المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 831

لقد أصبح هذا رسميا: أقيمت "الديمقراطية الأولى في العالم العربي" أو "الديمقراطية الثانية في الشرق الأوسط".

لقد أثارت الانتخابات الفلسطينية إعجاب العالم. فبينما كانت تجرى في الدول العربية انتخابات ما، كان يرشح فيها مرشح وحيد، يحصل على 99.62 بالمئة من الأصوات، ها هي ذي انتخابات يتنافس فيها سبعة مرشحين، وكانت حملة انتخابية يقظة، وقد حظي المرشح الفائز فيها على 62 بالمئة فقط.

 

في الحقيقة، كانت الديمقراطية الفلسطينية قائمة قبل ذلك أيضا. ففي عام 1996 أجريت انتخابات للرئاسة وللبرلمان وخضعت لمراقبة دولية مشددة. لم يكن ياسر عرفات، زعيم حرب التحرير، المرشح الوحيد، فقد واجهته مرشحة لها وزنها، وهي سميحة خليل التي حظيت بـ 10 بالمئة من الأصوات تقريبا. غير أنه بسبب شخصية عرفات الديناميكية وعدم الفصل المناسب بين السلطات، إضافة إلى حملة التحريض الإسرائيلية ضده، لم يعترف الكثيرون في العالم حتى الآن بالديمقراطية الفلسطينية.

أما الآن فالوضع قد تغير. فلا أحد يمكنه أن ينكر الأعجوبة التي حدثت: الانتقال السلس من عهد عرفات إلى عهد ورثته وإجراء انتخابات عادلة بمراقبة مشددة. وبالأساس: لم يتم فرض هذه الديمقراطية من الخارج، كأمر منزل من قبل رئيس أجنبي، بل نبتت من الجذور. لم تنبت بظروف اعتيادية بل بظروف احتلال قاسية.

العالم كله يعترف بالديمقراطية الفلسطينية. وإن مجرد ذلك يخلق وضعا سياسيا جديدا.

 

الكثير الآن متعلق بشخصية أبي مازن. إنه يشق طريقه في ظلال سابقه العظيم. يواجه من يرث مؤسس دولة مشكلة كبيرة في خطواته الأولى. هذا ما حدث، على سبيل المثال، لورثة بسمارك وبن غوريون.

يجدر بنا أن نذكر على وجه التخصيص وريث جمال عبد الناصر، مؤسس مصر الجديدة ومعبود العالم العربي كله. بعد موته، حين انتخب أنور السادات، سألت صديقي هنري كورييل عن هذا الرجل، الذي لم يكن معروفا تقريبا حتى ذلك الحين.

كورييل، اليهودي الذي أسس الحركة الشيوعية المصرية، كان صاحب عقل متقد. لقد أقام في باريس ما يشبه مركزا عالميا لمساعدة حركات التحرير، غير أنه بقي على اتصال وثيق بوطنه. لقد كان حكمه قاطعا: "السادات أبله".

لم يكن الوحيد الذي كان يفكر بهذا الشكل. في تلك الأيام راجت في مصر نُكت عن مصدر هذه البقعة الغامقة في جبين السادات. لقد قالوا إنه في كل اجتماع لمجلس الضباط الأحرار (الذي أدار مصر من الناحية الفعلية) طلب عبد الناصر من الأعضاء التعبير عن رأيهم، فأدلى كل منهم برأيه، وفي النهاية قام السادات ليتحدث. كان عبد الناصر يضع إصبعه على جبينه ويدفعه بنعومة إلى الخلف ويجلسه على كرسيه قائلا: "اجلس يا أنور اجلس!".

وها هو السادات يفاجئ العالم. لقد أرسل جيشه ليعبر القناة في حرب أكتوبر، ويلحق بالجيش الإسرائيلي أول هزيمة كبيرة في الحرب. لقد كانت زيارته إلى القدس عملا لامعا لا مثيل له في التاريخ. لم يحدث في أي مرة قبل ذلك أن يقوم زعيم ما بزيارة عاصمة العدو وهو في حالة حرب معه.

لقد عاش أبو مازن معظم حياته في ظل عرفات. لم يكن قائدا عسكريا، مثل أبي جهاد المحبوب، الذي اغتالته إسرائيل. كما لم يسيطر على أجهزة الأمن، مثل أبي إياد، الذي اغتاله أبو نضال. منذ عام 1974 كان شريكا لمجهود عرفات التاريخي في التوصل إلى اتفاقية مع إسرائيل، وقد عالج العلاقات مع قوى السلام الإسرائيلية. لقد تعرفت عليه بنفسي لأول مرة في تونس عام 1983.

لن تأخذني الدهشة إذا أظهر أبو مازن، كرئيس للدولة الفلسطينية المنتظرة، قدرات وميزات لم يكن لها أن تتجسد في عهد عرفات. يمكن له أن يكون السادات الفلسطيني.

صحيح أن أبا مازن يختلف كثيرا عن السادات. لقد كان السادات زعيما مصريا ذا توجه دراماتيكي (مثل مناحيم بيغين)، لقد أحب الالتفاتات الطيبة الكبيرة (مثل عرفات). أما أسلوب أبي مازن فهو مختلف.

هناك فرق كبير آخر: لقد سيطر السادات سيطرة تامة على دولة كبيرة. كان يمكن أن يسمح لنفسه بتجاهل الآراء الأخرى. لا يتمتع أبو مازن بمثل هذا الامتياز.

 إنه يتقلد منصبه ولديه رصيد هام: علاقته برئيس الولايات المتحدة.

