المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
أطباء قيد التدريب.  (هآرتس)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 909
  • هشام نفاع

يواجه جهاز الصحة الإسرائيلي تحديات كثيرة، كما يقول مختصون ومحللون كثُر، وخصوصاً على خلفية الاحتجاج المتواصل للأطباء المتدربين الذين يطالبون بشروط تشغيل وأجر لائقين. فهم يشكون من إلزامهم بالقيام بمناوبات عمل طويلة ومنهكة، بدرجات تهدّد جودة بل سلامة الخدمة التي يفترض أن يقدموها للمرضى.

لقد هدّدت مجموعة كبيرة من الأطباء المتدربين في المستشفيات الإسرائيلية بتقديم استقالاتها على نحو جماعي، وهؤلاء أطباء أعضاء في منظمة مستقلة اسمها "ميرشام" أقاموها لهم بمعزل عن نقابة الأطباء، حيث اتهموا وزير الصحة الإسرائيلي نيتسان هوروفيتس بالتراجع عن تعهداته فيما يخص تقليص ساعات عمل الأطباء خلال الورديات. وقال الأطباء إنه في حال لم تشمل الخطة المعنية بتقليص مدة الورديات كافة التخصصات، فلن يكون هناك مناص آخر أمامهم وسيقدمون رسائل استقالاتهم الجماعية.

نظم هؤلاء الأطباء وقفات احتجاجية في الأسابيع الماضية، إحداها أمام بيت وزير الصحة، شارك فيها المئات منهم، حتى أن الشرطة احتجزت عدداً منهم بدعوى "الاخلال بالنظام". وقبل أسبوع تقريباً قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد المصادقة على خطة سبقت صياغتها في أواخر العام المنصرم، 2021، لتقليص ساعات وردية الأطباء المتدربين إلى 16 ساعة، على أن تبدأ في المناطق الطرفية.

قدرت الأوساط المتخصصة بأن هذا القرار قد أوقف أزمة هددت بعرقلة عمل الكوادر الطبية في المستشفيات في إسرائيل على خلفية التهديد بتقديم استقالات بالجملة، كما أشار موقع i24news. ومن المقرر أن تبدأ الاستعدادات لدخول المخطط التفصيلي للقرار إلى حيز التنفيذ بعد عام من اليوم، في أيلول 2023. ويفترض أن تصبح المستشفيات في جميع أنحاء البلاد قادرة على العمل بموجب النظام الجديد القائم على نوبات عمل قصيرة.

جاء هذا القرار بعد أن وقع الأطباء المتدربون في جميع مستشفيات إسرائيل، الأسبوع الفائت، على خطابات استقالاتهم التي كان يفترض أن تدخل حيز التنفيذ بعد 48 ساعة إذا لم توقع الحكومة على اتفاق لتحسين ظروف عملهم. وتم اعتقال عشرة متدربين خلال مظاهرة شارك فيها حوالي 500 طبيب تحت التدريب خارج منزل وزير الصحة الإسرائيلي هوروفيتس في تل أبيب.

شكوك في أن هذه الخطوة قد حلت المشكلة

لكن منظمة "ميرشام" المسؤولة عن الأطباء تحت التدريب قالت في بيان إن ما يصل إلى 2300 طبيب متدرب وقعوا على خطابات استقالاتهم التي ستدخل حيز التنفيذ، إذا لم يتم تلبية مطالبهم بتقصير فترات مناوبات عملهم التي تستغرق 26 ساعة.

أجرت المنظمة مفاوضات مع مسؤولين من وزارتي الصحة والاقتصاد خلال الفترة الماضية وطالبت بتقصير فترات عمل الأطباء تحت التدريب إلى 18 ساعة. وعلى الرغم من ذلك، لم تحرز المفاوضات بين الطرفين أي تقدم، حيث تقترح الحكومة الإسرائيلية مناوبات عمل مختصرة لعشرة في المائة من العمال وفقا لمنظمة "ميرشام"، فيما تطالب المنظمة بأن يتلقى 25 في المائة من المتدربين فترات عمل أقل، وفقا لوسائل إعلام إسرائيلية.

وقالت المنظمة في البيان: "لن نكون مستعدين لقبول هذه التسوية الوهمية التي تترك 90 في المائة من المتدربين يواصلون العمل لمدة 26 ساعة". وأضافت أنه إذا "لم يتم تقديم مخطط جديد من قبل الحكومة لهذا الطلب إلى جانب المسائل المتفق عليها بالفعل، فسنضطر إلى تقديم خطابات الاستقالة يوم الخميس المقبل". وأوضحت أن مسؤولية حل الأزمة تقع على عاتق وزيري الصحة والاقتصاد.

