في أعقاب قيامها العام 1948، جلبت إسرائيل إليها معظم اليهود من الدول العربية، وأصبحوا يعرفون بـ"الشرقيين". وسعت المؤسسة الحاكمة، التي يسيطر عليها الأشكناز، أي اليهود من أصول غربية وخاصة من أوروبا الشرقية، إلى طمس الثقافة العربية للمهاجرين الشرقيين الجدد إليها ومنعهم من استخدام اللغة العربية، من أجل أن تزرع فيهم روح "اليهودي الجديد"، الإسرائيلي، وغرس الأفكار الصهيونية لديهم.
لكن الشعور السائد لدى الشرقيين من عمليات أسرلتهم وصهينتهم هو أن نظرة الأشكناز كانت دائما استعلائية، وأنه يتم التنكيل بهم، كما أن الشرقيين لم يحصلوا على وظائف كبيرة، وأن الرواية التاريخية الإسرائيلية الأشكنازية تهيمن عليهم وتهمشهم، بل وتتعامل معهم بعنصرية، لمجرد أنهم شرقيون. وأدى هذا الشعور في مراحل مبكرة إلى انتفاض الشرقيين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
لكن التحول المهم في حياة الشرقيين بدأ في بداية النصف الثاني من التسعينيات، وخصوصا في أعقاب تأسيس "القوس الديمقراطي الشرقي"، الذي وضع هدفا أمامه هو التأثير على الأجندة العامة وإحداث تغيير شامل للمجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، وحتى تأسيس "دولة جميع مواطنيها".
وقد صدر مؤخرا كتاب بعنوان "الرواية الشرقية الجديدة في إسرائيل" من تأليف الباحث والمحاضر في جامعة حيفا، الدكتور أرييه كيزل. ويتناول بحث كيزل تطور رواية الشرقيين، وبشكل خاص الرواية الشرقية الجديدة، تلك التي كان "القوس الديمقراطي الشرقي"، بين أبرز المبادرين إليها. ويتناول بحث كيزل الرواية الجديدة من وجهة نظر نقدية كونها تضع تحديا أمام إسرائيل وتطالب بتغيير كافة التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الإسرائيلية، والأهم من ذلك أن هذه الرواية الجديدة تطالب بمحاكمة الماضي وإعادة كتابة التاريخ، ومناهج التعليم، من جديد وبشكل يخلو من الهيمنة الأشكنازية.
ويستعرض كيزل في بحثه ثلاثة مراحل للصراع بين الرواية الشرقية وتلك الأشكنازية. أولا، محاكمة "الرواية التاريخية الاستعمارية الصهيونية"؛ ثانيا، كتابة التاريخ مجددا؛ وثالثا، تأسيس هوية عربية – شرقية منفصلة عن الهيمنة الأشكنازية، التي تعرفها الرواية الشرقية الجديدة بأنها عنيفة ومحتلة ضد اليهود والعرب وغازية وغريبة عن الحيز الشرقي غير الأوروبي.
المراحل المبكرة للرواية الشرقية
يدور في إسرائيل، منذ تأسيسها وتشكيل مجتمعها، صراع نشط بين روايات تاريخية ترمي إلى بلورة الهوية والذاكرة الجماعية والسيطرة عليها بواسطة عدة أدوات من بينها مناهج التعليم، وخاصة من خلال إشراف مركزي على هذه المناهج وتدريسها. ويؤكد كيزل أن المشروع الصهيوني لم يتسبب فقط بصراع مقابل الآخر غير الصهيوني وغير اليهودي، وإنما نتج عنه صراع داخل حدوده. وخلال هذا الصراع بين الروايات، التي "تمثل توجهات مجموعات تنتج ذاكرة جماعية بديلة، يتم نسخ ونقل وعي مجموعات اجتماعية، من خلال وسائل تضليل هدفها ضمان السيطرة المطلقة للرواية المنتصرة والحفاظ على مكانتها المهيمنة".
وبرزت الرواية الصهيونية المهيمنة، التي تأسست من خلال المسعى إلى بلورة "اليهودي الجديد"، في العقود الأولى لقيام إسرائيل، التي تعتبر سنوات ازدهار "ثقافة الصابرا الإسرائيلية". وتطلعت النخب، الأشكنازية بغالبيتها، إلى صنع صيغة يهودية للدولة القومية ويكون فيها تطابق بين الحكم والأرض ومبنى ثقافي وطني، من خلال سيطرة مركزية على الذاكرة الجماعية. وقد جرى بناء هذه الذاكرة من عناصر بارزة متمركزة حول الرواية الأشكنازية ومن خلال استخدام جهاز التعليم السلطوي، وبضمن ذلك مناهج تعليم موحدة في موضوع التاريخ "ورهن فصول التاريخ العام التي يتم تدريسها بالرواية الصهيونية" ومن خلال إشراف متشدد على هذه المناهج.
وأشار كيزل إلى دراسات لباحثين أشكناز، أكدوا أن وضع الشرقيين كمواطنين من الدرجة الثانية انعكس بتعريفهم كـ"طوائف". وتطلعت الرواية الصهيونية إلى إلغاء "حالة الشتات" في المجتمع الإسرائيلي من خلال نفيها المطلق، وتأسيس نفسها على كون اليهود هم "الشعب المختار"، وتجديد اللغة العبرية وإنتاج هوية علمانية لحركة تحرر قومي "وبناء ديانة جديدة، هي الديانة الصهيونية".
وأضاف كيزل أنه خلال تحويل الرواية الصهيونية إلى مشروع قومي إقليمي وثقافي، جرى تنفيذ خطوات تربوية في إطار سياسة "بوتقة الصهر"، وتم تبريرها على أنها جزء من عملية بناء أمة جديدة. وشملت هذه الخطوات استيعاب "المناسب" وإقصاء كل ما هو "بحاجة إلى تحسين" وسلسلة خطوات تفضيل وتمييز مكشوفة وخفية، وكان بضمنها خطوات ضد الشرقيين. وبهذا الشكل جرى وضع مناهج تعليم رسمية اتسمت بأنها ذات طابع أوروبي بالأساس، ومنحت مكانا صغيرا جدا لثقافة يهود الشرق، وبرز فيها نموذج الصابرا على أنه النموذج المطلوب لصورة اليهودي الجديد، أي الإسرائيلي.
وأدت هذه الممارسات السلطوية – الأشكنازية إلى رد فعل من جانب الشرقيين. ويوجز كيزل علامات في طريق النضال الشرقي القديم، وكان أولها في العقد الأول بعد قيام إسرائيل وتميز "بالانتقال من الصدمة إلى الاحتجاج"، وسياسة انعدام المساواة الاقتصادي – الاجتماعي، وبردود فعل سياسية واحتجاجات مبكرة وتمرد وادي الصليب في حيفا والذي مثّل بداية النضال المنظم.
بعد ذلك جاء الانتقال من "بوتقة الصهر" إلى "وعاء ضغط اجتماعي"، والنضال قبل ظهور "الفهود السود"، في العام 1971، والانتقال إلى مرحلة السياسة الحزبية حتى العام 1977، وهو العام الذي حصل فيه الانقلاب في إسرائيل بصعود حزب الليكود لأول مرة إلى الحكم بتأييد واسع من الشرقيين، وكان تصويت الشرقيين في انتخابات هذا العام ضد المؤسسة التي كان يسيطر عليها "المعراخ" الذي أصبح يعرف لاحقا بحزب العمل، هو تصويت انتقامي ضد حزب "مباي"، التسمية السابقة لهذين الحزبين. والمحطة التالية في نضال الشرقيين كانت "حركة الخيام"، ثم فترة "الوعي الراديكالي"، من العام 1981 وحتى العام 2003، وأبرز علامات هذه الفترة هي "تمرد صناديق الاقتراع"، ودور دافيد ليفي، القيادي الليكودي الذي تولى لاحقا منصب وزير الخارجية، ثم إقامة حزب "تامي" برئاسة أهارون أبو حتصيرا، وتأسيس حزب شاس في العام 1984، ولحق ذلك الخطاب الشرقي الجديد وحتى تأسيس "القوس الديمقراطي الشرقي"، الذي يوصف سوية مع هيئات أخرى، بـ"الشرقيين الجدد".
