المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
هل يقفز يوسي كوهين قريبا من عربة الأمن إلى عربة السياسة؟
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1283
  • نهاد أبو غوش

يبدو العنوان أعلاه غريبا إلى درجة التناقض المطلق، فأين هي الدبلوماسية التي تتطلب أقصى قدر ممكن من الكياسة والحوار واللباقة وحسن الاستماع للآخر وتقدير مصالحه، من أجهزة الاستخبارات، وبخاصة الموساد الإسرائيلي، والتي اشتهرت وعرفت على مستوى العالم، بالاغتيالات، وانتهاك سيادة الدول، واستخدام جوازات السفر الأجنبية في تنفيذ سلسلة الأعمال المروّعة والمخالفة لكل القوانين الدولية والوطنية؟

لقد ترافقت الإعلانات المبكرة عن الاتصالات الإسرائيلية الخليجية مع الإشارات المتكررة، والغريبة فعلا، للدور المركزي الذي لعبه جهاز الموساد الإسرائيلي، وهو هيئة الاستخبارات والمهمات الخاصة، أو وكالة الاستخبارات الإسرائيلية المركزية التي مجال عملها خارج حدود إسرائيل (1)، في ترتيب هذه العلاقات والاتصالات التي توّجت بالاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي، ثم البحريني- الإسرائيلي، ثم اتفاق التطبيع الإسرائيلي- السوداني الذي أعلن عنه البيت الأبيض يوم الجمعة 23 تشرين الأول 2020، والذي تلا قيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإبلاغ الكونغرس نيته رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

هذه الاتفاقات كلها رعتها وأشرفت على تفاصيلها إدارة الرئيس ترامب التي ستستخدمها حتما في دعايتها الانتخابية كأدلة على نجاحاتها الدبلوماسية الباهرة، لكن اللافت في كل هذه التطورات هو الدور الذي لعبه جهاز الموساد، ليس فقط في إخراج الاتفاقيات إلى النور، والإشراف على تفاصيلها الختامية، بل في التمهيد لها، وتطويرها خطوة بعد أخرى على مر السنين، وهو ما يدل إما على طبيعة الاتفاقات والاتصالات السابقة والحالية، أو على الجوهر الفعلي لهذه الاتفاقات في المستقبل.

أسباب الاستغراب

أحد أسباب الاستغراب يعود ببساطة إلى أن عمليات الموساد واتصالاته غالبا ما تحاط بالكتمان الشديد والسرية المطلقة، وهذا منطقي طالما أن المهمات الموكلة للموساد هي "مهمات خاصة" وسرية لأنها ترتبط أساسا بـ"تصفية أعداء إسرائيل"، وجلب من يعتقد أنهم ألحقوا ضررا بالغا بأمن الدولة، أو أمن اليهود، مثل النازي أدولف أيخمان، إلى عدالة دولة إسرائيل، وهو مبدأ شمل أولئك الذين أملى عليهم ضميرهم كشف ما تفعله دولة إسرائيل مثلما فعل مردخاي فعنونو، أو ناشطي وكوادر الفصائل الفلسطينية، وهم كثر إلى درجة لا يتسع المجال لتعدادهم، وقد لاحقهم الموساد بالاغتيالات في عدد كبير من الساحات والعواصم والمدن العالمية ومنها لندن وروما وباريس وأثينا، ودول قبرص والأرجنتين والنرويج، فضلا عن تونس وعمّان وبيروت ودمشق وصولا إلى دبي والسودان الملتحقتين مؤخرا بركب التطبيع، والمفارقة أن الموساد لعب في الحالتين الأخيرتين بالتحديد (الإمارات والسودان) الدور الرئيس في انتهاك سيادة هاتين الدولتين كما في التمهيد للتطبيع.

وجه آخر للغرابة يكمن في أن طبيعة الأدوار المنسوبة مؤخرا للموساد في التمهيد لإقامة العلاقات الدبلوماسية، ليست من اختصاص هذا الجهاز ولا هي ذات طبيعة أمنية، وكان يمكن لجهات أخرى كثيرة إسرائيلية وعربية وأميركية ودولية، حكومات ورجال أعمال، أن يلعبوا أدوارا مفيدة في تنسيق هذه العلاقات وتطويرها بشكل محترف دون الحاجة إلى تدخلات جهاز الاستخبارات الخارجية ذي السمعة الرهيبة، والذي رفعته سرية عملياته وغموضها إلى مصاف الجهاز الخارق، حتى أن كثيرا من العمليات الغامضة والتي أسندت إلى فاعلين مجهولي الهوية، نسبت إلى جهاز الموساد.