مع ذلك هناك شكوك في أن هذه الخطوة قد حلت المشكلة. مثلاً، كتبت رونين لندر، وهي صحافية متخصصة في شؤون الصحة في جريدة "ذي ماركر" الاقتصادية، أن من يعتقد بأننا وصلنا إلى نهاية الأزمة مخطئ جداً. يبدو الأمر سهلا، فقد وجهت المديرة العامة لمكتب رئيس الحكومة نعما شولتس تعليمات إلى المدير العام لوزارة المالية رام بيلينكوف بتحويل 66 مليون شيكل إلى المستشفيات وفق المعايير التي تم الاتفاق عليها في خطة وضعتها وزارة الصحة في تشرين الأول 2021. وبالتالي تم تأجيل تقصير المناوبات إلى أيلول 2023 ريثما يجري تحويل الأموال إلى المستشفيات في المناطق الطرفية للسماح لها بالتحضير والبدء في تعيين متدربين جدد. وهذا بعد أن اشتكت إدارات المستشفى من عدم إعطائها ظروفاً كافية للاستعداد.

لكن من الناحية العملية، تكتب الصحافية، المشكلة ليست مبلغ الـ66 مليون شيكل التي تم الاتفاق عليها بالفعل. فهناك حرب أعصاب وقوة بين مؤيدي الخطة في وزارة الصحة التي تم تبنيها في تصريح حكومي قضى بتقصير الورديات إلى 18 ساعة، وبين العديد من معارضي الخطة (في الحكومة وفي المستشفيات وبعض صناديق المرضى الكبرى التي تملك وتدير مستشفيات) الذين ما زالوا يأملون في تغيير السيرورة.

"المتوقع أن نشهد صراعاً سياسياً وليس حلاً"

المتدربون كانوا أعلنوا أن هدفهم من الاحتجاج هو تحويل الميزانيات قبل الانتخابات وعندها ستبدأ عجلات الحركة في التحرك. لكن صحيفة "ذي ماركر" تقول إن الرد الذي تلقته من وزارة المالية على سؤال بهذا الشأن لا يشير إلى أن الميزانيات سوف تحوَّل قريبا. فالوزارة لم ترفض تحويل الأموال لكن ذلك سيتم بعد اتضاح جميع المسائل المهنية المطلوبة، وفقاً لتعبيرها. وهي تشير إلى التوتر الذي نشأ بين وزير المالية أفيغدور ليبرمان وبين رئيس الحكومة بسبب تدخل الأخير، بل اعتبر ذلك "خدعة انتخابية على حساب صحة الجمهور". لذلك فالمتوقع أن نشهد صراعاً سياسياً وليس حلاً، تلاحظ الصحيفة. الرد الفظ من ليبرمان ووجه بانتقادات وجهها وزير الصحة نيتسان هوروفيتس الذي وصف أداء وزارة المالية بأنه "معيب وفشل حوكمي. فالمالية ترفض تنفيذ ملخصات الميزانية من دون استناد إلى أي أساس قانوني".

تشير الصحيفة إلى جانب آخر يتوقع أن يخلق تعقيدات، وهو متعلق برسالة وجهتها إلى المستشفيات وزيرة الاقتصاد أورنا بربيباي عبرت فيها عن قبول إمكانية البدء بتقصير الورديات حتى قبل الموعد المتفق عليه (أيلول القادم). وهنا قد تقوم المستشفيات الثريّة في مركز البلاد بالبدء في تقصير الورديات قبل تلك التي في المناطق الطرفية ولا تتمتع بميزانيات وقوة اقتصادية، وهذا يعطي أفضلية للمستشفيات القوية من ناحية جذب أطباء متدربين على حساب مستشفيات الأطراف، علماً بأن هناك نقصاً أصلا في الكوادر الطبية المتوفرة.

هذا، تقول الصحيفة، يقوّض التوجهات التي وضعتها وزارة الصحة تحت عنوان "المناطق الطرفية أولا"، من أجل خلق منافسة متكافئة بينها وبين المستشفيات الثريّة. حالياً تأجج الصراع أكثر، بدلا من الاقتراب نحو حلّ للأزمة. ففي وزارة الصحة يتهمون لبيد بلا أقل من "إصدار حكم إعدام للجهاز الطبي الجماهيري في المناطق الطرفية"، وهو ما يعتبره ضالعون في الجدل مبالغة، إذ أن رسالة وزيرة الاقتصاد لا تعبر عن توجه جديد.

