شكل قرار المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فاتو بنسودا، كما نشرته يوم الجمعة الأخير، تطوراً غير مسبوق وعلى درجة عالية من الأهمية والخطورة في تاريخ الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، من حيث أنه يطلق الطلقة الأولى في مسار من المرجح أن يؤدي، في نهاية المطاف، إلى التحقيق في ارتكاب دولة إسرائيل جرائم حرب ضد أبناء الشعب الفلسطيني في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 1967 ـ الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة.
بقرارها هذا، أطلقت المدعية العامة صافرة العد التنازلي للـ 120 يوماً القادمة التي ستكون القضية، خلالها، معركة قضائية دولية هي الأبرز والأكثر أهمية وخطورة التي تواجهها إسرائيل على جبهة احتلالها لفلسطين، ليس منذ احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 67 فقط، وإنما منذ بدء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني كله. في هذه المعركة، سيحاول الطرف الفلسطيني إقناع قضاة المحكمة الدولية بصحة وأحقية إسناد قرار المدعية العامة وإتاحة الشروع في إجراء تحقيق جنائي ضد دولة إسرائيل؛ بينما سيحاول الطرف الإسرائيلي إقناع القضاة بالإقرار بأن المحكمة لا تملك صلاحية النظر في هذا الشكاوى وبأن القرار الصحيح الوحيد هو إغلاق الملف نهائياً. ومن الواضح أن دولاً أخرى ستحاول التدخل والتأثير على قضاة المحكمة الدولية وقرارهم، في مقدمتها طبعا الولايات المتحدة ودول أوروبية مختلفة.
وإن مجرد حصول المعركة يضع دولة إسرائيل وحكومتها، أياً كانت تشكيلتها القادمة وأيا كانت مركباتها السياسية ـ الحزبية، في ورطة تتمثل في اضطرارها إلى الاختيار: إما المشاركة في إجراءات المحكمة ـ إذا ما تقرر إجراء التحقيق وعند بدئه ـ كطرف مدعى عليه، بما يمنح المحكمة الشرعية التي دأبت إسرائيل على إنكارها ونزعها عنها حتى الآن، وإما مقاطعة هذه الإجراءات بما يتيح المجال أمام حصول تطورات لا تحمد عقباها بالنسبة لإسرائيل، دولة وقيادات. خياران أحلاهما مرّ. (ثمة خيار ثالث هو استخدام محامين خصوصيين لا يمثلون دولة إسرائيل بصورة رسمية، للظهور أمام هيئات المحكمة وقضاتها، لكنه يشكل اعترافا واضحا، وإن يكن غير مباشر، بالمحكمة وصلاحياتها).
لكن، إذا ما استقر القرار في ختام مهلة الـ 120 يوماً على إجراء تحقيق جنائي، بمعنى إقرار صلاحية المحكمة الجنائية الدولية في هذا الصدد، فسيكون الأمر بمثابة "هزة أرضية"، كما وصفها أحد المحللين الإسرائيليين، "تضع دولة إسرائيل في مواجهة تسونامي سياسي وقضائي غير مسبوق"، يشمل، من ضمن ما يشمله، تحقيقات جنائية مع مسؤولين رسميين إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، حاليين وسابقين، وإصدار مذكرات اعتقال بحق أرفع المسؤولين، السياسيين والعسكريين، الإسرائيليين.
سؤالان مركزيان أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية
كي يتوصل قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى قرارهم الذي يقدم رأيهم القضائي، كما طلبته منهم المدعية العامة للمحكمة، سوف يتعين عليهم النظر في جملة من الأسئلة والإجابة عليها، قبل أن يخلصوا إلى استنتاجهم النهائي: هل للمحكمة الجنائية الدولية صلاحية للنظر في الشكاوى الفلسطينية بشأن جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل ضد أبناء الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة منذ العام 1967؟ وفي مقدمة هذه الأسئلة اثنان مركزيان هما:
السؤال الأول هو: هل هنالك دولة فلسطينية؟ وإن كانت ثمة دولة فلسطينية، فما هي المناطق الخاضعة لسيطرتها ومسؤوليتها؟ وهو السؤال الأول والمركزي لأن هذه المحكمة، وفق دستورها، مخولة صلاحية النظر فقط في الجرائم التي ارتُكبت في داخل حدود دولة عضو في "ميثاق روما"، انضمت إليه بالتوقيع عليه. في الإجابة على هذا السؤال، يجري فحص ما إذا كان مصطلح "دولة" المستخدَم في سياق العضوية في "ميثاق روما" وما يشتق منه بشأن صلاحية المحكمة، مطابق لمصطلح "دولة" المستخدَم في السياق الأوسع، الخاص بالقانون الدولي عموماً.
ثمة لهذا الفحص أوجه متعددة ومعايير قانونية مختلفة، لا يمكن التكهن بتلك التي سيختارها قضاة المحكمة وبالوجهة التي سيسيرون فيها خلال فحصهم هذا.
وبناء على هذا الفحص، يُنظر ويُحسم في وضعية "دولة فلسطين" ومكانتها ـ هل هي "دولة" حقاً، أم لا؟
السؤال الثاني هو: ما هو مصدر الصلاحيات الجوهرية المخولة للمحكمة الجنائية الدولية؟ تنبع أهمية هذا السؤال من الادعاء الإسرائيلي بأن صلاحية المحكمة مستمدة من الدول الأعضاء فيها (في المحكمة)، فقط لا غير. غير أن المحكمة قد تنحو منحى آخر تماماً، كما حصل في مرات وتجارب سابقة، في جوهره أن مصدر صلاحياتها الأساسي هو المجتمع الدولي ومصلحته الحيوية في منع ارتكاب جرائم ضده وضد البشرية، كما هو وارد في مقدمة "ميثاق روما" نفسه، وكذلك مجلس الأمن الدولي المخول صلاحية توكيل المحكمة الجنائية الدولية بمهمات تحقيق جنائية دولية.
صحيح أن سؤال صلاحية المحكمة هو سؤال تمهيدي، لكن من الصعب تخيل وضع تسلم فيه الممارسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية من البحث والتمحيص بعدما أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية أنها قد اتخذت قرارها بوجود أساس يتطلب ويتيح التحقيق في جرائم حرب إسرائيلية محتملة وبعد أن تحسم المحكم الدولية في سؤال صلاحيتها للنظر في هذا الموضوع. ويصبح هذا الاحتمال أكثر ترجيحاً بالنظر إلى المراوغات الإسرائيلية المتواصلة التي تتكرر لدى "تحقيقها" هي في الشبهات والاتهامات بشأن ارتكاب جنودها جرائم حرب ضد الفلسطينيين. ذلك أن أحد الشروط الأساسية لانتقال التحقيق في مثل هذه الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية هو عدم معالجة الدولة المعنية هذه الشكاوى وعدم التحقيق فيها من خلال سلطاتها وأذرعها الخاصة المسؤولة عن تطبيق القانون. وهنا، يعرف العالم كله أن إسرائيل لم تحقق في الغالبية الساحقة من هذه الشبهات والاتهامات والشكاوى، بينما كانت تحقيقاتها في الجزء الآخر (الأقلية القليلة) سطحية وغير متعمقة ولم تنته بإنزال عقوبات مناسبة بالجناة والمجرمين. وقد كانت آخر هذه الجرائم مهزلة "محاكمة" الجندي القاتل إليئور أزاريا وما رافقها من دوس ليس للحق الفلسطيني فقط، بل ولأحكام القوانين الإسرائيلية ذاتها، ناهيك عن حملة التأييد الواسعة جدا التي نظمت لدعمه، وكان في مركزها قادة سياسيون وعسكريون رسميون كبار.
موقف المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية
تتمثل زبدة الرأي الذي وضعه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، أفيحاي مندلبليت، والذي قًدّم إلى مكتب المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية منذ ما يزيد عن سنة، في نفي أية صلاحية للمحكمة الدولية للنظر في شكاوى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد إسرائيل. ويقوم هذا الرأي على الادعاء بأن "فلسطين ليست دولة والخلافات بين الطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني) ينبغي أن يتم حلها في إطار مفاوضات سياسية، وليس ضمن إجراء جنائي". ويتهم هذا الرأي الجانب الفلسطيني بأنه "يريد، من خلال التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، اختراق وتفكيك الإطار المتفق عليه بين الطرفين، ثم دفع المحكمة الدولية نحو الحسم في أسئلة سياسية ينبغي توضيحها في إطار المفاوضات المباشرة.... وليس لهذا الغرض تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وهي لا تمتلك الصلاحية القانونية لمعالجة هذه القضايا، خصوصاً وبالتأكيد في غياب موافقة من كلا الطرفين".
ويضيف الموقف الإسرائيلي الرسمي هذا أن "انضمام الفلسطينيين إلى دستور روما لم يكن سوى إجراء تقني فقط لا يكفي لإقرار مكانة فلسطين كدولة، ولذا فليست للمحكمة الجنائية الدولية صلاحية النظر في الموضوع الفلسطيني". ثم: "الفلسطينيون ليسوا دولة سيادية، لأنهم لا يسيطرون بصورة ناجعة في المنطقة. ولا يستطيع الفلسطينيون الادعاء بأنهم تحت احتلال إسرائيلي، من جهة، والادعاء بأنهم دولة يسيطرون على المنطقة، من جهة أخرى، في الوقت نفسه. عليهم أن يختاروا وأن يقرروا: هل هم تحت احتلال، أم هم دولة؟"!!
وتدعي الوثيقة الإسرائيلية، أيضاً، بأن الفلسطينيين لا يمتلكون أية صلاحية جنائية في مناطق "سي"، في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية، وليست لديهم ـ أيضا ـ صلاحية جنائية على إسرائيل في الضفة الغربية، ولذا فهم لا يستطيعون تخويل هذه الصلاحية ـ غير الموجودة ـ للمحكمة الدولية. وعلاوة على هذا، تدعي بأن الفلسطينيين "يطلبون من المحكمة الدولية التدخل في تحديد مناطق دولتهم، وهو إجراء سياسي لا قضائي، ليس من صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية التدخل فيه".
يذكر أن إسرائيل لم تصادق، حتى الآن، على "ميثاق روما" الذي وضع الأسس لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لتذرعها بـ"مخاوف جدية وحقيقية من أن يجري استغلال هذه المحكمة الدولية كأداة سياسية دون أن تؤدي مهماتها وأهدافها التي أنشئت من أجلها"! لكن الحقيقة أن السبب الرئيسي الذي ترفض إسرائيل جراءه الانضمام إلى هذا الميثاق، رغم توقيعها عليه (وقعت عليه لكنها لم تقرّه ولم تجعله ساري المفعول) هو الحظر الذي يفرضه هذا الميثاق على دولة احتلال في كل ما يتعلق بتوطين/ إسكان سكان من مواطنيها في المناطق الخاضعة لاحتلالها.