والجدير بالإشارة أنه في معظم مراحل هذه الفترة لم يخرج النضال الشرقي القديم ضد الصهيونية باعتبارها "حركة التحرر للشعب اليهودي" أو ضد "شرعية الطابع اليهودي للدولة". وإنما طالب هذا النضال بالمساواة في ظروف المواطنة بين الشرقيين والأشكناز.
الرواية الشرقية الجديدة
في محاولة لوضع نظرية معرفة حول اليهودية الشرقية في إسرائيل، عقد منتدى دراسات المجتمع والثقافة في إسرائيل، التابع لمعهد فان لير في القدس، في كانون الأول من العام 1999، مؤتمرا بمشاركة واسعة. وسعى المنتدى إلى إجراء مواجهة معرفية أكاديمية من مناهج مختلفة مع المواقف النقدية التي تعالت ونشأت في الميدان الثقافي والسياسي في إسرائيل حول "اليهودية الشرقية في إسرائيل". وقد عُقد هذا المؤتمر بعد أكثر من سنتين على تشكيل "القوس الديمقراطي الشرقي"، الذي تأسس في تل أبيب في 6 آذار العام 1997، بمشاركة أكثر من 300 شخص من كافة أطياف القوس السياسي.
ورسم هذا المؤتمر هدف الأنشطة التي ستبلور الرواية الشرقية الجديدة، وفي صلبها بالأساس خطاب مثقف وأكاديمي يكون مدعوما بأنشطة قانونية وبالمثول في منابر إعلامية في إسرائيل والعالم. وتعين على هذا الخطاب أن يشكل تحديا لجهاز التربية والتعليم الإسرائيلي بمفهومه الواسع، وليس لجهاز التعليم الرسمي فقط، من خلال طرح أسئلة حول الهوية الطائفية والمدنية والقومية. وكان الاتجاه بين المتحاورين تفكيك الازدواجية السائدة بين النظرية والممارسة، وبين الخطاب العام والخطاب الأكاديمي، وبين النشاط السياسي والنشاط الموضوعي – المحايد وبين إنتاج المعرفة واستهلاكها.
وخلال بناء الرواية الشرقية الجديدة، تطورت اتجاهات أخرى، التي نظرت إليها بمعزل عن الرواية الصهيونية – الأشكنازية وتفرّق في إمكانية كتابة تاريخ شرقي بديل. وسعت هذه الاتجاهات الأخرى إلى ربط يهودية اسبانيا، بكل مناحي حياتها الواسعة، في الدول العربية وأوروبا، بهذه الرواية، من الناحيتين التاريخية والدينية. وأشار كيزل إلى أنه تؤيد هذه الاتجاهات، على سبيل المثال، جهات مثل حركة شاس الحريدية، ومبادرة "كيدما" وهي حركة علمانية بالأساس.
لكن كيزل اختار ألا يتناول هذه الاتجاهات في بحثه، وإنما تناول الاتجاه الذي ينظر إلى الرواية الشرقية الجديدة على أنها منتزعة من "بوتقة الصهر" الصهيونية التي تعتبرها بوتقة عنيفة. ووفقا لهذا الاتجاه، فإنه ينبغي كتابة تاريخ اليهودية الشرقية، أو العربية – اليهودية، والكفاح من أجل وجود هذه الرواية، من الناحية السياسية ومن نواح أخرى أيضا، والتي تضعها في مركز المجتمع وتنسجها داخل أحد نماذج التعددية الثقافية. وترى جميع الاتجاهات النضال في أساسها، ولكنها تختلف عن بعضها بالتعامل مع طبيعة النضال وإمكانيات إحداث شراكة في الرواية في المجتمع الإسرائيلي – اليهودي، أو بين أجزاء المجتمع اليهودية وغير اليهودية في إسرائيل اليهودية.