منظمة الصحة العالمية تحذر من

 آثار النقص في الكوادر الطبية 

على الرغم من أن المشكلة التي تطفو على سطح الاهتمامات السياسية في إسرائيل تتعلق في بعض جوانبها بسوء الخدمات الطبية والصحية، فقلما يجري تناول الموضع بعمق. هذا تجسده أقوال توماس زاباتا، المسؤول الاستشاري في منظمة الصحة العالمية "أنتم في دولة إسرائيل بحاجة إلى العمل من أجل توفير عدد كافٍ من الأطباء ليحلوا محل أولئك الذين سيتقاعدون في السنوات القادمة. هذا الوضع هو وصفة لمشكلة خطيرة، ما لم تتصرفوا الآن" 

وتقول صحيفة دفار" التي أجرت مقابلة معه، إن زاباتا هو أحد مؤلفي التقرير الأول من نوعه حول القوى العاملة الطبية في الدول الأوروبية الذي نشرته المنظمة قبل أسبوعين. ويشير إلى أنه في ضوء كون العديد من الدول الأوروبية تواجه مشكلة قوة عاملة طبية تزداد سناً بموازاة نقص في احتياطي العاملين الصحيين، فإن المشكلة في إسرائيل ستكون أكثر صعوبة على نحو خاص. وقال: "في إسرائيل، 48% من الأطباء فوق سن 55 عاماً، أي أنهم سيتقاعدون في غضون حوالي عشر سنوات. ومن ناحية أخرى، فإن عدد الخريجين حائزي الشهادات الطبية للفرد الواحد هو نصف المتوسط ​​القائم في أوروبا".

ويشرح المسؤول في المنظمة الدولية كيف أن التعامل مع فيروس كورونا في السنوات الثلاث الماضية قدم دليلاً حياً على الأضرار التي قد تكون ناجمة عن نقص الكوادر الطبية المختصة والمتاحة. وكما قال: "أثناء انتشار فيروس كورونا، اتضح أن النظام الصحي حقق نتائج وجدوى وفقاً لعدد العاملين فيه. في البداية كان هناك بعض الضغط بسبب مسألة عدد أجهزة التنفس الصناعي المتوفرة، لكن سرعان ما اتضح أن العدد الحرج هو عدد العاملين. عندما تم تأجيل علاجات طبية كان ذلك بسبب النقص في القوى العاملة، ولعدم وجود عدد كاف من العاملين الطبيين المختلفين لتقديم خدمات في علاج كورونا وكذلك الخدمات الطبية العادية. صحيح أن نقص الكوادر الطبية كان موجودا قبل ظهور كورونا، لكن الوباء زاد المشكلة سوءا".

الحل الرئيس الذي يشير إليه زاباتا هو وجوب تحسين ظروف العمل، وأولاً وقبل أي شيء دفع راتب أعلى، مما سيجذب الشباب إلى المهنة. ويضيف في حديثه للصحيفة أنه "في العديد من البلدان، لا تجذب المهن الصحية الشباب. يجب تحسين ظروف العاملين الصحيين من أجل توظيف العمال والاحتفاظ بهم. نحن بحاجة إلى رعاية العمال الطبيين الذين يعتنون بنا. عندما يكون راتب الممرضة منخفضاً جداً، لا تبقى الممرضات في المهنة. وعندما يُنهك العاملون الصحيون ويغادرون الجهاز الصحي، فإن ذلك يترك المزيد من الأعباء على العاملين الباقين في الجهاز".

هناك مشكلة أخرى يشير إليها زاباتا وهي انعدام التخطيط لمستقبل الجهاز الصحي. فلا توجد خطط لعدد العمال الذين ستكون هناك حاجة إليهم في السنوات العشر المقبلة، في حين أن التدريب والحوافز بحاجة إلى التطوير منذ الآن من أجل تحقيق الإنجازات المستقبلية اللازمة. وأوضح أنه في الدول التي يوجد فيها عدد أكبر من العاملين الصحيين، يكون العلاج أفضل. صحيح أن إسرائيل تتمتع برعاية جيدة على الرغم من قلة الاستثمار في العاملين الصحيين، لكن هذا الوضع لن يستمر، لأن نسبة عالية من الأطباء قد تقاعدوا. ومن دون خطة لتجنيد أطباء والاحتفاظ بهم، فإن جودة الرعاية الصحية معرضة للخطر.

وهو يؤكد أن الكرة في نهاية المطاف في أيدي الحكومات. الحكومات لا تضع العاملين في المجال الطبي في قائمة الأولويات، وهذه مشكلة، لأن ما ليس في الأولويات لا يحصل على ميزانيات. هناك حاجة في إرادة سياسية للحفاظ على جودة الرعاية. يجب أن تخطط إسرائيل منذ الآن لتجنب الانهيار في المستقبل، يختتم محذراً.

أخيرا، لقد أشار تحقيق إعلامي أجري قبل عام إلى أنه "حان الوقت لأن يكون جهاز الرعاية الصحية على رأس أولويات الدولة. ولم تعد هذه مشكلة بالنسبة لمستشفى دون الآخر، أو لمدير دون الآخر، ولا حتى لطرف دون الآخر. كانت أولوية الدولة في مجال الصحة منخفضة نسبياً على مر السنين. نرى هذا في البيانات: أرقامنا بالنسبة إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منخفضة للغاية، وهذا يحتاج إلى التغيير". لم يتغير شيء تقريبا منذ هذه الصياغة القاتمة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات