يقول د. اوري رام، المحاضر المرموق في دائرة علوم السلوك في جامعة حيفا، ان اصطلاح "ما بعد الصهيونية" ظهر للمرة الاولى "وتغلغل بشكل مدهش في الخطاب العام" في اعقاب كتاب قام (رام) بتحريره وصدر أواخر العام 1993 تحت عنوان " المجتمع الاسرائيلي، جوانب انتقادية".
وقد احتوى الكتاب بين دفتيه مجموعة مقالات، وبضمنها مقالة كتبها "رام" بنفسه، واستخدم فيها اصطلاح "ما بعد الصهيونية" في النص وفي عنوان ثانوي.
ويضيف "رام" انه قام بكتابة "كلمة المحرر" للكتاب في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، وهو اليوم الذي تم فيه التوقيع على اتفاق اوسلو في حديقة الزهور في البيت الابيض. واردف "وحيث أن ثمة علاقة بين مصطلح ما بعد الصهيونية وتكريسه في الخطاب، وبين اتفاقيات اوسلو، التي ولدت آمالا بوضع حد للصراع، فإنني اعتقد بان تاريخ الثالث عشر من ايلول 1993 هو تاريخ الميلاد الرمزي والسليم الذي شق فيه المصطلح طريقه الى الوعي الجماهيري".
واستطرد قائلا، ربما كان هناك أشخاص آخرون قد سبقوني الى استعمال هذا المصطلح "لكنه لم يستوعب ولم يتبلور كتيار سوى بعد 1993".
ومن المرتقب ان ينشر "رام" قريبا مقالا لا يزال قيد الاعداد، عنوانه "عشر سنوات على ما بعد الصهيونية: هل ذهبت هباء أم ترسخت كتيار؟". كما أنه سيلقي الشهر المقبل محاضرة حول "عشر سنوات على ما بعد الصهيونية: تقويم أولي" وذلك في دائرة علم الاجتماع والانثروبولوجيا في جامعة تل ابيب.
د. ايلان بابه، المحاضر البارز في دائرة العلوم السياسية في جامعة حيفا ورئيس "معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية"، أكد من جهته على التأريخ المذكور، مشيرا الى انه نشر في حينه مقالة نقدية حول الكتاب في صحيفة "هآرتس" ( بتاريخ 28 كانون الثاني 1994) عنونها بـ "سوسيولوجيا
ما بعد الصهيونية".
ويقول ان الحديث تناول حتى ذلك الوقت "المؤرخين الجدد" الذين ركزوا على البحث الانتقادي لأحداث العام 1948، غير ان الكتاب الذي حرره "رام" وسع نطاق الحديث، مبينا انه يجري منذ فترة من الوقت في إطار المؤسسة الاكاديمية، في كليات علوم الآداب والمجتمع، تناول وبحث انتقادي ليس لاحداث 1948 وحسب بل ولفترات زمنية اخرى منذ انطلاقة الصهيونية وحتى قيام الدولة، ولا يقتصر ذلك على التاريخ العسكري والسياسي بل يشمل أيضا التاريخ الاجتماعي والاقتصادي.
ويقول "بابه" ان "الجامعات الاسرائيلية شهدت تغييرا جذريا منذ العام 1993" مضيفا انها تحولت الى ساحة صراع وتنافس، بعد ان كانت حكرا على مجموعة نخبوية واحدة فقط. "فقد أدخل ما بعد الصهيونيين في مواجهة هذه النخبة مجموعة هيمنة او نفوذ مضادة".
البروفيسور موشيه ليسك، من الجامعة العبرية في القدس، والذي يعتبر من المعارضين لتيار "ما بعد الصهيونية" والتيار الموازي له في علم الاجتماع (علم الاجتماع النقدي)، يتفق بدوره مع التأريخ الآنف، لكنه يفضل إرجاع انطلاقة تيار ما بعد الصهيونية سنتين الى الوراء، تزامنا مع صدور العدد الاول من مجلة "تيئوريا فبكورت" (نظرية ونقد) التي "شكلت توراة ما بعد الصهيونية"، على حد تعبير ليسك.
