المواقف القائلة إنّ العديد من القضايا والمشاكل الجدية تتفاعل وتتضخّم خلف صخب الصدام السياسي في إسرائيل، ما بين الحكومة ومعارضي خطواتها الموصوفة بالانقلاب على الحكم، تتخذ تجليات ملموسة في مسائل الصحة ومجمل الحقوق الصحية. وتكشّفت مؤخراً معطيات، وصفتها لجنة الصحة التابعة للكنيست بأنها مقلقة، وتخصّ معدل إشغال الأسرّة في أقسام الأمراض الباطنية في المستشفيات في أنحاء البلاد. وقد بلغت في مستشفى بيلينسون الواقع بين تل أبيب وبيتح تكفا 133%، وفي هداسا الواقع في القدس بلغت النسبة 114%.
وكشفت بيانات جديدة، جاءت ضمن تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، عن صعوبة وضع النظام الصحي في إسرائيل، الذي يشهد نقصا في الأطباء بحسب التقرير. ويبدو من معدلات إشغال الأسرّة في الأقسام الباطنية في المستشفيات، أنه لا يوجد عدد كافٍ من الأطباء للأقسام الأخرى؛ لذلك غالباً ما يتم وضع المرضى في الأقسام الباطنية، بسبب نقص الأسرّة، والطواقم الطبية. وأوضحت معطيات التقرير بلوغ معدلات إشغال الأسرّة في الأقسام الباطنية للمستشفيات في إسرائيل، أكثر من 100% في معظم المستشفيات.
هذه المعطيات وغيرها، التي وضعتها وزارة الصحة على طاولة لجنة الصحة بموجب طلب الأخيرة، تُبيّن أن هناك وضعاً مكرّساً للاكتظاظ في بعض الأقسام المركزية والحيوية. ففي يوم انعقاد اللجنة مطلع الشهر سجّل قسم الأمراض الباطنية في مستشفى بيلينسون إشغالا بنسبة تزيد عن 133% في الأسرة، بعد أن كانت نسبة الإشغال في اليوم الذي سبقه قد وصلت إلى 141%. واتضح أنه بشكل عام كانت نسب إشغال الأسرة في هذا المستشفى خلال الأسبوع السابق للاجتماع متشابهة ولم تنخفض عن 112%. أما في قسم الأمراض الباطنية في مستشفى هداسا في القدس فإن نسبة إشغال الأسرة بلغت 116% خلال ذاك الأسبوع كله تقريبا. وكانت الصورة مختلفة في مستشفيات أخرى، إذ ظهرت معطيات أقل حدة في مستشفى الكرمل في حيفا الذي أشار إلى أن نسبة إشغال الأسرّة وصلت إلى 60% وكذلك مستشفى يوسفطال في إيلات الذي بلّغ عن نسبة إشغال تصل إلى 62%.
تشاؤم بشأن مصير توصيات لجنة رسمية يُفترض استكمالها بعد عام
يتبيّن من أبحاث اللجنة أن هناك 108 أقسام باطنية في المستشفيات، مع أكثر من مليون مريض في كل عام. وقال رئيس النقابة الإسرائيلية للطب الباطني، البروفسور أفيشاي إليس، إن "مشكلة الأقسام الباطنية هي مشكلة وطنية لأنها جوهر ولبّ المستشفيات في حالات الطوارئ والأوقات الاعتيادية على حد السواء، هذه الأقسام مشغولة أضعافا مضاعفة. في المستشفيات في الضواحي هناك أقل من 12 ملاكا في المعدل"، وقد تحدثت لجنة رسمية فحصت المسألة عن وجود نحو 16 ملاكا قبل فترة كورونا، وعن "وجود فجوة كبيرة بين المطلوب والمتوفر ولم يتم سدّها حتى الآن".
قبل سنتين تعهدت وزارة الصحة بتطبيق توصيات اللجنة المعروفة بـ "لجنة طور كسفا" على اسم من ترأسها، بشأن زيادة الملاكات للأقسام الباطنية وبناء أقسام إضافية في المستشفيات. تم تقديم استنتاجات لجنة تحسين العلاج في منظومة أقسام الطب الباطني أواسط العام 2019. ومع تقديم التوصيات قال رئيسها البروفسور ران طور كسفا إن "نتائج وتوصيات اللجنة من الممكن أن تؤدي إلى ثورة في الطب الباطني في إسرائيل. إن الرمز الذي يميّز أقسام الطب الباطني في المستشفيات الإسرائيلية هو تلك المرأة المسنة التي ليس لها سرير في غرفة، ويتم وضعها في الممر. وهذه فرصة نادرة لتغيير الوضع في أقسام الطب الباطني في إسرائيل". وزارة الصحة أعلنت حينذاك أنها بصدد تنفيذ تلك التوصيات خلال 5 سنوات (حتى العام القادم 2024).
