قال وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون (رئيس حزب "كولانو- كلنا") إنه يعارض مشروع قانون سيمنح الكنيست القوة لإلغاء قرارات المحكمة العليا. وأضاف كحلون خلال مقابلة مع إحدى الإذاعات الإٍسرائيلية الإقليمية في نهاية الأسبوع الفائت، أن المحكمة العليا هي الملاذ الأخير للضعفاء وأن الأقوياء يريدون تدمير ذلك لأنها تتعارض مع نواياهم.
وكان كحلون يشير إلى مبادرة من وزيرة العدل أييليت شاكيد ووزير التعليم نفتالي بينيت من حزب "البيت اليهودي" ترمي إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا بزعم أن هذه المحكمة "تخلق واقعا جديدا تحول فيه إلغاء القوانين التي يسنها الكنيست إلى أمر روتيني، مما يضطرنا، نحن منتخبي الجمهور، إلى التحرك السريع والحازم لإعادة التوازن الصحيح بين السلطات الثلاث ـ التشريعية، التنفيذية والقضائية"، بحسب ما قال الوزير بينيت.
وقبل تصريحات كحلون هذه جزم البروفسور عمانوئيل غروس، أستاذ القانون في جامعة حيفا وكلية نتانيا، بأن "محاولات شاكيد سحب البساط من تحت محكمة العدل العليا تشكل خطرا جسيماً على الديمقراطية في إسرائيل"! وقال غروس، في تصريحات أدلى بها إلى موقع "واي نت" الإسرائيلي، إن "أي نظام ديمقراطي متنور يمنح محكمته العليا صلاحية فحص قوانينه والنظر في دستوريتها، أما نحن فنستأنف على مجرد حاجتنا إلى المحكمة العليا أو إلى هيئة قضائية عليا تحمي حقوق الإنسان الفرد وتصونها. وهكذا لن نجد أي طرف أو عنوان قادر على حماية هذه الحقوق عندما تعمد السلطة الحاكمة إلى المساس بها وسلبها، مما يضعها تحت خطر دائم".
أما الكاتبة الصحافية أريانا ميلاميد فكتبت بهذا الشأن: "لا أرغب في وصفها بأنها "فاشية"، لكنّ مَن تضع القيم "الكونية"ـ بلغتها الساخرة المستهزئةـ الخاصة بحقوق الإنسان في حالة تصادم جبهيّ مباشر مع "الصهيونية"، فإنما تقول في الواقع إن على المحكمة أن تكون خاضعة للأيديولوجيا السائدة في مجتمع متجانس، وهو ما لم يكن أي مفكر فاشي قادرا على صياغته بطريقة أفضل مما فعلت هي"!.
ويُعد ما قاله غروس وميلاميد نموذجين معبرين من أبرز ردات الفعل المنددة بتصريحات وخطوات وزيرة العدل الأخيرة التي تشكل حلقة أخرى جديدة في الحرب الشعواء المتواصلة التي يشنها اليمين الإسرائيلي ضد الجهاز القضائي عامة، وعلى رأسه المحكمة العليا الإسرائيلية خاصة. وهي الحرب التي تجددت في الآونة الأخيرة على خلفية عدد من القرارات القضائية التي صدرت عن هذه المحكمة مؤخراً.
ونشير في مقدمة هذه القرارات إلى ما يلي: 1- وضع قيود جوهرية على "قانون المتسللين" (القانون الذي سنه الكنيست الإسرائيلي لطرد لاجئي العمل الأفارقة)؛ 2- إلغاء القانون الذي يعفي تلاميذ المدارس الدينية اليهودية الحريديم من واجب تأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي (وهو المعروف باسم "قانون التجنيد")؛ 3- إلغاء قرار وزير الداخلية سحب تصاريح الإقامة من أربعة أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني؛ 4- إلغاء "قانون الميزانية العامة لسنتين" وإلزام الكنيست والحكومة بالعودة إلى نهج وضع وإقرار ميزانية عامة للدولة لسنة واحدة فقط.
فقد استغلت شاكيد هذه القرارات القضائية الأخيرة لإعادة إطلاق مبادرتها المشتركة مع زعيم حزبها ("البيت اليهودي")، وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت، والرامية إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا. وقبل إطلاق مبادرتها المتجددة ، شنت شاكيد هجوما حادا على المحكمة العليا متهمة اياها بـ"تفضيل حقوق الفرد على القيم الصهيونية"! وقالت شاكيد، في حفل لنقابة المحامين في إسرائيل (أقيم يوم 29/8)، إن "منظومة حقوق الفرد في إسرائيل ترقى إلى درجة القدسية، لكن ليس بنزعها عن الخصوصية الإسرائيلية، وعن مهماتنا القومية وهويتنا، وعن تاريخنا، وعن تحدياتنا الصهيونية". وأضافت: "لا ينبغي للصهيونية أن تواصل ـ وأنا أعلن هنا أنها لن تواصل! ـ طأطأة رأسها أمام حقوق الفرد والإنسان التي يجري تفسيرها تفسيرات كونية وبصورة تنزعها عن تاريخ الكنيست وتاريخنا التشريعي كله".
وأعلن بينيت وشاكيد، في بيان خاص عبر القناة التلفزيونية الثانية في إسرائيل، أن "الرد على تجاوز المحكمة العليا صلاحياتها بشكل متكرر سيأتي بواسطة تشريع قانونيّ أساس جديدين": "قانون القومية" (قانون أساس: إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي)، الذي يجري تداوله والنظر فيه في الكنيست هذه الأيام، و"قانون أساس: التشريع" الذي "سينظم العلاقات ما بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية، من خلال تحديد الشروط التي تتيح للمحكمة العليا إلغاء قوانين سنّها الكنيست"، موضحين أن ذلك سيتم من خلال إدخال "فقرة التجاوز" التي تمكّن الكنيست من العودة وسن قوانين ألغتها المحكمة العليا ـ كاملة أو بنود محددة منها ـ بدعوى "عدم دستوريتها".
مشروع يميني قديم ومتواصل
لا يُعتبر المشروع اليميني الساعي إلى محاصرة المحكمة العليا الإسرائيلية وتقييد صلاحياتها جديداً، كما أن الجهود الذي تبذلها شاكيد في هذا السياق ليست جديدة هي أيضا، برغم استغلالها قرارات قضائية جديدة صدرت عن المحكمة العليا حديثاً. فهذا مسعى متجدد يشكل جزءا عضويا وأساسيا من "حرب" تشريعية متواصلة يثابر اليمين الإسرائيلي في شنها خلال السنوات الأخيرة، ويُعدّ استمرارا طبيعيا لها ولما تحقق خلالها من إقرار لجملة من القوانين المعادية لحقوق الإنسان عموما، وحقوق الإنسان المختلف خصوصا، سواء إثنيا، قوميا، دينيا، سياسيا، أو جنسيا حتى. فقد سبق لشاكيد أن قدمت، حين كانت عضو كنيست وقبل أن تصبح وزيرة، مشروع قانون أطلقت عليه اسم "قانون التغلب على محكمة العدل العليا". وهو مشروع قانون أقرته اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في تشرين الأول 2014، في أعقاب قرار المحكمة العليا إلغاء "قانون المتسللين" للمرة الأولى. وقد تضمن مشروع القانون المذكور ثلاثة بنود مركزية، هي: أولا ـ يستطيع الكنيست إعادة سنّ أي قانون تقرر المحكمة العليا إلغاءه على خلفية تعارضه مع "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"؛ ثانيا ـ من أجل سنّ قانون ألغته المحكمة العليا، يحتاج الكنيست إلى أغلبية 61 عضو كنيست (فقط!)؛ ثالثا ـ القانون الذي يجري سنّه من جديد يكون ساري المفعول لمدة أربع سنوات ويشار في نصه، صراحة، إلى أنه يسري بالرغم من "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"!
الواقع أن الهجمة اليمينية على المحكمة العليا الإسرائيلية لم تتوقف يوما، لكنها تأخذ في الفترة الأخيرة منحى أكثر "منهجية" وتصميما بكثير عما سبق، وتتخذ أبعادا ستترتب عليها آثار في غاية الخطورة على كل ما يمكن إدراجه في خانة حقوق الإنسان. والحقيقة أن المحكمة العليا لا تشكل، في هذا السياق، سوى مجرد عنوان لا أكثر، بينما الهدف المقصود، حقا، هو: حقوق الإنسان، ذلك أن مشروع القانون المقترح الآن يقصد ويعني، بصورة فعلية وأساسية، تقليص صلاحية المحكمة العليا ("محكمة العدل العليا")، حدّ إلغائها كليا، في مجال إلغاء قوانين يسنها الكنيست إذا ما رأت المحكمة عدم دستوريتها ومنح الكنيست (أي: الأغلبية البرلمانية ـ السياسية فيه!)، في المقابل، القدرة القانونية والصلاحية الرسمية للدوس على أي قرار يمكن أن تتخذه المحكمة العليا ("محكمة العدل العليا") في سياق حماية الحريات الشخصية وحقوق الإنسان الأساسية.
وعبارة "عدم الدستورية" هي مصطلح قضائي متداول في إسرائيل على الرغم من كونها تفتقر، حتى الآن، إلى دستور متكامل، بل تعتمد عددا من "القوانين الأساس"، يبلغ عددها الإجمالي 14 قانونا، تعالج غالبيتها الساحقة (12 قانونا) وتنظم قضايا الحكم ومؤسساته المختلفة، بينما يعالج القانونان الآخران جملة من حقوق الإنسان الأساسية، وهما: "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" و"قانون أساس: حرية العمل"، وقد سنهما الكنيست في العام 1992، وهو ما اعتبرته الأوساط الحقوقية والقضائية آنذاك "ثورة دستورية" في إسرائيل، باعتبار أن هذين القانونين، بوجه خاص، يتمتعان بـ"مكانة دستورية" بفضل احتواء كل منهما على بند خاص أطلقت عليه المحكمة العليا اسم "فقرة التقييد" (أو: المنع)، ونصه: "لا تنتهك الحقوق الممنوحة بحسب قانون الأساس هذا إلا من خلال قانون ينسجم مع قيم دولة إسرائيل وأُعدّ لغرض جدير وبالمقدار الذي لا يتعدى ما هو مطلوب، أو من خلال قانون يستوفي ما ذكر واستنادا إلى تفويض صريح في نصه".
لكن، خلافا لـ"قانون أساس: حرية العمل"، الذي يضمن حقا عينيا محددا (حرية اختيار المهنة ومجال العمل)، يشكل "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"، في الواقع القانوني والقضائي الإسرائيلي، ما يمكن اعتباره "ميثاق حقوق الإنسان" غير المكتمل في دولة إسرائيل، إذ يضمن ـ سواء في نصه الصريح أو في التفسيرات القضائية التي أضافتها المحكمة العليا ـ الحقوق الأساسية الأكثر أهمية في النظام الديمقراطي، ومن بينها: الحق في الحياة، الحق في المساواة، الحق في الحرية، الحق في حرية التعبير، الحق في التظاهر، الحق في الكرامة الشخصية، الحق في حرية الحركة والتنقل، الحق في الخصوصية وغيرها.
من هنا، فإن مفهوم مصطلح "غير دستوري"، كما رسخته المحكمة العليا، هو: أي قانون يسنه الكنيست ويتعارض مع نصوص قوانين الأساس وتفسيراتها، وخاصة القانونين المشار إليهما، هو قانون غير دستوري، وهو ما يمنح المحكمة العليا صلاحية إلغائه. وفي العام 1994، على خلفية أزمة ائتلافية مع الأحزاب الدينية، سن الكنيست "تعديلا" لقانون أساس: حرية العمل تمثل في إدخال "فقرة تجاوز" جاءت لمنع مستوردي اللحوم من استيراد لحوم "غير محللة"، وذلك بواسطة تمكين الكنيست من إعادة سن قانون يحظر بيع لحم الخنزير بعدما قررت المحكمة العليا إلغاءه بدعوى عدم دستوريته وتناقضه مع نص القانون الأساس، كما كان ساريا حتى ذلك القرار. وفي أعقاب ذلك التعديل، رفضت المحكمة العليا التماساً ضد القانون تقدمت به شركة كانت تعمل في مجال استيراد لحم الخنزير وتسويقه.
ومن المهم التأكيد هنا أن اليمين يواصل شن معركته هذه ومساعيه التشريعية هذه على الرغم من أن المحكمة العليا التزمت الحذر الشديد، بل المبالغ به أحيانا، في ممارسة صلاحيتها هذه، فلم تقرر - طوال السنوات الـ 25 منذ سن هذين القانونين - إلغاء سوى عدد ضئيل جدا من القوانين (أو بنود في قوانين) بلغ عددها في الإجمال 15 قانونا فقط، بعد أن توصلت إلى الاستنتاج بعدم دستوريتها، أربعة منها خلال السنتين الأخيرتين. أما الجزء الأكبر من الالتماسات التي قدمت إليها للطعن في دستورية قوانين معادية لحقوق المواطنين الفلسطينيين في البلاد، فقد رفضته المحكمة مثبتة تلك القوانين، برغم ما فيها من انتهاك فظ واعتداء صارخ على حقوقهم.