في المقابل يرى المؤرخ والصحافي د. توم سيغف، المحسوب على "المؤرخين الجدد"، بأن أوري افنيري هو أول من استخدم مصطلح "ما بعد الصهيونية" وذلك قبل عقود عديدة، عندما كان محررا لمجلة "هعولام هزيه" (هذا العالم)، وذلك من خلال تشجيع الكشف عن وقائع تاريخية جديدة ونقض مسلمات تاريخية شائعة.
ويقول سيغف ان "عالم اجتماع قصير النظر فقط يمكن ان يقول ان ما بعد الصهيونية ظهرت قبل عشر سنوات.. ربما كانت لديّ بعض الملاحظات على ذلك الميل او التوجه نحو النظر الى التاريخ من النقطة التي انطلقنا نحن منها. فالامر ليس كذلك. لقد كان هناك على الدوام من سبقنا، فهذا - المقصود ظهور اصطلاح ما بعد الصهيونية – لم يبدأ من أوري رام ولا قبل عشر سنوات فقط".
على أية حال ، هذه مجرد حصيلة متواضعة، او وقفة سريعة، وهي بمثابة فرصة لاستكشاف ومعرفة ما اذا كان تيار ما بعد الصهيونية لا يزال قائما وله حضوره.. واذا كان قائما، فبأي شكل او صورة، واذا لم يكن كذلك، فهل يمكن ان يكون الامر مجرد تراجع مؤقت فحسب ؟
تتباين الاجابات على هذه الاسئلة وتتغير تبعا للجهة او الشخص الذي يقدم الاجابة. فليست هناك وحدة حال او إجابة واحدة. ولعل ذلك يعود الى طبيعة "ما بعد الصهيونية"، التي تقدم إجابات مختلفة لأشخاص مختلفين.
سنتناول في المقال الحالي رأي اولئك الذين يعتقدون ان فكرة "ما بعد الصهيونية" ماتت او تغط في سبات عميق، فيما سيتناول الجزء التالي، في فترة لاحقة، رأي اولئك الذين يعتقدون ان الفكرة لا تزال تنبض بالحياة.
عودة الى "الرحم" الصهيوني
في كتابه "الصهيونيون الجدد" يعرف سيغف "ما بعد الصهيونية" بانها امتداد معاصر لما سمي خلال السنوات الاولى لقيام الدولة بـ "صهيونية بين هلالين". ويضيف ان الاصطلاح يستخدم من حيث الجوهر كشتيمة، فهو يشجب ويدين كل ما يقع بين الاستعداد للتوصل الى تسوية في الصراع الاسرائيلي – العربي وبين الطعن او الاعتراض على الأساطير التاريخية التي رعتها وغذتها الصهيونية. لذلك نجد ان رجالات اليمين الاسرائيلي يستخدمون الاصطلاح ليثبتوا انهم "وطنيون مخلصون" اكثر من رجالات اليسار.
ويستطرد سيغف مشيرا الى ان اصطلاح "ما بعد الصهيونية" يستخدم أيضا لتقويم الوضع: "فالمرحلة التالية للصهيونية استنفدت نفسها او حققت مهمتها بنجاح ملحوظ"، مضيفا: انه ليس من السهل الاتفاق على تعريف من هو "ما بعد صهيوني"، وهذا يعود الى صعوبة الاتفاق على تحديد "من هو الصهيوني"، الامر الذي يصعب النقاش والبحث.