جورج بوش هو إنسان ساذج. إنه يحب شخصا ما أو يكرهه، ووفق ذلك يتم تحديد سياسة الدولة الأعظم في العالم. إنه يحب أريئيل شارون ويتملق في وجهه. وكمن لم يشارك في أي حرب ذات مرة فإن القائد الإسرائيلي يعجبه كثيرا. شارون يذكره دائما بالأسطورة الأميركية الوجودية- إبادة الهنود واحتلال الأراضي. أما عرفات فيذكره بزعيم قبيلة هندي لا يفهم لغته وحيله شيطانية.

حين التقى بوش أبا مازن، سلس الحديث، في العقبة، ببذلته ووجهه الحليق، مخالفا لصورة العربي المتطرف، أعجبه كثيرا. لذلك هنأه هذا الأسبوع فور انتخابه ودعاه فورا إلى البيت الأبيض. والسؤال هو هل يستطيع أبو مازن ترجمة هذا التعامل إلى إنجازات سياسية سريعة.

هذا الوضع يضع شارون أمام خيار صعب. تقضي نيته الطبيعية في أن يفعل مع أبي مازن ما نجح في فعله مع عرفات: تحويله إلى شيطان وإبعاده عن الولايات المتحدة. لقد بدأ يُسمع رموزا معتمة حول عدم نية أبي مازن في القضاء على "المنظمات الإرهابية".

إلا أن شارون يعرف بأن عليه توخي الحذر لئلا يغضب بوش. فطالما كان أبو مازن "أو- كي" في عيني بوش فإن شارون ممنوع من أن يبدو كمن يكيد له المكائد، وهذا أيضا يمنح أبا مازن الفرصة.

 

ماذا يمكنه أن يفعل؟

إن مهمته الأولى هي التعامل مع منظمات الرفض. لا يمكن لأي زعيم أن ينتهج سياسة وطنية بينما تقوم فئات مسلحة بالعمل في الاتجاه المعاكس. لقد واجه بن غوريون مثل هذا الوضع حين قامت إيتسل وليحي بعمليات مستقلة. لقد حاول ذات مرة أن يدمجهما في إطار "حركة التمرد العبري"، وفي مرة أخرى سلمهما إلى البريطانيين. إلا أنه علينا أن نتذكر أن بن غوريون قد أجرى مواجهته الفاصلة في قضية "ألطلينا" بعد قيام دولة إسرائيل فقط. وعندها دمج أفراد إيتسل وليحي في الجيش الإسرائيلي الجديد.

من يقول إن أبا مازن مستعد أو قادر على شن حرب بين الأخوة ضد حماس، فإنه لا يعرف عما يتحدث. لن يسمح الرأي العام الفلسطيني بذلك. معظم الفلسطينيين يؤمنون بأنه لولا النضال المسلح لما كان شارون سيتحدث عن الانسحاب من غزة. إنهم مستعدون لوقف إطلاق النار بهدف منح الفرصة لأبي مازن. غير أنهم لا يريدون نزع أسلحة المنظمات، فلربما سيحتاجون إلى إعادة تجديد النضال المسلح في حال لم يتمكن أبو مازن من أن يحرز شيئا ما من أميركا وإسرائيل فيما يتعلق بتحقيق الهدف الوطني.

سيفضل أبو مازن، فيما يتعلق بعلاقته بحماس، كما فعل عرفات، الدمج بين الإقناع والضغط السياسي وتجنيد الرأي العام. سيكون عليه إقناع المنظمات المسلحة بقبول الاستراتيجية الوطنية التي تحددها القيادة. مقابل ذلك سيكون عليه إشراك حماس في الحلبة السياسية، في منظمة التحرير وفي الانتخابات البرلمانية.

لم تكن العملية في معبر "كارني" سوى عرض للعضلات من قبل المنظمات المسلحة. لقد كانت هذه عملية عصابات كلاسيكية تشبه العملية التي دمرت فيها الثكنة العسكرية الموجودة على "محور فيلادلفيا". تريد المنظمات أن تثبت بأنها لم تهزم، بل توصلت إلى التعادل مع الجيش الإسرائيلي. إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار فذلك لن يجسد ضعفا لديها، مثلما حدث في حرب أكتوبر التي سبقت السلام الإسرائيلي المصري، وحرب العصابات التي شنها حزب الله والتي سبقت الانسحاب من لبنان.

إذا توصل أبو مازن إلى وقف لإطلاق النار فسيتمكن من التعامل مع هدفه الأساسي: اجتياح الرأي العام الإسرائيلي والعالمي وجهود دبلوماسية لتغيير موقف الولايات المتحدة.

لقد نجح السادات في ذلك. إلا أن السادات كان قد تعامل مع مناحيم بيغين، الذي كان مستعدا للتخلي عن مناطق مصرية بهدف مواصلة نزاعه ضد الفلسطينيين ومنع إقامة الدولة الفلسطينية. شارون هو أيضا يعارض بكل جوارحه إقامة دولة فلسطينية في جميع مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تكون عاصمتها القدس. بينما أبو مازن، مثله مثل عرفات من قبله، لن يتمكن ولن تكون لديه نية التنازل عن هذا الهدف المقدس.

هناك فرق كبير أيضا بين وضع السادات ووضع أبي مازن: لقد جاء السادات إلى القدس بعد أن وُعد، في محادثات سرية، بأن بيغين سيعيد له سيناء كلها. أما شارون فهو لا يعد أبا مازن بشيء أو بأقل منه.

في الوقت الذي يبدأ فيه أبو مازن بشق طريقه يتمنى له الكثيرون النجاح إلا أنه لا يوجد من يحسده.

 

المصطلحات المستخدمة:

حركة التمرد العبري

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات