تؤكد معطيات "مؤشر اللامساواة الجندرية في إسرائيل" للعام الأخير، 2020، حقيقة يعمد طاقم معدّات التقرير إلى التنويه إليها وإبرازها بشكل خاص مفادها أن "عدم المساواة الجندرية هو مبدأ مؤسِّس وحجر أساس متين في المجتمع الإسرائيلي"!
"مؤشر اللامساواة الجندرية"، أو "التمييز الجندري"، هو مشروع سنوي تُنشر معطياته الآن للسنة الثامنة على التوالي، إذ تقوم على إعداده وجمع معطياته مجموعة من الباحثات في "معهد فان لير" في القدس ضمن مركز "متساويات ـ المركز لتعزيز النساء في الحلبة الجماهيرية" وهو بمثابة أداة شديدة الفاعلية بفحص وقياس التغيرات بعيدة المدى في وضع النساء في إسرائيل، من جهة، وبالمقارنة مع وضع الرجال، من جهة أخرى. ويقدم المؤشر صورة تفصيلية عن اللامساواة في مجالات حياتية مختلفة، سواء في العمالة وسوق العمل، في التعليم، في الفقر، في القوة السياسية والاقتصادية، في الثقافة ووسائل الإعلام، في العنف، في توزيع الوقت وفي الصحة، كما تُضاف إليه في كل سنة مجالات جديدة أخرى من واقع الحياة.
لا يجري قياس التمييز الجندري على أساس التمييز العامودي بين الرجال والنساء، فحسب، وإنما أيضاً وفق تقاطعات الجندر ذاته مع التموقعات الجغرافية والاجتماعية المختلفة، بما فيها على سبيل المثال: المركز، الضواحي والبلدات الطرفية، المجتمع العربي ومجتمع المتدينين الحريديم وغيرها. ومن شأن المعطيات التي يوفرها هذا المؤشر أن تشكل بوصلة موجِّهة لصناع القرار وللمؤسسات السلطوية ـ الحكومية والشعبية المختلفة في إسرائيل لدى رسم سياساتها بعيدة المدى، وضع البرامج والخطط لتطبيق هذه السياسات، ثم تنفيذها.
هذه هي المرة الثامنة التي تُنشر فيها نتائج ومعطيات مؤشر التمييز الجندري السنوية، على التوالي، كما أسلفنا، والتي تكشف، هذه السنة، عدداً من نقاط التمييز الجندري بين النساء والرجال في إسرائيل، بما يؤكد على نحو قاطع أن هذا التمييز هو مبدأ مؤسِّس وحجر أساس متين في المجتمع الإسرائيلي عموماً.
يسلط مؤشر اللامساواة الجندرية للعام 2020 ضوءاً خاصاً على النتائج والإسقاطات الجندرية، الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على تفشي جائحة كورونا، لكن في الوقت ذاته، لم يجر شمل هذه النتائج والإسقاطات ضمن حسابات المؤشر نفسه، الذي يعتمد أساساً على المعطيات التي سبقت ظهور فيروس الكورونا وانتشار وبائه عالمياً. وقد بينت المعطيات، بصورة جلية، أن أزمة وباء كورونا عمقت وفاقمت مظاهر ومناحي التمييز الجندري، إذ أدت الجائحة إلى تعميق اللامساواة الجندرية بشكل قد يصبح معه الخطر حقيقياً وكبيراً لضرب المنجزات والمكاسب التي تحققت في مجال المساواة الجندرية على مدى عشرات السنوات، وخصوصاً في مجالات التعليم، العمالة والتشغيل والمعركة ضد العنف بحق النساء.
ينبغي أن نوضح فيما يتعلق بأهمية البحث ومنهجيته أن حسابات مؤشر اللامساواة تتيح معرفة أي المجالات الحياتية هي الي تعاني فيها النساء من اللامساواة الجندرية بدرجة مرتفعة وأيها بدرجة أقل ـ كلما كانت النسبة أقرب إلى 100، كانت اللامساواة أكبر، والعكس صحيح.
في السياسة والاقتصاد - أعلى درجات اللامساواة الجندرية
تبين معطيات "مؤشر اللامساواة الجندرية" للعام 2020 أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت جموداً في وضع التمييز الجندري، إذ لم يطرأ أي تحسن في تقليص الفجوات الجندرية، من الجهة الأولى، ولم تتعمق هذه الفجوات من الجهة الثانية، وذلك بعد هبوط بنسبة 13% في المستوى العام للامساواة الجندرية بين السنوات 2004 و 2013. وقد أبرزت المعطيات أن المجال الذي يعاني من الفجوات الجندرية الأعمق والمستوى الأدنى من المساواة الجندرية هو مجال القوة السياسية والاقتصادية، بينما المجال الذي يشهد المستوى الأعلى من المساواة الجندرية هو مجال التعليم.
منذ العام 2014 حتى العام 2020، كما تدل المعطيات، تعمق بشكل كبير وحاد عدم المساواة الجندرية في المجتمع العربي في داخل إسرائيل، وذلك بعد عقد كامل سبق تلك الفترة تقلصت خلاله الفجوات الجندرية بين العرب مواطني إسرائيل.
قبل تفشي وباء كورونا، كما تثبت بعض الأدلة الواردة في معطيات المؤشر، حصل تدهور واضح في أوضاع العمال القابعين في أسفل درجات توزيعة المداخيل في إسرائيل، والذين تشكل النساء الأغلبية الساحقة من بينهم. فقد بلغت نسبة النساء اللاتي يتقاضين أجرة عمل شهرية أقل من الحد الأدنى القانوني للأجور في إسرائيل 43%، مقابل 28% من الرجال، وهو ما يعني أن أي تدهور في وضع الرجال في هذا المجال يؤدي، بالضرورة، إلى تعميق فجوة اللامساواة الجندرية، التي تُقاس باعتبارها مقارنة بين النساء والرجال، حتى حين يكون الأمر ناجماً عن ازدياد مستوى اللامساواة الطبقية في المجتمع. وهذه الحقيقة، بالتحديد، هي ما يفسر تقلص وتراجع اللامساواة الجندرية في مجال سوق العمل وانخفاضها بنحو 8%. ومع ذلك، تعمقت الفجوة الجندرية في معدلات الأجور الشهرية، المتوسطة والوسيطة، بالمقارنة مع السنة الماضية، إذ ازدادت الفجوة في متوسط الأجر الشهري من 31% إلى 32% بينما ازدادت الفجوة في الأجر الشهري الوسيط من 25% إلى 28%.
في مجال التعليم، تبين معطيات "مؤشر اللامساواة الجندرية" أنه المجال الذي يشهد أدنى مستوى من هذه اللامساواة، إذ أن نسبة المتعلمات تماثل نسبة المتعلمين، على الأقل، أو تفوقها أحياناً، غير أن اللامساواة في مجال التعليم عموماً تتركز في مجالين اثنين: الأول هو نتائج امتحانات التصنيف (مثل بسيخومتري وما شابه)، التي تقل فيها نتائج (علامات) النساء عن نتائج الرجال ـ 486 بالمعدل بين النساء مقابل 510 بالمعدل بين الرجال. والثاني هو اختيار مجالات ومواضيع الدراسة، إذ أن المهن التقليدية التي لا تزال النساء تشكل أغلبية كبيرة بين الطلاب الذين يدرسونها هي: التربية، التعليم، المهن الطبية المساعِدة والعلوم الاجتماعية الإنسانية؛ وهي مهن حيوية لكنّ مردودها المادي قليل نسبياً، لأسباب مختلفة أحد أهمها وأبرزها هو كونها "مهناً نسائية"! هذا، بينما تشكل النساء نحو الثلث، أو أقل حتى، من بين مجموع الطلاب الذين يدرسون المواضيع والمجالات العلمية.
في مجال "القوة"، يقيس مؤشر اللامساواة الجندرية في مراكز القوة السياسية والاقتصادية في إسرائيل. يجسد هذا المؤشر واقع اللامساواة الجندرية في هيكلية السيطرة الهرمية، إذ يفحص نسبة الرجال في قمة هرم المنظومة: تضاعفت نسبة النساء أعضاء الكنيست مرتين خلال السنوات التي شملها الفحص والقياس حتى بلغت "ذروة" تمثلت في كون النساء شكلن نسبة 28.3% من أعضاء الكنيست في العام 2018، بينما تراجعت نسبتهن في العام المنصرم 2020 وانخفضت إلى 26.7% فقط. أما عدد النساء اللاتي يشغلن وزارات حكومية فقد كان 4 من أصل 19 وزيراً في الحكومة في العام 2018، لكنه لم يزد عن 20% على امتداد السنوات التي شملها الفحص والقياس. أما في المجال الاقتصادي، فقد سجلت نسبة المديرات العامّات في قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي المختلفة ارتفاعاً طفيفاً وبطيئاً جداً من 15.7% في العام 2004 إلى 22.6% في العام 2000. وأما نسبة النساء الأعضاء في مجالس إدارات الشركات العامة فقد بلغت 23%، مقابل 44% في الشركات الحكومية. ويؤكد هذا الفارق أن أثر التشريعات التي تُلزم المساواة في التمثيل الجندري في هذه المؤسسات ينعكس في الشركات الحكومية، لكن ليس في الشركات العامة. وفي الإجمال، انخفضت اللامساواة في مجال "القوة"، السياسية والاقتصادية، في أعقاب ونتيجة ارتفاع عدد النساء اللاتي تترأسن سلطات محلية في إسرائيل، إذ تشغل النساء اليوم رئاسات 14 سلطة محلية (بعد الانتخابات الأخيرة للسلطات المحلية، والتي أجريت في تشرين الأول 2018)، وهو مستمر في التحسن بصورة واضحة بنسبة متوسطة تبلغ 25% منذ بدء الفحص والقياس في إطار "مؤشر اللامساواة الجندرية". ورغم ذلك، لا تزال درجة اللامساواة في هذا المجال بين الأعلى مقارنة بالمجالات الحياتية الأخرى التي تشملها قياسات المؤشر، إذ تبلغ 67%.