الأنوية الأولى لجهاز الموساد تأسست قبل إنشاء دولة إسرائيل، وتحديدا في أواخر الثلاثينيات كذراع تابعة للهاغناه مهمتها الرئيسة تنظيم اليهود وتشجيعهم على الهجرة لإسرائيل. ولعبت هذه المؤسسة لاحقا دورا استخباريا منظما في جمع معلومات عن العالم العربي وعن أوضاع اليهود، وكما يظهر في وثيقة عرضت مؤخرا للبيع في المزاد العلني، وصنفت في وقتها بأنها سرية جدا، فإن الأذرع الاستخبارية للدولة اليهودية الناشئة عملت على توفير محاضر تفصيلية لاجتماعات جامعة الدول العربية، السرية منها بشكل خاص، كما عملت على رصد وتوثيق انتهاكات الأجنحة اليمينية المتطرفة في الحركة الصهيونية ومن بينها، على سبيل المثال، المجازر التي ارتكبتها في صفد، وقرية دير ياسين في القدس (2).

سرية وكتمان

كانت أنوية الموساد تابعة في البداية لوزارة الخارجية والدائرة السياسية فيها، لما يسمى قسم البحوث بالتحديد، لكن دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة الأول، والقائد الإسرائيلي الأبرز قبل وبعد قيام الدولة، كان يدرك الأهمية والطبيعة الخاصة لهذا الجهاز، فسارع إلى فصله نهائيا عن وزارة الخارجية في العام 1951، ليصبح بعد ذلك سلطة استخبارية مستقلة، ومرتبطة برئيس الوزراء.

طوال العقود الأولى من عمر دولة إسرائيل ظل جهاز الموساد محاطا بسرية مطلقة، حتى أن اسم رئيس جهاز ظل سريا وغير معروف إلا على نطاق ضيق جدا، وبقي هذا الأمر ساري المفعول حتى نهاية الألفية الثانية. وعرف الجهاز بعلاقاته القوية، واختراقاته لقوى إقليمية مجاورة للدول العربية أو على خلافات جدية معها، وسعيه الحثيث لتسعير هذه الخلافات مثلما فعل مع الحركات الكردية ضد العراق (3) والتي كان يقودها الملا مصطفى البرزاني، ومع دولة أثيوبيا ضد النفوذ الناصري في أفريقيا. كما تطورت مهام الموساد في بناء علاقات تساعد على تهريب مهاجرين يهود إلى إسرائيل، بشكل مباشر أو عبر وسطاء ومتعاونين، وكثيرة هي الدراسات والشهادات، والاعترافات، التي تؤكد ضلوع الموساد والأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية بشكل عام في افتعال أحداث وقلاقل وحتى القيام بأعمال تفجيرية وتخريبية، تحديدا في العراق ومصر، لإرغام اليهود، إن لم يوافقوا طواعية، على الهجرة لإسرائيل.

كوهين: النجم الصاعد

شيئا فشيئا تطورت مشاركة الجهاز في الحياة العامة الإسرائيلية، وقد بذلت جهود كبيرة من أجل إعادة تقديمه للجمهور بصورة ملطفة، حيث بات هذا الجهاز يملك الآن موقعا إلكترونيا، وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى يُخيّل للمشاهد الذي يرى إعلانات تدعو لتحفيز الشباب والشابات، وتطوير مستقبلهم المهني، أنه يتابع شركة للعلاقات العامة أو معهدا للتنمية البشرية.