بعد ثلاث سنوات من صدور كتابه، يقول سيغف بان " ما بعد الصهيونية ماتت بسبب الفلسطينيين"، أي بسبب الانتفاضة الثانية، المستمرة منذ ثلاث سنوات ونصف السنة. غير ان سيغف يخفف قليلا من حدة توصيفه هذا، بقوله " في الوقت الراهن اصبحت فكرة ما بعد الصهيونية في الثلاجة، وهذا في أحسن الاحوال. فهي لم تعد شيئا حيا. هذا ليس العصر الذهبي لما بعد الصهيونية" . ويضيف "لقد ارغمتنا الانتفاضة على العودة الى داخل ذاتنا الصهيونية. الارهاب الفلسطيني يعيدنا الى الرحم الصهيوني. فكل الانفتاح الذي لاحظت حصوله عقب توقيع اتفاقيات اوسلو، لم يبرهن على نفسه لغاية الآن، وهذا راجع، حسب رأيي، للارهاب... الشيء الذي تصدر اهتمام التيار ما بعد الصهيوني، كان الجدل حول الكيفية التي يمكن ان تكون فيها الدولة يهودية ودمقراطية .. اليوم لم يعد هناك من يأبه بهذا الموضوع. فنحن نشعر، كما يخيل اليّ، باننا نحارب ونصارع دفاعا عن حياتنا، وهذا بسبب العرب".
ويستطرد سيغف في تسويق الحجج والمبررات لوجهة نظره مدعيا ان "الارهاب الفلسطيني هو المسؤول عن الوحشية والهمجية التي تتسم بها عمليات وممارسات الجيش الاسرائيلي.. وليس هذا وحسب، بل وعن همجية التفكير ايضا" معتبرا ان ذلك "يشكل الخطر الاساسي للارهاب ... بكونه يعطل قدرة الناس واستعدادهم للتفكير بصورة منطقية".
ويمضي سيغف في توصيفاته لقوة تأثير "عامل الارهاب " على الانزياح والتغيير الحاصل في تفكير الاسرائيليين من امثاله، الذين "تجاوزوا حالة ما بعد الصهيونية، وانتقلوا الى فترة موغلة في الذاتية" مؤكدا ان "الايديولوجية – الصهيونية- الجماعية فقدت من أهميتها، اذ لم يعد هناك من يقول (نعم للموت في سبيل ارضنا..)، بل هناك تغليب لأهمية الفرد" معتبرا ان ذلك" يشكل في الواقع خلاصة الوضع ما بعد الصهيوني".
لذلك، يضيف سيغف "ينظر الناس الى الارهاب بكل هذه الخطورة.. يدرك الجميع بأن الارهاب لا يدمر الدولة.. ولكنه يؤذيني ويضرني على المستوى الشخصي.. نحن لسنا مجتمعا مستعدا للموت في سبيل أرضه وبلاده ... كل ما نريده هو ان نذهب للمقهى دون ان تنفجر الطاولة او المقعد الذي نجلس عليه من تحتنا".
مع ذلك يعتقد سيغف ان وضع "ما بعد الصهيونية" سيعود ويتقدم بصورة حتمية "عندما نسوي بطريقة ما علاقاتنا مع الفلسطينيين.."، لكنه يضيف مستدركا " لا توجد الآن امكانية للسعي الى تسوية للصراع . انا لا أعرف كيف يمكن تسويته، كما ان ما بعد الصهيونية لا تطرح حلا. لكنني اعتقد ان هناك طرقا ملائمة اكثر لادارة الصراع من الطريقة التي يدار بها الآن. يخيل الي ان الوضع ما بعد الصهيوني ممكن حتى في ظل غياب سلام نهائي بل وحتى في ظل وجود مستوى معين من الارهاب الذي يمكن التعايش معه".
