تحرص صحيفة "هآرتس" وعدد من منظمات المجتمع المدني في إسرائيل منذ فترة على جعل موضوع أولاد طالبي اللجوء الأفارقة والعمال الأجانب، الذين ولدوا في إسرائيل وترفض هذه تجنيسهم، في صدارة اهتمام القوى والأحزاب السياسية المختلفة، ولكن من دون جدوى. فقد كُشف النقاب في الفترة القليلة الماضية عن أن بلدية تل أبيب، التي تتمركز في نطاق منطقة نفوذها الغالبية الساحقة من هؤلاء الأولاد، واتسمت حتى الآن بمعاملتهم نسبياً على نحو إنساني وجيّد عبر مراعاة مبدأ المساواة الكونيّ، بدأت بالتواطؤ مع وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية في اتباع سياسة تفرقة بحق هؤلاء الأولاد في مدارس المدينة، بالإضافة- وهذا هو الأهم- إلى اعتماد منهاج تعليمي خاص.
ويهدف هذا المنهاج التعليمي على نحو محدّد إلى تأهيل تلامذته من بين أولاد طالبي اللجوء والعمال الأجانب لإكمال حياتهم خارج حدود إسرائيل.
وكتبت "هآرتس"، في سياق افتتاحية بهذا الشأن أنشأتها أمس الأحد (11/6/2023)، تقول: يصعب التفكير بقضية ما تنمذج على مرض التطرّف القومي النفساني المتفشي في إسرائيل أفضل من قضية تعامل الدولة مع طالبي اللجوء والعمال الأجانب عموماً في تل أبيب وأولادهم. إن عدم استعداد الدولة لأن تحتوي بداخلها ولو نسبة ضئيلة من الأجانب مثل أي دولة طبيعية ولأن تفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي حيال طالبي اللجوء وأولادهم بمثابة وصمة عار على جبين الدولة. وتدرك إسرائيل أن القانون والمواثيق الدولية بما في ذلك ميثاق حقوق الطفل، وكذلك المعايير الأخلاقية المعمول بها في العالم، تلزمها بأن تهتم بالأولاد. وبدلاً من أن تقوم بما يتعيّن عليها القيام به، تحاول الدولة أن تتحايل على العالم وعلى الأخلاق. وهذا هو بالضبط ما ينطبق على برنامج التعليم الخاص لأولاد طالبي اللجوء والعمال الأجانب في تل أبيب والتي تدفع قدماً بها وزارة التربية والتعليم.
يجدر هنا أن نعيد التذكير بأن الحملة المسعورة على اللاجئين الأفارقة تقف منذ أكثر من عقد في صلب اهتمام الحكومة الإسرائيلية، وفي أوقات شبه دوريّة تشكل مطيّة يحاول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من خلالها إيهام الرأي العام بأنه لدى الانتهاء من طرد هؤلاء اللاجئين عن بكرة أبيهم، وكبح وصول مزيد منهم وأساساً بواسطة الجدار الأمني على طول منطقة الحدود بين إسرائيل ومصر والذي انتهت أعمال إنشائه العام 2012، من المتوقع أن تصبح الدولة نظيفة من الجرائم والأمراض والضائقة الاقتصادية الاجتماعية.
غير أن هذه الحملة كشفت وما زالت تكشف عن النزعات العنصرية المعششة في أوساط المجتمع الإسرائيلي بأطيافه كافة، وكشفت عن الاستحواذ الديموغرافي المقترن بغاية الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة.
وتقدّم تقارير تصدر تباعاً عن "مركز مساعدة العمال الأجانب" رصداً لمظاهر التحريض العنصري وجرائم الكراهية والتمييز ضد طالبي اللجوء الأفارقة خلال الفترة التي تفاقمت فيها هذه المظاهر، وشملت قوى سياسية كثيرة ولا سيما من اليمين والوسط، فضلاً عن جهات متعددة من الرأي العام اليهودي. وهؤلاء جميعاً يتعاونون فيما بينهم، ويتعاملون مع اللاجئين من أفريقيا كما لو أنهم حيوانات، لمجرّد كونهم "غير يهود" (غوييم).
وترى هذه التقارير أن إسرائيل بزّت "قريناتها" من الدول الغربية، التي يحلـو لها أن تتشبّه بها صباح مساء، في كل ما يتعلق بالتعامل مع اللاجئين الباحثين عن عمل. وبينما تطرد هذه الدول (وهي لا تنجح دائماً في ذلك) أفارقة تم رفض طلبهم الحصول على ملجأ فيها، فقط بعد إجراء قانوني شفاف، يكون في بعضها مصحوباً بمساعدة قانونية تموّلها الدولة المضيفة، فإن إسرائيل تقوم بطرد المتسللين الأفارقة من دون أن تفحص نهائياً طلبات لجوئهم، بما يتناقض مع نصوص معاهدة اللاجئين الدولية الموقعة عليها.
وما يجب ملاحظته هو أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي ترفض أن تمنح مكانة لاجئ لأي كان، كما أنها غير مستعدة على الإطلاق لتحديد أي سقف يتعلق بعدد اللاجئين الذين يمكنهم العيش فيها. كذلك فإنها غير مستعدة لأن تتعاون مع أي جهة من أجل حلّ مشكلة هؤلاء اللاجئين.
كما تشير التقارير إلى أن اللغة التي يستخدمها صنّاع القرار في إسرائيل، لدى الحديث عن هؤلاء اللاجئين، تنزع عنهم إنسانيتهم وتصوّرهم كتهديد داهم. فهؤلاء الناس الذين كما هو معلوم لاذوا بالفرار من الإبادة الجماعية في دارفور (السودان)، أو من الخدمة العسكرية في ظروف أشبه بالعبودية في إريتريا، يوصفون دائماً بأنهم "غزاة" و"أعداء" و"سرطان" و"قنبلة موقوتة" و"تهديد وجودي"!
وقد سبق لنا في "مركز مدار" أن أصدرنا عدداً من سلسلة "أوراق إسرائيلية" (العدد 58) يحمل عنوان "إسرائيل 2012: اللاجئون الأفارقة سرطان!"، يتضمّن رصداً لمظاهر التحريض العنصريّة وجرائم الكراهية والتمييز ضدّ طالبي اللجوء الأفارقة خلال الفترة بين كانون الثاني وحزيران 2012، ويورد مجموعة من الادّعاءات المركزيّة حول اللاجئين الأفارقة التي تُبرِّرُ وتدعم السلوكيّات العنصريّة الإسرائيليّة بإزائهم وكذلك محاولات ترحيلهم المستمرّة. وقد أشير فيه إلى أن الحكومة الإسرائيليّة تستخدم خطابها حول الفلسطينيين كخطرٍ ديمغرافيّ وأمنيّ في وصف اللاجئين الأفارقة، فالادّعاء الأكثر حضوراً ضدّ طالبي اللجوء هو أنّهم يشكّلون تهديداً ديمغرافياً لوجود دولة إسرائيل كدولة يهوديّة، ذلك على الرّغم من أنّ مكانتهم في إسرائيل لا تكفل لهم حق المواطنة أو التجنيس، بل تكفل إمكانية ترحيلهم بشكل دائم. ويستخدم نتنياهو هذا الادّعاء بشكلٍ دائمٍ عند تطرّقه لمسألة اللاجئين، فمثلاً في شهر أيار 2012 قال: "إنّ هذه الظاهرة خطرة للغاية وهي تهدد الأمن القومي والهوية القومية. إنّها تعويم وإلغاء لهوية الدولة. هؤلاء الـ60 ألف متسلل يمكن أن يصبحوا 600 ألف، ما قد يؤدّي إلى إلغاء دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطيّة". وأخيراً يحضرُ الادّعاء الأمنيّ الإسرائيليّ الذي يُصنّف اللاجئين الأفارقة كخطرٍ أمنيّ في ضوء الزعم بإمكانية قيام تعاون بينهم وبين عناصر "إرهابيّة"!