى للشرطة -على سبيل المثال- لا يتخطّى الخطاب الإعلاميّ حدود الإفادة بـِ "الحقائق"، ويكتفي بالإشارة إلى الحدث من دون موقف أو تحليل نقديّ أو ربط بين حالات مختلفة، ترتقي بالتغطية من مستوى الحدث المحلّـيّ المثير الوحيد إلى مستوى الظاهرة الاجتماعيّة والثقافيّة، التي ينبغي التعامل معها على نحو شامل. ويُخفي هذا التذرير ظاهرة العنف الجسديّ واللفظيّ تجاه النساء وحجمها الواسع، وضرورة معالجة جذورها.
استنتاجات البحث
يرى البحث أن نسبة تمثيل النساءّ ما زالت أقلّ من نسبتهن داخل المجتمع. كما أنه ليس هناك تواؤم بين جودةِ التمثيل والارتفاعِ الكمّـيّ للتغطية، أي أن ارتفاع نسبة التغطية لا يعني تحسنا في صورة المرأة.
يرى البحث أيضا أن تأثير الصحافيّات على الخطاب الإعلاميّ وعلى تمثيل النساء لا يزال هزيلا. ولا توجد أجندة إعلامية فاعلة فيما يتعلق بمكانة المرأة سوى الأجندة الربحية، حيث تكتفي سياسة التحرير بمعلومات مقتضبة في قضايا المرأة، متخذة موقف المحايد في كل ما يتعلق بمكانتها.
وعليه يضع البحث بعض التوصيات التي يرى أن من شأنها رفع مكانة المرأة في الإعلام، حيث يؤكد على ضروة وجود سياسة تحريريّة موجّهة بغية تغيير المميّزات السائدة للتغطية. كما يؤكد أهمية التغيير الجوهري في نوع الشخصيات النسائية المعروضة، وكذلك تغيير النسبة بين المساحة التي تشغلها الصور المرفقة ومقدار النص، ويرى أن من الضروري ألا يخضع تمثيل النساء في الإعلام لاعتبارات شهرة النساء فقط. ويؤكد البحث في توصياته أيضا أهمية أن يعكس الخطاب الإعلامي التغيرات التي مرّ بها المجتمع، وأن يتخذ مواقف واضحة تجاه ظواهر اجتماعيّة مختلفة، ولا سيّما حين يتعلق الأمر بالعنف تجاه النساء.
________________________
(*) إعلامية ومسؤولة قسم الإعلام العربي في "مركز إعلام"- الناصـرة.