عقروا قدرة الاخصاب
يعتقد د. ايلان بابه، الذي يعتبر يساريا وما بعد صهيوني بارزا، ان "ما بعد الصهيونية" أضحت منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تيارا وهميا غير فاعل، وأضاف "لقد عقروا قدرتها على الاخصاب. قد يأتي يوم يكون فيه متاحا، في ظروف مختبرية ملائمة، تلقيح نطفتها في عملية اخصاب اصطناعية". ويؤكد بابه، الذي يعتبر نفسه مناهضا للصهيونية، ان المجتمع الاسرائيلي تخلص في الوقت الحالي، من "ما بعد الصهيونيين" ويقول "ابحثوا عنا بعد ثلاث او اربع او خمس سنوات، عندما تصل الحقارة والشناعة والبربرية، التي اضحت اليوم جزءا لا يتجزأ من السياسة الاسرائيلية، الى درك من شأنه ان يدفع الكثير من الناس، حتى داخل البلاد، الى القول: الى هنا! لكننا لم نبلغ بعد هذه اللحظة".
ويمضي بابه الى القول بانه ليس بالامكان الفصل بين الأبحاث الاكاديمية والمواقف الايديولوجية، وان هذه الصفة او الميزة في نزعة "ما بعد الصهيونية" - المأخوذة من نزعة ما بعد الحداثة – جعلت الأكاديمية الاسرائيلية ذات صلة اكثر بما لا يقاس. فقبل ذلك، تابع يقول "لم يكن هناك من يعبأ او يكترث لما كتبه الاكاديميون عن المجتمع الاسرائيلي".. مشيرا الى ان أبحاثه ايضا لا تتسم بالموضوعية، لكنه يتوخى ان تكون منطقية ونزيهة. وأضاف " انا لا افهم كيف يمكن لباحث اسرائيلي او فلسطيني، يكتب عن الصراع، ان يكون موضوعيا".
واستطرد مدللا على كلامه: عندما اندلعت الانتفاضة الثانية فان "الكثيرين من الأشخاص الذين اعتقدت انهم انتقاديون ويتحلون بالجرأة، ظهروا كأناس في منتهى الجبن والرعونة. حتى ان قسما منهم أعربوا عن ندمهم وتراجعهم، فيما توارى نشاط قسم آخر، وبات من الصعب جدا أن نجد اليوم في المؤسسات الأكاديمية في البلاد ما كنا نجده فيها في التسعينيات. فكل من لديه دافع انتقادي ما، تجده اليوم حذرا جدا... انهم يخشون اليوم إبداء النقد". ويقول بابه ان هذا الامر أصابه بخيبة أمل كبيرة جدا، فقد احتاج لمدة 25 عاما ليدرك ان "الأكاديمية برمتها تنقاد خلف السياسة. فهي لا تلعب في اي مكان دورا طليعيا ولا تأخذ بزمام المبادرة". وأردف " من الذي أوجد ما بعد الصهيونية؟ أليس هو اتفاق اوسلو؟" الذي صنعه سياسيون وليس اكاديميون .. وأكمل " لقد اتضح ان الاكاديميين يفكرون بسيرتهم وحياتهم المهنية الشخصية اكثر بكثير من تفكيرهم بواجبهم تجاه المجتمع ".
وأعرب بابه عن تقديره بأن تيار ما بعد الصهيونية سينبعث مجددا في حال ازدادت القوة السياسية لليسار الاسرائيلي "عندئذ سنسمع مجددا تغريدا ما بعد صهيوني في سماء الاكاديمية"، لكن هذا الامر حسب قوله لن يحدث الا في وضع اسوأ، من قبيل حرب على الحدود الشمالية او تدهور تام في علاقات اسرائيل مع العالم العربي، او وقوع إرهاب من نوع لم نعرفه من قبل - نتيجة لاستمرار السياسة الاسرائيلية الحالية تجاه الفلسطينيين – بالترافق مع ضغط خارجي شديد على اسرائيل، عقب حصول مزيد من التدهور في مكانتها الدولية، والى حد اعتبارها دولة مارقة ومثيرة للاشمئزاز.
(ظهر هذا المقال في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 2004/4/20)
{ترجمة "مدار"}