المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 3491
  • وليد دقة

(*) اسم الكتاب: "القائد الرباني- تقرطة الجيش الإسرائيلي"
(*) المؤلف: ياغيل ليفي (عضو الهيئة التدريسية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، وباحث في العلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة، ومتخصص في العلاقة بين سياسات الجيش وتركيبته الاجتماعية)
(*) الناشر: عام عوفيد والكلية الأكاديمية سابير، 2015
(*) عدد الصفحات: 448

يأتي نشر هذا الكتاب في مرحلة وصلت فيها ممارسات المستوطنين الإرهابية ضد المواطنين الفلسطينيين العزل إلى ذروتها بقتل عائلة دوابشة حرقاً تحت غطاء وحماية الجيش الإسرائيلي، حيث تمثل بعض استخلاصات المؤلف لائحة اتهام للجيش والقادة العسكريين والسياسيين ورجال الدين من داخل وخارج المؤسسة العسكرية، ليس بصفتهم يقدمون غطاءً فحسب، وإنما أيضا بصفتهم محرضين ومشاركين فعلياً في أحيان كثيرة في الاعتداء على أملاك وأرواح المواطنين الفلسطينيين.

فصول الكتاب

تقدم فصول الكتاب الستة، بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، شرحاً مفصلاً وموثقاً لمراحل تحول الجيش الإسرائيلي على مدى العقود الثلاثة الأخيرة إلى أداة تنفيذ، ليس لقرارات وتوجهات المستوى السياسي المنتخب فقط، وإنما يعمل متأثراً بالأيديولوجيات الدينية العنصرية، ووفقاً لتفسيرات غلاة المستوطنين التي طالت كافة جوانب الحياة العسكرية التربوية والمهنية.

وتأتي جدالات المؤلف وانتقاداته في سياق الخطاب الصهيوني العام، وانطلاقاً من فهمه لـ"ديمقراطية الدولة اليهودية"، والادعاء الصهيوني الرسمي الذي طالما تغنت به إسرائيل، بأن الجيش مؤسسة مهنية حيادية، كما يتوقع من الجيوش في النظم الديمقراطية. ويعبر عن هذه الحيادية في كل ما يتعلق بالقضايا الجوهرية التي ينقسم حولها المجتمع الإسرائيلي وقواه السياسية، كمستقبل الأراضي المحتلة والاستيطان، ومكانة ودور الشريعة والدين اليهودي في النظام السياسي والحياة الاجتماعية والتربوية.

يميز المؤلف بين مفهومين يشكلان أداته المركزية في التحليل على مدار فصول الكتاب. وهما: "التدين"، و"التقرطة" (من الثيوقراطيا، أي السلطة الدينية). فهو ينطلق من فرضية أن الجيش الإسرائيلي لا يمر بعملية تدين فحسب، وإنما أيضا بعملية تقرطة، وإن لم تصل بعد إلى اكتمالها بحيث يمكن أن نطلق عليه صفة الجيش الثيوقراطي؛ لكونه كما يعتقد المؤلف ما زال يعمل في إطار محددات النظام السياسي الديمقراطي. ولهذا وبرغم التحولات التي مر بها ما زال دون هذه التسمية.

الثيوقراطية لا تعني التدين، وإنما تتبدى الثيوقراطية عبر تغلغل زاحف تدريجي للسلطات الدينية المدنية إلى الجيش، في محاولة منها للتأثير عليه في أكثر من مستوى يعد جزءاً رسمياً من مسؤوليات الجيش وصلاحيات المستوى السياسي المسؤول عنه (ص 12). أما تدين الجيش فهو يصف التحولات الثقافية التي تطال مستويين، الأول يتعلق بتعزيز الثقافة الدينية في إدارة الحياة العسكرية كفرضها قيم الشريعة، والمناخ التربوي الديني على مجمل الجنود والوحدات العسكرية. أما المستوى الثاني فيصف منح المهام العسكرية تفسيراً شرعياً مشحوناً بالمعاني والرموز والقيم الدينية، والعمل كي يصبح هو التفسير المقبول على القيادة العسكرية، حتى يتجاوز امتلاك المعنى، الجندي المتدين وأطره الاجتماعية. لذلك، تعتبر تقرطة الجيش عملية تتجاوز تدينه، بمعنى أنه ينتقل من التأثر ثقافياً بالقيم الدينية إلى تدخل القيادات الدينية في قراراته المهنية.

يستخدم المؤلف إطاراً نظرياً يطلق عليه نظام المحفزات العسكري الذي يقدم للمجندين نوعين من المحفزات: محفزات مادية ومحفزات رمزية. النوع الأول قائم على الأجر المادي أو ما يوازيه مادياً كالتأهيل المهني، التعليم، السكن، والصحة. والثاني مؤسس على المكانة الاجتماعية التي يحظى بها المجند، والهالة التي ترافق جنود الوحدات القتالية الخاصة، التي تقايض في الحياة المدنية بامتيازات مواطنية واجتماعية وسياسية، لا تعود بالفائدة على المجند الفرد فحسب، وإنما تحظى بها الأطر الاجتماعية التي ينتمي إليها (ص 15-16).

يؤكد المؤلف أنه يمكن فهم سيطرة الاتجاهات الدينية على المؤسسة العسكرية، خلال العقود الثلاثة الماضية، من خلال إدراك تقرطة نظام المحفزات العسكري فهو يوفر لنا أداة هامة للوقوف على الخطوات والتحولات المركزية التي قادت الجيش إلى منزلق التقرطة في مجمل وحداته. لقد حافظت إسرائيل على نظام محفزات عسكري تاريخي منحاز للطبقة الوسطى العلمانية التي احتلت المراتب العليا في الجيش مقابل خدمة أبنائها في الوحدات القتالية، وما يقدمونه من تضحيات.

ومع استنفاد نظام المحفزات التاريخي قدرته التجنيدية، بعد حرب 73 وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، والتي رافقها ضعف في الدافع لتأدية الخدمة في أوساط الطبقة الوسطى العلمانية، وفي مدى استعدادها لتقديم التضحية، عملت القيادة العسكرية على مضاعفة المحفزات الرمزية للمجندين المتدينين بهدف تشجيعهم على الانضمام إلى صفوف الوحدات القتالية في الجيش. في المقابل تمكنت الجماعات الدينية والأطر الاجتماعية للمجندين المتدينين من زيادة قوتها التفاوضية في مقابل الجيش، والتأثير على الثقافة العسكرية، وتعريف مهامه تعريفاً دينياً. وإن حاجة الجيش للقوى البشرية، دفعت به إلى الاستجابة لمطالب الرابانيم (الحاخامين) ومجمل قيادات الشبكات الاجتماعية الدينية الرافدة له بهذه القوى، لقاء أن يتم ربط الاستعداد للتضحية العسكرية بالدين (ص 20).

يتناول الفصل الأول أعوام إسرائيل الأولى التي تشكلت خلالها العلاقة بين الجيش والدين، من خلال التفاهمات التي توصل إليها ديفيد بن غوريون مع الأحزاب الدينية، والتي شملت إعفاء طلبة المدارس الدينية (الحريديم) والنساء المتدينات من الخدمة العسكرية، واحترام حرمة السبت، وتأمين الطعام الحلال (كشير) لكافة الجنود وليس فقط للجنود المتدينين. ويصف المؤلف هذه التفاهمات بأنها الخطوة الأولى نحو التدين، وتحويل الجيش الإسرائيلي العلماني إلى جيش يهودي. كما أنها سمحت بالتمييز أثناء أداء القسم بين قسم الجندي العلماني، وقسم الجندي المتدين. فبعد قراءة نص القسم يردد الجندي العلماني: "أنا أقسم". بينما يردد الجندي المتدين: "أنا أعلن"، وذلك مراعاة لالتزام هذا الجندي بدينه وربه الذي لا يقسم إلا له وحده بالولاء، والفارق بينه وبين التزامه بالدولة وقوانينها الوضعية (ص 28).

ويتناول الفصل الثاني تحت عنوان: "تصدع الانعزال" تراجع مسار الخدمة العسكرية في وحدات مؤلفة من طلاب المدارس الدينية. ويردُّ المؤلف تراجع هذا المسار لإنتاج البنية الهرمية العسكرية لمحفزات غير متساوية بين جميع الفئات المجندة، مما يدفع بالمجموعة الهامشية داخل الجيش إلى البحث عن سبل لتغييرها، أو تشكيل هرمية منفصلة خارج المؤسسة العسكرية تمكنها من إنتاج محفزات رمزية بديلة، أو في المقابل ارتفاع القيمة التبادلية التي توفرها المحفزات في الحياة المدنية يدفعها لتأسيس مسارات جديدة للمشاركة في الخدمة العسكرية. في هذا الفصل يعرض المؤلف أربع استراتيجيات جماعية تبنتها الجماعات الدينية بهدف الانتقال من الهامشية والانعزال الإرادي إلى التأثير على الجيش وتحسين مكانتها فيه.

