صدر عن المركز قضايا إسرائيلية العدد (49): اليسار في إسرائيل- أين كان وأين هو الآن
يتناول محور هذا العدد موضوعة اليسار الإسرائيلي. التفت الشارع الفلسطيني ليكتشف أنّ هذا اليسار آخذ في الانحسار والانسحاب إلى درجة الاختفاء. راهنت السياسة الفلسطينية على النقاشات داخل المجتمع الإسرائيلي، فاكتشفت بعد عشرين عاماً على أوسلو أنّه لا توجد نقاشات حقيقية داخل إسرائيل.
صحيح أنّ أحزابًا كثيرة على الخريطة السياسية ترفع شعار حلّ الدولتين، لكن هذا الحل يبدو بعيدًا أكثر من أي وقت مضى، وكأنّ الإجماع اللفظي عليه حصل فقط بعد أن تيقّنت الأحزاب الإسرائيلية من استحالة الحل على أرض الواقع، وبعد أن أيقنت أنّه من غير المجدي المعارضة الكلامية للحل نظراً للإجماع الدولي عليه. وافقت عليه كلاميًا لإرضاء الأسرة الدولية، وسعت إلى إجهاضه على أرض الواقع.
إنّ سؤال البحث عن اليسار الإسرائيلي واختفائه عن الساحة يثير عددًا من الأسئلة الفرعية والثانوية على شاكلة: ما هي طبيعة هذا اليسار؟ ما هي جذوره التاريخية؟ وما هي طبيعة العلاقة بين سؤال العدالة الاجتماعية وبين سؤال النضال ضد الاحتلال والحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني؟ ما معنى اليسار في واقع احتلالي كولونيالي، وما معنى السير يسارًا في قطار يسافر يميناً؟ ما معنى الموقف اليساري حين يكون الموقع بحد ذاته (الموقع الكولونيالي) موقفًا؟ وهل يستطيع الموقف أن يتجاوز الموقع أو يلغيه؟
إلى جانب هذه الأسئلة التاريخية البنيوية هناك حاجة للتعامل مع أسئلة أكثر سياسية عملية مباشرة وآنيّة تتعلّق بتركيبة هذا اليسار حالياً، ومواقف الأحزاب الحالية المحسوبة على اليسار من عدة قضايا مطروحة على الأجندة السياسية الإسرائيلية. من بين هذه الأسئلة: كيف استوعب هذا اليسار حركة الاحتجاج الاجتماعي العام 2011، وإلى أي مدى تبنّاها، وكيف أثّرت الحركة على أجندة هذه الأحزاب؟ ضمن هذا السياق العام يجدر التساؤل عن موقف اليسار من عملية الخصخصة التي تنتهجها حكومة نتنياهو، ومن السياسة النيو- ليبرالية الجديدة.
من ناحية أخرى، يطرح السؤال ما هو موقف هذه الأحزاب من القضية الفلسطينية عموماً، من شروط المصالحة التاريخية مع الفلسطينيين والعرب، ومستقبل العلاقة بين إسرائيل والمنطقة عموماً؟ نوع آخر من الأسئلة يتعلّق بعلاقة اليسار مع المجموعات المستضعفة والهامشية في المجتمع الإسرائيلي والتي لم تشكّل جزءًا من مجموعة المستوطنين المؤسسين؛ أي العلاقة مع المواطنين الفلسطينيين، الحريديم والشرقيين؟ يمكننا أن نوجز ونقول إنّ هناك ثلاثة محاور أساسية لتفحّص مواقف اليسار: المحور الاقتصادي، والمحور القومي والمسألة الفلسطينية، والمحور الاجتماعي.
تقدّم مقالة حجاي مطر تحليلاً لحركة الاحتجاج الأخيرة والتطوّرات السياسية التي تلتها، وكيف جرى تجييرها لصالح حزب يائير لبيد وحزب نفتالي بينيت. لقد بدأت حركة الاحتجاج كحركة واعدة تبشّر بإمكانيات تقويض الإجماع الصهيوني وإقامة مجتمع مدنيّ جديد يضمّ العرب والشرقيين والحريديم؛ لكنّها انتهت إلى إعادة العقد الاجتماعي القومي الصهيوني، وانتهت الانتخابات والحكومة إلى إقصاء العرب والحريديم بشكل واضح. هكذا خسر اليسار الطاقة الكامنة في حركة الاحتجاج، وجرى اختطافها بالمقابل من قبل قوى تقليدية محافظة ويمينية داخل المجتمع.
أمّا غدعون ليفي فيقدّم لنا صيرورة اليسار الإسرائيلي وتطوّره ونموّه وخفوته ثم شبه اختفائه. ولد هذا اليسار مباشرة بعد حرب 67 متمثّلاً بقوى راديكالية قليلة العدد متمثّلة بحركات مثل "ماتسبين" وغيرها من الحركات اليسارية الراديكالية. وصل هذا اليسار إلى ذروة قوّته في الثمانينيات وبداية التسعينيات، لكنه سرعان ما اختفى عن الساحة. لا يمكن فهم هذا الاختفاء باعتباره نتيجة الانتفاضة الثانية فقط، إذ إنّه ما كان ليحصل لو أنّ جذور هذا اليسار في المجتمع الإسرائيلي كانت أكثر تماسكاً.
يتناول ماتي شموئيلوف في مقالته موضوعة اليهود الشرقيين ويتّهم اليسار الإسرائيلي بموقف متعالٍ على الطوائف الشرقية كما يتّهم المؤسسة الإسرائيلية برمّتها. يخلص الكاتب إلى القول بأنّه من أجل أن يحصل تغيير حقيقي داخل اليسار الإسرائيلي، هناك ضرورة لحدوث ثورة حقيقية في علاقة هذا اليسار بالطوائف اليهودية الشرقية.
يتعرّض عصام مخّول وأودي أديب في مقالتيهما إلى البنية الفكرية لليسار الإسرائيلي. يشير مخول إلى الثنائية المستحيلة بين الفكر الصهيوني والفكر اليساري، ويناقش بأنّ أي موقف يساري مثابر يستدعي التحرّر من الفكر الصهيوني، مشيرًا إلى أنّ أزمة اليسار الصهيوني الحالية ما هي إلاّ جزء من أزمة الصهيونية نفسها.
أودي أديب من ناحيته يأخذ على اليسار الما- بعد صهيوني وغير الصهيوني أنّه ما زال يقيم في عالم الهويّات بدل الانتقال إلى الخطاب المدني الجمهوراني. وباعتقاده أنّ هذا اليسار الذي ما زال يطرح موضوعة ثنائية القومية، يعيد إنتاج أطروحات صهيونية بدل أن يتجاوزها إلى مفاهيم المواطنة الكونية التي لا تولي اهتمامًا للانتماءات الإثنية الدينية أو القومية.
أمّا مقالة إسحق غال- نور فقد قمنا بترجمتها عن الانكليزية لأنها تتعامل مع أحد المفارق الهامة في النقاش داخل الحركة الصهيونية بكل ما يتعلّق بتقسيم فلسطين، والنقاش الذي أعقب تقرير "لجنة بيل" تحت الانتداب وصولاً إلى قرارا التقسيم. كان هذا النقاش وما زال يشكّل أحد المحكّات التي تنقسم بموجبها السياسة الإسرائيلية بين تلك المؤيّدة، ولو شكليّا، لفكرة التقسيم وبين الأخرى الرافضة له.
نختتم هذا المحور بنقاش جرى في الأشهر الأخيرة عبر صفحات جريدة "هآرتس" شارك فيه الأستاذان إيفا إيلوز من الجامعة العبرية في القدس، ونافيه برومر من مركز "منيرفا" للآداب- جامعة تل أبيب، وفيه يتناولان فهمهما لليسار ودوره الحالي بشكل عام وداخل إسرائيل بشكل خاص.
كما هي الحال في كثير من الأحيان، تكمن أهميّة دراسة اليسار الإسرائيلي كحالة عينيّة مشخّصة في تجاوز المنطق المطلق الذي يعتقد أنّ المجتمع الإسرائيلي هو كتلة واحدة متجانسة، وتجاوز التفاؤل المفرط الذي يعوّل على اليسار الإسرائيلي باعتباره مفتاح الفرج الآتي والقادر على إنجاز المصالحة مع الشعب الفلسطيني.