العنف عموماً واللامساواة في المجتمع العربي ـ لا تحسّن!
في مجال العنف ضد النساء في إسرائيل، أكدت معطيات مؤشر اللامساواة للعام 2020 أن "لا تحسن، على الإطلاق" يمكن الإشارة إليه أو تسجيله. فخلال العام 2018، قُتلت 27 سيدة بأيدي أزواجهن، أو أقاربهن. غير أن ما يزيد من حدة القلق في هذا المجال بشكل خاص هو أن عدد التوجهات إلى مراكز مساعدة ضحايا الاعتداءات الجنسية في إسرائيل يشهد ازدياداً مستمراً خلال السنوات الأخيرة ـ أكثر من 12.000 توجه جديد في السنة! ـ وكذلك عدد ملفات العنف بين الأزواج، إذ أن النساء هن ضحايا هذا العنف في الأغلبية الساحقة من الحالات ومن هذه الملفات ـ أكثر من 19.000 ملف في العام 2018. وقد فاقمت جائحة الكورونا والحياة في ظلها هذه المسألة بصورة حادة جداً، بينما لا تبذل الحكومة وأذرعها المختلفة الجهود اللازمة لمواجهة هذا التفاقم ومعالجته، وخصوصاً في ما يتعلق برصد الميزانيات اللازمة لمواجهة الأزمة على مستوى المنظومة بأكملها.
في مجال الثقافة، فحص مؤشر اللامساواة الجندرية مدى بث أغاني المغنيات مقابل مدى بث أغاني المغنين في جميع المحطات الإذاعية في إسرائيل. وبينت نتائج الفحص أنه خلال السنوات بين 2015 و 2019، تراوحت حصة المغنيات من زمن البث الإذاعي الإجمالي الذي خُصص لبث الأغاني بين 17% و 23%، فقط. أما في المسرح، فقد شكلت النساء في العام 2018 نسبة 25% فقط من مجموع المخرجين في المسارح الإسرائيلية و 40% من مجموع الممثلين المسرحيين في إسرائيل. كما فحص المؤشر، أيضاً، عدد الرياضيات المسجلات رسمياً في النوادي الرياضية المهنية والنسبة التي تشكلنها من مجموع الرياضيين في البلاد، فتبين أن هذه النسبة لا تتعدى 23%.
تتمثل أهمية المعطيات في هذا المجال في أنها تكشف عن بؤر اللامساواة الجندرية غير البارزة للعيان والتي تحظى بدرجة أقل من الاهتمام مقارنة بالفجوات الجندرية في المجالات الأخرى، مثل القوة السياسية والاقتصادية، سوق العمل وغيرهما، رغم أنها تعكس بشكل واضح دونية المكانة التي تحتلها النساء في الحيز العام، إضافة إلى المس الجدّي بعدد وأهمية الفرص المتاحة أمامهن.
بالإضافة إلى القياس العام لمستوى اللامساواة الجندرية، يفحص المؤشر أيضاً اللامساواة الجندرية بالتقاطع مع الموقع الاجتماعي: في المجتمع العربي، في مجتمع المتدينين الحريديم وفي الضواحي النائية. يبين هذا الفحص أن اللامساواة الجندرية في المجتمع العربي هي بدرجة أعلى منها في المجتمع الإسرائيلي بشكل عام ولا تشهد أي تحسن يمكن أن يشار إليه. تبلغ نسبة مشاركة النساء العربيات في سوق العمل 30% فقط، وتعمل 26.6% من هؤلاء النساء (العاملات) بوظيفة جزئية فقط، مقابل 9% فقط من الرجال العرب الذين يعملون بوظيفة جزئية. أما في نسبة التعليم، فليست ثمة فجوة جندرية جدية في المجتمع العربي.
في المجتمع الحريدي، يركز مؤشر اللامساواة الجندرية على الفجوات الجندرية في مجالات العمالة والتشغيل، الأجور والتعليم. ويبدو من معطيات المؤشر أن اللامساواة في هذه المجالات تشهد تراجعاً وتقلصاً خلال السنوات الأخيرة عموماً، وفي السنة الأخيرة خصوصاً. وفي الإجمال، فقد تقلصت اللامساواة في المجتمع الحريدي بنحو 14% منذ بدء إجراء القياسات وإعداد المؤشر.
أما في الضواحي، فقد بينت متابعة معطيات الأجور وشروط التشغيل أن اللامساواة الجندرية في هذه المجالات هي بدرجة منخفضة، نسبياً، نظراً لأن بلدات الضواحي النائية تتميز بتدني متوسط الأجور فيها، من البداية، وهي تقبع في أدنى سلم توزيع المداخيل بين مجمل السكان.
في مجال اللامساواة الجندرية في الضواحي تبين المعطيات تحسناً ملحوظاً بنسبة 8% منذ بدء إجراء القياسات وإعداد المؤشر.
توصيات
تضع معدات "مؤشر اللامساواة الجندرية"، في ختام عرض معطياته، جملة من التوصيات بشأن السياسات والخطوات العملية الواجب اعتمادها في هذا المجال، وتشمل:
1. أثبتت الجهود المبذولة في محاربة وباء الكورونا مدى حيوية المعطيات الجندرية كأساس قاعدي للسياسات التي ينبغي أن تأخذ في الحسبان احتياجات النساء من الفئات الاجتماعية المختلفة. وعلى ذلك، فالمطلوب جمع منهجي للمعطيات الإحصائية الموزعة جندرياً ونشرها في الزمن الحقيقي من جانب جميع السلطات المسؤولة في الدولة، مع التركيز بشكل خاص على المعطيات بشأن العنف الجندري. ومن المطلوب في حالات الطوارئ، كما في الأيام العادية، وضع استراتيجية لتكريس وتعزيز التفكير الجندري في جميع المجالات: إنشاء منظومات تمثيلية مناسبة للنساء من مختلف القطاعات السكانية في مواقع صنع القرار وفي سيرورات دمج الجوانب الجندرية في عملية صنع القرارات، مع الانتباه إلى ضرورة الأخذ في الحسبان احتياجات مجموعات محددة (النساء من الأقليات، النساء بدون مكانة قانونية، النساء ذوات الاحتياجات الخاصة أو الأمهات في العائلات أحادية الوالد).
2. أوضحت أزمة كورونا مدى هشاشة المنجزات المتحققة في مجال المساواة الجندرية. يحتّم الحفاظ على هذه المنجزات، صونها ومنع التراجع عنها، على دولة إسرائيل، كما في الدول الأخرى، التساؤل دائماً عن كيفية تأثير السياسات المعتمدة في محاربة جائحة كورونا على جمهور النساء، ثم محاولة تحديد الجوانب التي ينبغي التشديد عليها بشكل خاص.
3. وضع أهداف عينية لتقليص الفجوات الجندرية في جميع مجالات الحياة ووضع آلية لمتابعة وتقييم التغيرات في هذه الفجوات، على ضوء ما وُضع من أهداف. ينبغي، على سبيل المثال، توسيع التشريعات القانونية القائمة التي توجب التمثيل الجندري المتساوي وتطبيقها على مجالات إضافية أخرى، كما ينبغي تأسيس صناديق خاصة لتقديم مِنح للنساء لدراسة العلوم الدقيقة.
4. إعادة التفكير في التسويات الجندرية التي تميز سوق العمل في إسرائيل بغية العثور على حلول منهجية للتخفيف عن النساء في مهمات الحياة اليومية، بالدمج ما بين العمل والحياة العائلية والمنزلية في الوقت نفسه. فالعمل من المنزل، كما تبين في فترة الكورونا، لا يشكل حلاً لإقامة التوازن ما بين حياة العمل والحياة العائلية، بسبب توزيع عبء الأعمال المنزلية بصورة غير متساوية بين الأمهات والآباء. ينبغي تقليص ساعات العمل الأسبوعية للنساء، كما هو معمول به في الدول الصناعية الأخرى ومنح أماكن العمل محفزات لتشجيع عمالها، من النساء والرجال على حد سواء، على الموازنة بين العمل والعائلة.
5. تكريس السياسات التي تدفع نحو المساواة الجندرية في جهاز التعليم على نحو يؤدي إلى تقليص ظاهرة الفصل الجندري في التعليم والعمل. العدد القليل من النساء والفتيات في مجالات الدراسة التي يتوقع أن يزداد الطلب عليها في سوق العمل مستقبلاً، مثل العلوم الدقيقة، الهندسة وعلوم الحاسوب، إضافة إلى الأزمة التشغيلية المتوقعة بسبب سيرورات الأتمتة المتزايدة، من شأنه أن يعمق الفجوات الجندرية. وعليه، يشكل جهاز التعليم والمؤسسات الأكاديمية المفتاح الأساس لتقليص هذه الفجوات.