أما الرئيس الحالي لجهاز الموساد، يوسي كوهين، المعروف باسم عارض الأزياء ("دوغمان") نظرا لعنايته المفرطة بشكله الخارجي وأناقته وملابسه، فيبدو أنه تجاوز كل من سبقوه سواء في النواحي الشكلية والاستعراضية مثل التقاطه الصور وكأنه نجم من نجوم السينما مع ملكة جمال العراق السابقة، أو في مهامه وأدواره الإشكالية، ومن بينها اختيار بنيامين نتنياهو له كرسول خاص لنقل رسائل للزعماء ومنهم زعيم الحرب السوداني الجنرال الإشكالي حمدان دقلو المعروف بحميدتي (4)، ومحاولات كوهين ترتيب لقاء مع خالد مشعل، الرئيس السابق لحركة حماس، خلال زيارة سرية قام بها لقطر، وصولا لتصريحاته الصحافية المثيرة للجدل بشأن قرب انضمام دول عربية أخرى لقطار التطبيع، وعدم استبعاده المشاركة في الحياة السياسية، بل إن البعض(5) رشحه لأن يكون رئيس الحكومة القادم.

على حساب الخارجية

أظهرت مصادر ومراكز سياسية إسرائيلية متعددة دهشتها وتبرمها من الدور المتزايد لجهاز الموساد ولرئيسه، وخاصة لجهة تهميش دور وزارة الخارجية والجهات الأخرى الصديقة لإسرائيل في شأن هو من صميم اختصاص وزارة الخارجية. وحرص مدير عام وزارة الخارجية ألون أوشفيز على التذكير بزملائه سواء الحاليين أو الذين سبقوهم في التمهيد والتأسيس لهذه الإنجازات، وقال في مقال صحافي "الإنجازات الكبرى اليوم هي ثمرة عمل مهم للدبلوماسية الإسرائيلية، فعلى مدى أكثر من عقدين عملنا دوما وبتواضع في دول الخليج، كي نعد التربة لهذا اليوم. أقمنا علاقات سياسية واقتصادية وبنينا الجسور، بما في ذلك في الشبكات الاجتماعية". لا بل هو ينسب الفضل لأصحابه فيقر بالدور الحاسم للرئيس الأميركي في هذا المجال "لا يمكن، ويحظر التقليل من أهمية الدور الحاسم الذي أداه ويواصل أداءه الرئيس ترامب، والإدارة الأميركية في إنجازات الأشهر الأخيرة. حلف استراتيجي بكل معنى الكلمة، تستثمر فيه الولايات المتحدة إمكانيات هائلة لمصلحة إسرائيل"(5).

لكن كوهين، وكمن يحرص فعلا على عدم إثارة خصومه ومنافسيه في هذه المرحلة، يقر بدور الآخرين في تحقيق هذه الإنجازات، ويقول في المقابلة المشار لها إن جهودا طويلة ومضنية بذلت على مر السنين في تحقيق هذه الإنجازات.

نتنياهو أولا

ولكن يبقى السؤال الشائك قائما، لماذا الموساد، وليس الأذرع المدنية المختلفة، هي التي تتابع هذه الملفات، خاصة وأن تولّي هذه المسؤوليات وتمثيل دولة إسرائيل بشأنها، لا يمكن أن يكون بناء على رغبات ذاتية لهذا أو ذاك من المسؤولين، بل هي تأتي بناء على تكليف مباشر من رئيس الحكومة؟

وفي محاولة الإجابة على هذا السؤال تجدر أولا ملاحظة حالة الائتلاف الحاكم الآن، وغياب الثقة بين الشريكين الرئيسيين، الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو، وحزب "أزرق أبيض" برئاسة بيني غانتس ووزير الخارجية غابي أشكنازي، الذي لولا الأصول البروتوكولية، لغيّبه نتنياهو عن كل مراسم التوقيع والاحتفال باتفاقيات التطبيع، لكي يحتكر المجد وهالة الإنجازات له أولا، ولكي يحرم شريك الضرورة من أي فرصة ولو شكلية لتسجيل نقاط في رصيده.

نتنياهو إذن لا يثق بوزير الخارجية أشكنازي ولا بجهاز الوزارة، وهذا الأمر لم يبتدعه نتنياهو في موضوع اتصالات التطبيع السرية فقط، بل هو ينطبق على موقفه من العديد من مؤسسات الحكم في إسرائيل والتي سبق له أن تصادم مع كثير منها، فمسيرته خلال 11 عاما متتالية من حكمه اعتمدت على مكانته كزعيم فرد، وعلى أعوانه الذين يحيطون به، وليس على المؤسسة سواء كانت حزب الليكود الذي يقوده، أو الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وفي هذا المجال الذي نتحدث عنه، يريد نتنياهو أشخاصا موثوقين، موالين له شخصيا، كتومين ولا يثرثرون كثيرا، وهي صفات اجتمعت كلها في شخص عارض الأزياء ووظيفته.

ولا يمكن فصل طبيعة الدور الذي لعبه الموساد في ترتيب هذه العلاقات عن تاريخ هذه العلاقات، ومضمونها، فكل الإشارات والشهادات تؤكد أنها علاقات قديمة، نمت وتطورت على مدى السنوات من خلال "المصالح المشتركة". فأي دور وأية مصالح مشتركة يمكن تصورها بين دول ليست متجاورة ولا هي في حالة حرب، ولا تقيم علاقات دبلوماسية ولا تجارية بينها، سوى الدور الأمني وتبادل المعلومات الاستخبارية، أي المجال الذي يتخصص فيه جهاز الموساد؟

كما لا يمكن تخيل مستقبل العلاقات التطبيعية هذه، والاكتشاف المفاجئ لرغبة إسرائيل في السلام، بمعزل عن المضمون الأمني لمستقبل هذه العلاقات وبالتحديد التعاون الأمني والاستخباري، والاستخدامات التكنولوجية الحديثة في هذا المجال التي برعت فيها إسرائيل، فضلا عن الحديث المتزايد عن بناء حلف جديد تتشارك فيه الدول المعتدلة وإسرائيل في مواجهة إيران وحلفائها وهو مجال أمني بامتياز، وجهاز الموساد هو الناطق الرسمي باسم إسرائيل فيه.

الموساد يبقى الموساد

هل يسعى الموساد أيضا إلى تلميع صورته ومحو الصورة الفظيعة التي كرسها في أذهان العالم؟ مؤكد أن هذا يحدث، وأن الجهاز يسعى دائما إلى تطوير فعالياته واستخدام وسائل التقنية الحديثة والإعلام الاجتماعي، والدعاية والعلاقات العامة، فهي في المحصلة أدوات لكسب الأنصار ولكسب المعلومات أيضا، لكن هذا الهدف لا يمكن له أن يعلو على الأهداف التي شكل الجهاز من أجلها، فعمليات الاغتيال والقتل خارج نطاق القوانين الوطنية والدولية، وانتهاك سيادة الدول، كلها عمليات جرت أيضا في عهد الرئيس الحالي للجهاز، الرجل الذي يحرص على أناقته ويوزع الابتسامات في كل مناسبة، ولكنه قطعا لم يتخل، ولا يمكن توقع أنه سوف يتخلى عن توزيع رجاله ونسائه لتنفيذ مهام على غرار العمليات الفظيعة التي راح ضحيتها من الأبرياء المحايدين أكثر بكثير من الأهداف المرصودة.

أما عن المستقبل السياسي ليوسي كوهين واحتمالات انضمامه للحياة السياسية وفرصه في رئاسة حكومة مستقبلية، فيبدو هذا الاحتمال واقعيا مع الدمار الذي ألحقه نتنياهو بالمؤسسات السياسية التي تنجب القادة، وتحديدا حزب الليكود الذي بات يخلو من الزعماء الجديين الذين تولى نتنياهو تصفيتهم وتهميشهم واحدا بعد الآخر، وبات الحزب وصفوته القيادية، تكاد تقتصر على أعوان نتنياهو ومؤيديه، ومع الجنوح المتزايد لإسرائيل نحو اليمين واليمين المتطرف، بات الجيش ومؤسسات الأمن المعاهد الرئيسة لتخريج القادة المستقبليين، وبالتالي فإن فرص كوهين تبدو جدية طالما أنه حاليا لا ينافس نتنياهو على شيء.
هوامش:
(1) موسوعة المصطلحات، موقع مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.
(2) موقع walla.co.il 15 نيسان 2020
(3) العربي الجديد 21 آب 2020
(4) اعترافات الضابط إليعازر تسفرير عن عمله مع الأكراد، مقابلة مع i24 بتاريخ 12/3/2018
(5) حاييم تومر، ضابط كبير سابق في مقابلة مع بن كسبيت لإذاعة 103 إف إم بتاريخ 6/7/2020، ونشرها موقع سيروغيم
(6) ألون أوشفيز مدير عام وزارة الخارجية، مقال في معاريف، 21/10/2020

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات