رأى أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب، البروفيسور داني رابينوفيتش، في حديث لـ"المشهد الإسرائيلي" أن هناك محورًا يجمع بين قضايا الفساد والممارسات غير الأخلاقية لعدد من كبار المسؤولين في إسرائيل والحرب على لبنان، هو محور استخدام السياسيين والعسكريين لسلطتهم وخصوصا لقوتهم
أجرى المقابلة: بلال ضاهر
تحقق أجهزة سيادة القانون في إسرائيل في الأشهر الأخيرة في سلسلة من قضايا الفساد والممارسات غير الأخلاقية ضالع فيها عدد من كبار المسؤولين في إسرائيل، بينهم رئيس الدولة موشيه كتساف. وتشير الشبهات حول كتساف، وفقا لما تتناقله وسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى أنه أرغم إحدى الموظفات في ديوان رئيس الدولة على إقامة علاقة جنسية معه رغما عنها مهددا إياها إن لم تفعل ذلك بفقدان وظيفتها، ما يهدده باتهام بالاغتصاب.
من جهة أخرى، قدّم وزير العدل في إسرائيل، حاييم رامون، استقالته من الحكومة الأحد الماضي ونزع عن نفسه الحصانة البرلمانية بعدما أعلن المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية مناحيم مزوز عن أنه بصدد تقديم لائحة اتهام ضد رامون تتعلق بتحرش جنسي وبالقيام بأعمال مشينة بحق جندية خدمت في إحدى المكاتب الحكومية. وبحسب شكوى الجندية فإن رامون قبلها رغما عنها.
وفي غضون ذلك تواصل وسائل الإعلام الإسرائيلية في الكشف عن قضايا فساد سلطوي وحصول سياسيين، وخصوصا وزراء، على رشاوى.
فقد نزع رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، تساحي هنغبي، عن نفسه الحصانة البرلمانية في أعقاب تقديم لائحة اتهام ضد تتعلق بتعيينات سياسية لمقربيه من أعضاء مركز حزب الليكود في مناصب حكومية عندما كان يشغل منصب وزير البيئة في حكومة أريئيل شارون الأولى، لضمان تأييد مجموعات في مركز الحزب له للوصول إلى الكنيست والمناصب الوزارية.
وطالت تقارير حول ممارسة الفساد السلطوي رئيس الحكومة الإسرائيلي، ايهود أولمرت. فقد نشرت صحيفة "هآرتس"، الأسبوع الماضي، عن أن مراقب الدولة قرر استدعاء أولمرت للتحقيق معه حول شراء بيت في القدس الغربية بمبلغ أقل من قيمته الحقيقية بحوالي نصف مليون دولار مقابل تقديم مساعدة للمقاول الذي باعه البيت. وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية هذا الأسبوع عن أن تحقيقا تم فتحه مؤخرا في مكتب مراقب الدولة حول قيام أولمرت بتعيين مقربين منه في مناصب حكومية عندما اشغل منصب وزير الصناعة والتجارة والبنى التحتية بصورة منافية للقانون.
وفي ظل قضايا الفساد هذه وأخرى شبيهة، ضالع فيها سياسيون في إسرائيل، عصفت بإسرائيل الأسبوع الماضي قضية قيام رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، دان حالوتس، ببيع محفظة استثماراته في البورصة بعد ثلاث ساعات من الهجوم الذي نفذه مقاتلو حزب الله يوم 12 تموز الماضي وقتلوا خلاله 8 جنود إسرائيليين وأسروا جنديين. وجاء النشر عن انشغال حالوتس في أموره الشخصية في الوقت الذي بدأت تتعالى فيه أصوات في إسرائيل مطالبة بإجراء تحقيقات حول أداء المستويين السياسي والعسكري خلال فترة حرب لبنان الثانية وإخفاقهم في إدارتها.
ورأى أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب، البروفيسور داني رابينوفيتش، في حديث لـ"المشهد الإسرائيلي" تناول هذه القضايا ومسائل أخرى تتعلق بالحرب على لبنان، أنه "لا يمكن وضع هذه القضايا جميعا في سلة واحدة، كونها مختلفة عن بعضها البعض" لكن أجوبته أظهرت أن هناك محورا يجمع هذه الممارسات، هو محور استخدام السياسيين والعسكريين لسلطتهم وخصوصا لقوتهم.
(*) "المشهد الإسرائيلي": قضيتا كتساف ورامون متشابهتان وهما قضيتان أخلاقيتان من الدرجة الأولى؟
- رابينوفيتش: "لا شك في ذلك. وأعتقد أن ما يحدث هنا ناجم عن تزايد الوعي حيال ممارسات كانت موجودة دائما في الحلبة السياسية الإسرائيلية وأيضا في أماكن أخرى، فأنا لا أعتقد أن ما يحدث في إسرائيل لا يحدث في أماكن كثيرة أخرى. وما جرى هنا هو أنه تم تعديل القانون المتعلق بالتحرش الجنسي قبل عدة سنوات بضغط الأوساط النسوية وهذا تغيير إيجابي للغاية. كذلك فإني أعتقد أن جزءا من هذه الحالات تصل إلى الجهاز القضائي. رغم ذلك فإننا نقطف الآن ثمار تعديل القانون والتغير في عمل جهاز سيادة القانون. فالمستشار القضائي الحالي للحكومة، مناحيم مزوز، لديه وعي في قضايا التحرش الجنسي أكثر من سابقيه.
"بالنسبة لقضية حالوتس فإنها باعتقادي ليست قضية فساد ولا تقترب حتى من أن تكون قضية فساد. وإثارة هذه القضية قد يصرف الأنظار عن قضية أخطر وأكبر. فهناك اتهامات له تتعلق بشكل بنائه للجيش واستخدام القوة المفرطة. وأعتقد أن هذا هو المكان الأساسي الذي يلحق فيه حالوتس ضررا. عموما، فإنه أين تتواجد القوة فإن هناك قوة مفسدة، وقوة مطلقة تفسد مستخدميها بشكل مطلق.
"وفيما يتعلق بقضايا مثل قضية هنغبي وغيرها التي تتعلق بتعيين مقربين من وزير في مناصب حكومية فإنها قضايا كانت موجودة دائما في إسرائيل، مثلما هي موجودة في كل مكان يتواجد فيه أشخاص لديهم نفوذ ويمكنهم تعيين مقربين. وكلما تواجد حزب السلطة سنوات أكثر يصبح تعقب أدائهم أصعب، وهذا مثلا ما حدث مع حزب مباي الذي حكم في إسرائيل قرابة 30 عاما (1948 – 1977) وهذا أيضا حدث إبان حكم حزب الليكود. وحتى وزراء من حزب شاس قاموا بمثل هذه الممارسات وأكثر عندما سيطر وزراء من جانبهم على وزارات معينة، مثل وزارة الداخلية، لسنوات طويلة نسبيا. الجدير بالذكر في هذا السياق أن قضية هنغبي مثيرة بشكل خاص لأن أحد أسباب انهيار حزب الليكود، إضافة إلى انسحاب اريئيل شارون منه طبعا، هو أن الجمهور في إسرائيل أصبح ينظر إلى مركز حزب الليكود، الذي عيّن هنغبي عددا من أعضائه في مناصب حكومية، على أنه جسم فاسد".
(*) في الحرب الأخيرة التي خاضتها إسرائيل ضد لبنان شهدنا أمورا غريبة مثل أن جنودا لم يتلقوا عتادا عسكريا مناسبا وكان هناك نقص في الأدوية والطعام والماء والجنود تحدثوا لدى عودتهم عن الجوع وأنهم بقوا 36 ساعة أو أكثر دون طعام. كيف يمكن تفسير ذلك؟
- رابينوفيتش: "هذا أمر حدث في الحروب مرات كثيرة لكن هناك أمرين مختلفين حدثا هذه المرة. الأمر الأول هو أنه في هذه الحرب في لبنان كانت هناك مشكلة تتعلق بجبهة عميقة وفي الوقت ذاته كانت هناك جبهة ليست عميقة. وأقصد أنه عندما نخوض حربا في سيناء مثلا ويتم إرسال الدبابات 250 كيلومترا في عمق سيناء فإن خطوط الإمدادات تكون لعمق 250 كيلومترا ويتوجب إرسال الطعام إلى هذا العمق. وعليك أن تستعد لذلك وأحيانا تنجح وأحيانا لا تنجح. وفي حالة لبنان وبسبب أن حزب الله بقي بقوة في كل المناطق التي كان فيها ولم يتحرك من مواقعه فإنه كان يصعب الوصول إلى الجنود حتى على بعد 3 كيلومترات لإيصال أمر أساسي مثل الماء. وهنا نشأ وضع ينطوي على تناقض، فأنت موجود على بعد 3 كيلومترات من قاعدتك العسكرية لكنك في الوقت ذاته لا يمكنك حتى التفكير في إرسال إمدادات ولا حتى دبابات، وهنا نشأ وضع لم يحدث أبدا في الماضي لأنه في الماضي كان يتم التوغل لكن المنطقة وراءك كانت محتلة وفي حالة حرب لبنان الأخيرة هذا لم يحدث.
"الأمر الثاني المختلف عن الحروب السابقة هو أن هذه هي الحرب الانترنيتية الأولى، بمعنى أنه كان الجميع يعلم بما يحدث في أرض المعركة بواسطة شبكات اتصال لم تكن في الماضي، مثل الانترنيت وبلاغات إس إم إس الخليوية. وهذا يجعل المعلومات تنتقل بشكل سريع للغاية. وهذا أمر مثير لأننا كنا نعتقد أن أمورا كهذه لا يمكن أن تحدث في الجيش الإسرائيلي".
(*) الملاحظ هو أنه منذ الانتفاضة الثانية في العام 2000 أصبحت إسرائيل تستخدم القوة بشكل واسع خصوصا ضد المدنيين، في الأراضي الفلسطينية وفي لبنان، والبنى التحتية المدنية، تدمير شامل للشوارع ولمحطات توليد الكهرباء وهدم آلاف البيوت وقتل المدنيين بشكل واسع. وقد ارتكبت إسرائيل في الماضي الكثير من المجازر لكنها كانت دائما تحاول تصغير حجمها أو حتى نفيها أحيانا، أما في السنوات الأخير فإنها لا تخفي ذلك بتاتا. ما الذي حدث هنا؟
- رابينوفيتش: "هذا صحيح جدا. أعتقد أن الحساسية في إسرائيل تجاه الاستخدام المفرط للقوة أصبحت في أسفل مستوى. وهذا الاستخدام المفرط للقوة، الذي أعتبره قاسيًا وغير أخلاقي، أدى إلى حدوث ضرر استراتيجي كبير للغاية لإسرائيل. فإذا كانت إسرائيل قد وضعت هدفا استراتيجيا لها يقضي بعزل حزب الله ومن أجل مواجهة الخطر الذي تراه قادما من جهة إيران، فإن أكثر ما كان ليس صائبا هو مهاجمة المدنيين، لأنه بعد مهاجمة البنى التحتية المدنية في لبنان فإنها أنشأت حراكا أدى إلى تصوير حزب الله وحسن نصر الله على أنهم قادة العالم العربي، بينما لو فعلت إسرائيل ذلك بصورة مدروسة ومحسوبة وتناسبية ردا على اختطاف جنديين ونفذت عمليات ضد مواقع حزب الله عند الحدود ربما كانت ستحقق هدفها بشكل اكبر. بالمناسبة، للكثير من الإسرائيليين لم يكن حجم الدمار واضحا، كما أنهم أملوا أن تؤدي معاناة المدنيين اللبنانيين الكبيرة إلى ممارسة ضغوط على حزب الله. وهذا كان تفكيرا غبيا والنتيجة كانت معاكسة تماما.
"وإسرائيل تعتقد أن استخدام القوة والمزيد من القوة، وإذا لم يُجد ذلك فإنها تستخدم القوة بشكل أكبر وأكبر، ستتمكن من إحداث تغيير في الشرق الأوسط. وأعتقد أنه هنا تكمن المشكلة المركزية للتفكير في إسرائيل اليوم. وهذا التفكير يبدأ من الجيش، لكنه متغلغل عميقا في المفهوم السياسي الإسرائيلي وحتى أن هذا التفكير موجود بشكل عميق في المجتمع الإسرائيلي عموما. والآن نرى أن هناك تظاهرات لجنود الاحتياط في إسرائيل الذين يعتبرون أنه كان يحظر على إسرائيل الموافقة على وقف إطلاق النار وحتى العودة إلى لبنان واستخدام القوة بشكل أكبر. ولذلك أنا أقول إن مفهوم القوة في إسرائيل ليس لدى قيادة الجيش والسياسيين فحسب وإنما هو متغلغل في المجتمع الإسرائيلي. وهذا بنظري فشل بالغ للمجتمع الإسرائيلي سيخلق مشاكل كثيرة في المستقبل. ومن الناحية الفعلية فإن ما يحدث هنا هو إدمان المجتمع الإسرائيلي على استخدام القوة لحل المشاكل وتغيير وجه الشرق الأوسط".
(*) ما علاقة "الإدمان على استخدام القوة" بالاحتلال الإسرائيلي لسنوات طويلة للأراضي الفلسطينية؟
- رابينوفيتش: "بالتأكيد هناك علاقة وطيدة جدا بين الاحتلال للأراضي الفلسطينية منذ العام 1967 والإدمان على استخدام إسرائيل للقوة. لقد حدث أمر غريب جدا في هذا السياق. من جهة، هناك إدمان متزايد على استخدام القوة لحل جميع القضايا، خصوصا بعد 1967، ومن الجهة الأخرى فإن حرب 67 كانت المرة الأخيرة في تاريخ إسرائيل التي أنشأت فيها القوة وضعا جديدا. وفي الحروب والمواجهات بين إسرائيل والعرب، بما في ذلك الانتفاضتان، لم تحقق إسرائيل أية نجاحات، بمعنى أن إسرائيل لم تغير شيئا بوسائل عسكرية. وطوال الوقت، منذ حرب 67 وحتى اليوم، كان الإسرائيليون يتوقون إلى مذاق الانتصار بالقوة في 1967. لكن هذا لم يحدث ويرى الإسرائيليون منذ 40 عاما أن القوة العسكرية لم تنجح في تغيير الوضع، لكن الإدمان مستمر لأننا نتوق للوضع السابق بينما الواقع لا يدخل إلى وعي الإسرائيليين. وأعتقد أن هذه الحالة متطرفة جدا لدى الجنرالات لكنني أرى ذلك لدى الكثير من الإسرائيليين. وكلما طال الإدمان على استخدام القوة لدى الإسرائيليين فإن احتمال التوصل إلى سلام يتضاءل".