الاستراتيجية الأولى، وهي الخطوة الأولى والأبرز التي قامت بها الصهيونية الدينية لتحسين مكانتها في الجيش، هي ما يسمى بتفاهمات المدارس الدينية (يشيفوت ههسدير). وتقضي هذه التفاهمات بتأدية الخدمة لوحدات خاصة ذات "انعزال إرادي" فيها. وبخط مواز لهذه الاستراتيجية أسست حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية مساراً يتجاوز التراتبية الاجتماعية التي يكرسها الجيش عبر إقامة تراتبية اجتماعية جديدة من خارجه يشكل المستوطن في الضفة مثالها ونموذجها بصفته "الطلائعي" الصهيوني الجديد. أما الاستراتيجية الثالثة فهي توسيع مسار إعفاء طلاب المدارس الدينية (الحريديم) من الخدمة العسكرية، الذي جذب بشكل أساس الفئات الفقيرة والمحافظة من اليهود الشرقيين. ويهدف هذا المسار أيضاً إلى تحسين مكانتهم الاجتماعية من خارج المؤسسة العسكرية. ولما كان مسار (يشيفوت ههسدير) قد حدّ بانعزال مجنديه عن باقي الجنود من حراكهم وتقدمهم في البنية العسكرية، بالإضافة لتراجع مسار "غوش إيمونيم" في سنوات الثمانين، تم تبني استراتيجية أخرى تمثلت في مسار المعاهد الدينية التحضيرية للجيش، التي مكنت المتدينين من التأثير مباشرة على طابع الجيش بالكامل وليس فقط على الوحدات التي يخدمون فيها. (ص 65-66)

يخصص المؤلف الفصل الثالث لاستعراض العوامل التي دعت إلى إقامة المعاهد الدينية التحضيرية، ويستفيض في شرح ضعف خطاب المواطنة بصفته "الجمهورانية" وانتشار الخطاب (الإثنو- قومي) الذي تأسست عليه العسكريتارية الإسرائيلية منذ نهاية سنوات السبعين (ص 213).

أما في الفصل الرابع فيتناول المؤلف "الجيش الشرطي" والمواقف التي واجهتها القيادة العسكرية من قبل "الرابانيم" والجنود والضباط المتدينين، ومدى تأثير ذلك على الجيش، حيث تراوحت الردود بين الدعوة الصريحة لرفض الأوامر العسكرية بالإخلاء، وبين التلويح والتهديد بالرفض. كما يستعرض المؤلف عمق تدخل القيادات الدينية المدنية في القرارات العسكرية المهنية (ص 184).

كما يستعرض الفصل الخامس المعارضة الشديدة التي أظهرها المتدينون في موضوع خدمة المرأة في الجيش إلى جانب الرجل في الوحدات العسكرية ذاتها التي أصبح الجندي المتدين يخدم بها إلى جانب باقي الجنود. ويظهر المؤلف التطرف الديني الذي مر به المتدينون القوميون على هذا الصعيد. ويعتبر موضوع خدمة المرأة في الجيش الميدان الثاني الذي تعززت فيه قوة الشبكات الاجتماعية التي تقوم بدور الوسيط بين الجيش والمجندين المتدينين (ص 248).

تحت عنوان "الدين في خدمة الجيش" (ص 298)، يقدم المؤلف في الفصل السادس تعاظم عملية "التنشئة" التي تقوم بها الشبكات الدينية في الجيش، لزيادة قدرتها التفاوضية معه، والتأثير على طابعه وطابع المهمات التي ينفذها. وقد شكل ميدان التربية الميدان الثالث الذي استطاعت الاتجاهات الدينية تصميمه داخل الجيش. ويوضح الفصل التقرطة الجارية من خارج وداخل الجيش، عبر الرابانوت العسكرية العامة، التي تم تحدي صلاحياتها ومكانتها كجهة مسؤولة عن تقديم الخدمات الدينية في الجيش، مما دفع القيادة العسكرية لتوسيع صلاحياتها. وقد تبدى هذا التحدي من خلال فتاوى شرعية لتوجيه سلوك الجنود كان قد أصدرها رجال دين قوميون متطرفون مدنيون من خارج المؤسسة العسكرية، مما دفع المؤسسة الدينية في الجيش لتفسير صلاحياتها على نحو أوسع، وإصدار فتاوى متطرفة لتبرير دورها ووجودها، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تقرطة المؤسسة العسكرية وقراراتها.