ورأى كيزل أن الرواية الشرقية الجديدة تشكل، منذ بداية النقاش حولها، انعطافا حيال النضال الشرقي في إسرائيل، وذلك بسبب طبيعته وأهدافه المعلنة والأساليب المستخدمة من أجل تحقيقها، وبالأساس بسبب التغيير الجذري في فرضياته الأساسية وطبيعة النظرة إلى الواقع الإسرائيلي وإلى الرواية الصهيونية وممثليها، وكذلك بسبب مناهضتها بصورة تقوض المفهوم تلقائيا ويتطلب تغييرا.
وأضاف الباحث أن هذه الرواية الشرقية الجديدة تضع أمام الصهيونية الإسرائيلية الراهنة التحديات الفلسفية والتربوية الأكثر مركزية وبضمنها تخفيف الطابع الصهيوني – الأوروبي إلى حد إلغاء الطابع الصهيوني لإسرائيل. وترى هذه الرواية أنه ينبغي الانتقال إلى نموذج دولة ومجتمع متعدد الثقافات، وإلى دولة جميع مواطنيها من دون أي تفضيل للجمهور اليهودي من الناحيتين القومية والمدنية. كذلك تطالب هذه الرواية بإدخال تغييرات واسعة إلى مضامين التعليم بحيث تتوقف عن كونها أوروبية التمركز، وإنما عليها أن تعترف باليهودية الشرقية كإمكانية مواطنة جديدة مرتبطة بالحيز الشرق أوسطي ومن خلال التضامن المدني مع الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل.
واعتبر كيزل أن الرواية الشرقية الجديدة تسعى منذ التسعينيات إلى صنع "يهودية شرقية جديدة تعمل من أجل إضعاف القوة المطلقة والمهيمنة للرواية العليا الصهيونية كقصة مهيمنة. وهدفها هو نزع شرعية متواصلة لما يسميه واضعو الرواية، وعلى رأسهم إيلا شوحط، بأنه الأجهزة القمعية للرواية العليا". والدكتورة شوحط هي باحثة في ثقافة الشرق الأوسط وتعمل في الولايات المتحدة.
ووفقا لكيزل فإن شوحط تبحث في كتاباتها التأريخ الصهيوني من منظور استشراقي، وتبحث في قضية الهوية الشرقية من وجهة نظر التعددية الثقافية، ومن خلال نقد نسوي واستنادا إلى النظرية ما بعد الكولونيالية، وتركز بشكل خاص على نسخ العلاقات القمعية الكولونيالية وما بعد الكولونيالية القائمة بين العالم الأول والعالم الثالث ونقل هذه العلاقات إلى الواقع في إسرائيل. وتنطلق شوحط في كتابها "ذاكرات ممنوعة: نحو فكر متعدد الثقافات"، الذي صدر في العام 2001، من أنه "يكمن في الاعتراف بإنقاذ الشرقيين وسلب ثقافتهم – في دولة يهودية تتفاخر بديمقراطية متساوية – لائحة اتهام ضد الصهيونية والمؤسسة الإسرائيلية على أنها قمعية تجاه جميع سكان الشرق". وهي تضع ثلاثة أمور تشكل أساسا للرواية، وهي: محاسبة الماضي، بمعنى إجراء محاكمة تاريخية "للصهيونية الكولونيالية"؛ كتابة تاريخ جديد وشرقي خالص؛ إنتاج هوية يهودية شرقية – عربية منعزلة عن الهوية الأشكنازية التي تعرفها بأنها صهيونية.