مدير عام وزارة الصحة موشيه بار سيمان طوف بدا متفائلاً وأعلن أنه: "في جهاز الصحة ثمة إجماع مطلق على البروفسور طور كسفا. التوصيات هي نتائج نعرفها ونتعهد بتنفيذها لأنه من الممكن تنفيذها. وخلال 5 سنوات لن تكون هنالك أسرّة في الممرات. من الممكن القول بأن هنالك حقا اختبار دعم لاستشفاء استكمالي، مما سوف يخفف من الاكتظاظ في أقسام الطب الباطني. كذلك القوى العاملة في مجال التمريض قياسية ومن الممكن تطبيقها من ناحية الوزارة. سوف ننجح بهذه المهمة عن طريق تجند الجميع".
ممثلة وزارة الصحة في جلسة لجنة الصحة مطلع الشهر، تطرّقت إلى نموذج تحفيز الأقسام الباطنية في المستشفيات والذي نشر في أيلول 2022 بمبلغ 90 مليون شيكل، من أجل خدمات الاستشفاء في أقسام الأمراض الباطنية. وقالت إن "الأموال موجودة ونحن بانتظار تقرير من المستشفيات التي تعمل على دراسة وملاءمة التقرير وتطوير منظومات من أجل تطبيقه. هذه معلومات لا يمكن الحصول عليها بضغطة زر. وحتى الآن حصلنا على تقرير من مستشفيين اثنين فقط".
"أيُعقل أنه يتوجب على الأطباء المتمرنين
العمل لمدة 26 ساعة متواصلة"؟
الصورة الدقيقة للواقع قدّمها في اللجنة طبيب متمرن في الطب الباطني حيث قال: "أنا أبقى لوحدي الساعة الرابعة فجرا في وردية مع طبيب متدرب وطالب طب ما بين 6-7 مرات في كل شهر. في ورديات كهذه أنا أحسّ كأنني أقوم "بإطفاء الحرائق". وهناك أيام أعمل فيها بسبب إخفاقات الجهاز لمدة 26 ساعة متتالية. هل من المعقول أنه يتوجب على الأطباء المتمرنين العمل لمدة 26 ساعة متواصلة على التوالي في حين أنه من المتوقع منهم أن يتولوا مسؤولية حياة الناس؟ رغم صرخاتنا إلا أن الحكومة قامت بتقصير مدة الوردية لـ 21 ساعة".
الجدل حول الملاكات المخصصة للأقسام الباطنية ليس جديداً بل هو أحد الصراعات المستمرة منذ سنين. ففي حين ادعت وزارة الصحة قبل سنتين أنه تم توفير ملاكات إضافية تعدادها 200 طبيب باطني و576 ملاكا للتمريض، إضافة إلى الـ 150 ملاكا للمهن الصحية التي مُنحت في فترة كورونا؛ صرّحت النقابة الإسرائيلية للطب الباطني بأن ذلك غير صحيح، مشيرةً إلى أن كل قسم للأمراض الباطنية في أنحاء البلاد حصل على ملاك واحد أو ملاك ونصف ملاك في فترة كورونا. ومجمل الملاكات التي منِحت في فترة كورونا للأقسام الباطنية توزعت بالأساس وفق اعتبارات كل مدير مستشفى، واليوم يتم إلغاؤها.
ينضم هذا الاكتظاظ في الأسرّة في مقابل النقص في الملاكات المطلوبة في أقسام الطب الباطني إلى مشاكل مزمنة أخرى. فقد اعترفت وزارة الصحة أواخر العام الماضي 2022 أن معدل أجهزة التصوير المقطعي والتصوير بالرنين المغناطيسي في إسرائيل أقل بحوالي 66% من المعدل في دول OECD، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومعدل حجم الطاقم الطبي والتمريض منخفض مقارنة ببلدان المنظمة الأخرى.
إسرائيل كانت في المرتبة 27 من 37
العام 2019، والمرتبة 28 العام 2020
يتابع التقرير قائلاً إن البنية التحتية في المرافق الصحية دون المستوى الأمثل، والاستثمار منخفض مقارنة بالمنتجات الصحية التي تعد من بين الأبرز في العالم، وأطلق على هذا الوضع تسمية "مفارقة الصحة الإسرائيلية". ويظهر التقرير أنه خلال فترة كورونا ازداد الإنفاق العام على الصحة في إسرائيل، ولكن في المقارنة الدولية، ظلّ الإنفاق على الصحة في إسرائيل أقل مما هو عليه في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. مثلا في العام 2019 كان معدل الإنفاق الوطني على الصحة 7.5% فقط مقابل معدل إنفاق وطني بلغ 9.7% في المنظمة. وزارة الصحة تقرّ في تقاريرها بأن إسرائيل كانت مسجّلة في المرتبة 27 من 37 في ترتيب دول OECD في 2019، والمرتبة 28 في 2020، أي أنها تراجعت.
بين المعطيات الرقميّة في مجال البنية التحتية للجهاز الصحي:
* تضاعف في العقد الماضي معدل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي في إسرائيل، لكن الفجوات مقارنة ببقية العالم لا تزال كبيرة. إذ بينما يوجد في إسرائيل 5.5 جهاز لكل مليون نسمة، فإن المعدل في منظمة OECD أكبر بثلاث مرات ويبلغ 18.4.
*توجد في إسرائيل 10 آلات للتصوير المقطعي المحوسب لكل مليون نسمة، مقارنة بمتوسط 29 آلة في المنظمة.
كذلك، انتقد تقرير OECD الصادر في حزيران الماضي ما وصفه بـ "انعدام التخطيط الذي يميز التخصصات الطبية في إسرائيل". وتوقف عند مسألة عميقة تمس البعد الاستراتيجي للسياسة الإسرائيلية حين نوّه إلى أن القبول التخصصات الطبية يتم وفق نموذج السوق الحرة، وبموجبه يقرر مدير المستشفى التخصصات التي سيفتحها، وتكون في غالب الأحيان "بناءً على احتياجات قصيرة الأمد للمستشفيات، وبدون تخطيط للأمد المتوسط والبعيد".
حالة القوى العاملة الطبية ستواجه
أزمة حقيقية بحلول 2026
بناء على ما سلف، حذر الجهاز الصحي في بياناته الرسمية من أن حالة القوى العاملة الطبية في إسرائيل ستواجه أزمة بحلول العام 2026، وأنه من الضروري زيادة عدد طلاب الطب في أسرع وقت ممكن. فالمقارنة الدولية تضع إسرائيل في مكان غير مريح. لكن حتى هذا الوضع الإشكالي ازداد تفاقماً في ضوء نتائج وتداعيات الصدام الحاصل حول "خطة التشريعات" الحسّاسة التي تقودها الحكومة الحالية، وتشمل هزّة إضافية متوقعة في مجال الصحة والطب.
فالتقارير الصحافية المتواترة هذه الفترة تقول إن مئات الأطباء من تخصصات مختلفة، يعتزمون مغادرة إسرائيل، احتجاجا على خطة حكومة بنيامين نتنياهو الرامية إلى إضعاف القضاء، الأمر الذي قد يضعها في مواجهة أزمة صحية شديدة الخطورة. وكشفت هيئة البث الإسرائيلية "كان 11"، أن المدير العام لوزارة الصحة، موشي بار سيمان طوف، وكبار المسؤولين في جهاز الصحة، عقدوا اجتماعا طارئا مع ممثلي نقابة الأطباء، في الأيام الأخيرة، على خلفية المخاوف من موجة هجرة للأطباء احتجاجا على مخطط إضعاف جهاز القضاء.
للتذكير: منذ حزيران الماضي حذّر تقرير OECD المذكور من احتمال تفاقم نقص الأطباء الجدد في إسرائيل بنسبة 30%، في العام 2025، ما سيؤدي إلى نقص شديد في الأطباء الأخصائيين بعد خمس إلى سبع سنوات. وتوقع أن يؤثر هذا النقص خصوصاً على المناطق الطرفيّة خارج منطقة المركز القوية اقتصادياً.
ونُقل عن مسؤولين في جهاز الصحة أنه "حتى لو كان عدد المغادرين لا يتجاوز 300 طبيب، فمن المتوقع أن تكون الأزمة معقدة وصعبة؛ وذلك نظراً إلى أن هؤلاء هم أطباء من تخصصات نادرة". ويُشار أيضاً إلى اتساع الحديث في الفترة الأخيرة عن ازدياد مساعي أطباء لمغادرة البلاد. ويتبيّن مما نشره المحلل العسكري ألون بن دفيد، أواخر الشهر الماضي في صحيفة "معاريف"، أن الأطباء في السلك العسكري تعلن أجزاء متزايدة منهم عن "رفض الامتثال" في خدمة الاحتياط. وقد كتب يقول: "تعرضت منظومتان أخريان في الجيش إلى ضرر جسيم: منظومة الطب وشعبة الاستخبارات. نحو خُمس عناصر الطب أعلنوا عن وقف الامتثال، وهم أيضا لا بديل فوريا لهم. صحيح أن الأطباء لن يهاجموا في إيران، لكنه لا يمكن لأي كتيبة أن تخرج إلى الحرب أو حتى إلى التدريب، بدون طبيب... هذه الموجة لن تتوقف فقط عند خادمي تشكيلات الاحتياط. فقد بدأت منذ الآن تعطي مؤشراتها بين جنود الخدمة الدائمة، ممن يتحدثون عن فك العقد. ومن هناك يتواصل هذا أيضا إلى صفوف الجيش النظامي".