يعتقد المؤلف بأن الجيش الإسرائيلي انحرف عن مبدأين أساسيين ينظمان علاقة الجيش بالمجتمع الديمقراطي: المبدأ الأول، ضرورة فصل الجندي عن محيطه الاجتماعي، وإقامة حدّ فاصل بين المجتمع والجيش بغرض بلورة هويته كمواطن- جندي، بمعزل عن الصراعات السياسية. أما المبدأ الثاني، فهو ضرورة إبعاد الجيش عن مهام فرض النظام الداخلي (المهام الشرطية) وإبقائه بعيدا عن الصراعات الداخلية في النظام الديمقراطي (ص 238-239). وقد اعتبر إقامة "يشيفوت ههسدير"، التي مكنت المتدينين من تأدية الخدمة العسكرية في وحدات منفصلة عن باقي الوحدات، مع إبقاء المجند على تواصل أثناء خدمته بمدرسته الدينية، بأنها الخطوة الأولى نحو تسييس الجيش وتدينه. فقد اعتبر مسار التجنيد هذا تصدعاً في المبدأ الذي حدده بن غوريون في سنوات الدولة الأولى، والقاضي برفض إقامة وحدات عسكرية متجانسة عقائدياً أو سياسياً ومنفصلة عن باقي وحدات الجيش (العلماني)، الذي أوكلت له مهمة بناء الأمة إلى جانب مهامه الأمنية (ص 75). فلقد تخوف بن غوريون وقادة الجيش من الولاء المزدوج من جراء العلاقة التي قد تنشأ بين الوحدات المنفصلة والأحزاب الدينية. وهذا فعلاً ما عززته "يشيفوت ههسدير" لاحقاً. فقد تم الاتفاق في إطار مسار التجنيد هذا، على الحفاظ على العلاقة والرعاية الروحية (الأيديولوجية) بين المجندين المتدينين ومدارسهم التي هي جزء من شبكة مدارس "بني عقيبا" التابعة فعلياً لحزب المفدال (الحزب الديني القومي)، وبكلمات أخرى استطاع هذا الحزب الديني أن يقيم له وحدات عسكرية خاصة، يخدم فيها جنود متدينون فقط غالبيتهم الساحقة من خريجي مدارسه. ومع تراجع هذا المسار التجنيدي وغيره من المسارات التي لم تعد توفر شروط خدمة ومحفزات إلى جانب تراجع صيغة المواطنة الجمهورانية التي في إطارها قايضت الطبقة الوسطى الأشكنازية العلمانية الخدمة العسكرية مقابل محفزات ومكانة اجتماعية، مما أدى لإبعادها عن الجيش، ومع انتشار الخطاب الإثنو- قومي، عملت الحركات الدينية القومية على إقامة مسار جديد للخدمة العسكرية- المعاهد الدينية التحضيرية للجيش- مستجيبة بذلك لحاجة الجيش إلى القوى البشرية "النوعية" و"القيمية"، كما شهد الراب "إيلي سدان" الذي ينتمي للمعهد الديني الأكثر يمينية (مركاز هراف)، ومؤسس هذه المعاهد، حيث نسب فكرة إقامتها إلى حديث قائد المنطقة الوسطى في الانتفاضة الأولى العام 1988 الجنرال عمرام متسناع الذي قال: "الجيش بحاجة لكم (يقصد المتدينين) وللقيم التي تحملونها، وخصوصاً في هذه الأيام، بينما تنتشر التصدعات القيمية في المجتمع الإسرائيلي، بل ويُظهر ضعفاً في الاستعداد لتأدية الخدمة العسكرية. نحن بحاجة لقيمكم الروحية أكثر من أي وقت مضى". وسبق حديث عمرام متسناع حديث لموطي غور قائد هيئة الأركان في حرب 67. ففي مديحه للجنود المتدينين ووحداتهم لما قدموه أثناء الحرب، قال غور إن الجنود المتدينين سعوا في الماضي لإرضاء الضباط، واليوم يسعى الضباط لاستمالتهم كي يخدموا في وحداتهم ويشاركوا في عملياتهم العسكرية. (ص95)

____________________________
(*) أسير سياسي من فلسطينيي الداخل. تصدر قريبا عن "مركز مدار" ترجمته العربية لرواية "نبيلة" للكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي سامي ميخائيل.

المصطلحات المستخدمة:

إسرائيل الأولى, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات