تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 3482

خلفية عامة: الانتقال من نتنياهو إلى بينيت

في يوم الخميس 19 آب، اتفقت كل من قطر والأمم المتحدة وإسرائيل على الصيغة النهائية لإعادة إدخال أموال المنحة القطرية إلى قطاع غزة بعد ماراثون مفاوضات غير مباشرة. هذا هو الاتفاق الأول الذي تصادق عليه الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة نفتالي بينيت والتي بدأت عملها في 13 حزيران 2021. من خلال مقارنة الاتفاق الجديد لإدخال أموال المنحة القطرية إلى غزة، مع الترتيبات التي كان معمولا بها في فترة حكم بنيامين نتنياهو، تسعى هذه الورقة إلى وضع تقييم أولي لشكل الاستراتيجية التي من الممكن أن يتبناها نفتالي بينيت تجاه قطاع غزة في المستقبل.

الاتفاق على إعادة إدخال أموال المنحة القطرية لم يضع نهاية لحالة التوتر المتصاعد بين إسرائيل وقطاع غزة. ولقد شهد قطاع غزة عدة أحداث خلال شهري تموز وآب، الأمر الذي يشير إلى إمكانية انفجار الأوضاع. منذ تولي بينيت رئاسة الحكومة، تم إطلاق بالونات حارقة بشكل متفرق، وقامت إسرائيل بالرد عليها من خلال إطلاق النار على مواقع تابعة لحركة حماس بدون وقوع إصابات، الأمر الذي اعتبره البعض بأنه محاولات للاختبار المتبادل بين حركة حماس وحكومة بينيت الجديدة. متان تسوري وإلياهو ليفي، عودة البالونات الحارقة بعد حوالي ثلاثة أسابيع: 3 حرائق اندلعت في غلاف غزة، يديعوت أحرونوت، 25 تموز 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3B7cH26 لكن الأمر بدأ يتطور في منحى أكثر جدية بتاريخ 6 آب عندما اندلعت 4 حرائق في مواقع إسرائيلية في محيط قطاع غزة، فقامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بقصف مواقع داخل قطاع غزة. ليلاخ شوفال، رداً على إطلاق البالونات الحارقة، الجيش الإسرائيلي هاجم قواعد حماس في قطاع غزة، يسرائيل هيوم، 7 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3DeSoBJ في يوم الاثنين 16 آب، أطلق الجهاد الإسلامي صاروخا فلسطينيا من قطاع غزة في اتجاه بلدة سديروت في إثر اغتيال 4 فلسطينيين في جنين، وذلك لأول مرة منذ انتهاء الحرب الأخيرة. في اليوم التالي تجوّل بينيت برفقة كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي في محيط قطاع غزة مهدداً بأن "ما كان قبل حرب أيار لن يكون بعدها". غيلي كوهين، بينيت تجول في قطاع غزة: سنتصرف في زمان ومكان يناسبنا، كان، 17 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/38aSZG2 ومع أن الاتفاق الذي حصل بتاريخ 19 آب على إعادة إدخال الأموال القطرية إلى القطاع أوحى بإمكانية حصول انفراج، إلا أن الفصائل الفلسطينية أعلنت في اليوم التالي عن تنظيم مظاهرة بجانب الجدار الأمر الذي يشير إلى احتمالية تصعيد عسكري. في المظاهرات التي انطلقت بتاريخ 21 آب بالقرب من الجدار، أصيب جندي إسرائيلي برصاصة في رأسه، بالإضافة إلى عشرات الفلسطينيين. وعليه، أعلن المستوى الأمني- العسكري في إسرائيل أن الأوضاع تنذر بانفجار قريب وأن العودة إلى جولة حربية جديدة هي مجرد مسألة وقت،يانيف كوفوفيتش، تقديرات وزارة الدفاع: حماس مستعدة لجولة أخرى من القتال ضد إسرائيل، هآرتس، 23 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3AYgPBo خصوصا إذا ما تكررت المظاهرة التي تم تنظيمها بتاريخ 21 آب، وتحولت إلى فعالية أسبوعية، كما كانت الحال قبل حوالي عامين ("مسيرات العودة").

هذه الورقة تستشرف استراتيجية بينيت حيال قطاع غزة، وذلك من خلال رصد الخيارات المتاحة أمام الائتلاف الإسرائيلي الحالي خاصة مع التسخين الميداني الأخير. ولا بد من الإشارة إلى أن بينيت كان من أشد المنتقدين لاستراتيجية رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو تجاه قطاع غزة والقائمة على معادلة "الهدوء مقابل الهدوء"، والتي تشمل إدخال أموال المنحة القطرية بشكل شهري إلى قطاع غزة. في المقابل، فإن الخيارات البديلة المطروحة أمام بينيت، مثل الإطاحة بحكم حماس أو إعادة إعمار قطاع غزة وتطوير اقتصاده، تلاقي العديد من الصعوبات، الأمر الذي يستدعي رصد كل الخيارات المتاحة وأرجحية تطبيقها من قبل بينيت في الفترة القادمة.

كيف تعامل بينيت مع قطاع غزة خلال الأشهر الأولى لحكمه

فور انتهاء الجولة الحربية الأخيرة بين إسرائيل وقطاع غزة، والتي استمرت 11 يوما (10 أيار حتى 21 أيار 2021)، بدأ المستويان السياسي والأمني في إسرائيل، بقيادة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، بإعادة تقييم المشهد في محاولة لتحديد شكل العلاقة الجديدة مع حماس. وخلال أقل من شهر، تم تشكيل ائتلاف حكومي جديد وضع نهاية لحكومات نتنياهو المتعاقبة منذ العام 2009 والتي اتبعت استراتيجية عمل معينة تجاه قطاع غزة، يمكن تلخيصها وفق معادلة "الهدوء مقابل الهدوء" وتقوم على ثلاثة مركبات:

1) مالي- حصول حماس على المال مقابل الهدوء في قطاع غزة؛
2) سياسي- المحافظة على الانقسام من خلال منع انهيار حكم حماس في غزة؛
3) عسكري- استخدام قوة مفرطة في الأعمال الحربية للحفاظ على قوة ردع متصاعدة.

ويقف على رأس الحكومة الجديدة، التي بدأت عملها بتاريخ 13 حزيران، نفتالي بينيت، الذي يحاول أن يقدم نفسه باعتباره صاحب سياسات يمينية أكثر من سابقه لكنه محكوم بطبيعة الائتلاف الحكومي الجديد، والذي يضم ثمانية أحزاب تختلف عن بعضها في الرؤية السياسية، وتتراوح ما بين اليمين الديني، واليمين العلماني، والوسط، واليسار، بالإضافة إلى حزب عربي إسلامي، الأمر الذي يجعل إمكان صياغة استراتيجية عمل واضحة ومتفق عليها تجاه غزة أكثر صعوبة من ذي قبل. ومع ذلك، لا يسارع بينيت في إبرام اتفاق جديد مع قطاع غزة، بل يسعى، بشكل غير مباشر وعبر الوسطاء، إلى تثبيت معادلة جديدة أمام حركة حماس من شأنها أن تزيد هامش المناورة الإسرائيلية وتحقق مكاسب على الصعيد السياسي الإسرائيلي الداخلي باعتبارها ترتيبات أفضل من تلك التي كان يصيغها نتنياهو.

حتى الآن، تعامل بينيت مع قطاع غزة على صعيدين اثنين:
أولا: استخدام القوة، بشكل سريع وحذر، ضد قطاع غزة للرد على أي تهديد "أمني" مثل إطلاق البالونات الحارقة. وسياسة بينيت القائمة على الرد في كل مرة تتعرض فيها حماس لإسرائيل، تختلف عن سياسات نتنياهو الذي لم يجد نفسه مضطرا للرد في كل مرة تطلق فيها حماس بالونات حارقة، أو تقوم بفعاليات الإرباك طالما أن الأمر لا يحدث خسائر بشرية أو مادية. ويستخدم بينيت بشكل خاص، أو الائتلاف اليميني الحاكم بشكل عام، هذه السياسة للتسويق الإعلامي الذي ما فتئ يقارن ما بين نتنياهو وبينيت، أو ما بين تصريحات بينيت المتطرفة قبل توليه رئاسة الحكومة وأدائه الفعلي بعد توليها.

ثانيا: على صعيد آخر مواز، يقوم بينيت بإجراء "مفاوضات" غير مباشرة مع حركة حماس، من خلال الوسيط المصري و/أو القطري للوصول إلى ترتيبات جديدة تضمن الهدوء في قطاع غزة لفترة طويلة. بينيت يدرك جيدا أن هذه الترتيبات لا بد منها، وأن الوصول إليها هو مجرد مسألة وقت. العنوان العريض لهذه الترتيبات هو تثبيت الهدوء، لكن في تفاصيلها ثمة ثلاث قضايا لا بد من البت فيها عاجلا أم آجلا وهي: تبادل الأسرى، إدخال مواد وبضائع إلى غزة، وأموال المنحة القطرية. تختلف هذه القضايا الثلاث في درجات تعقيدها، وهامش المناورة المتوفرة لكلا الطرفين (إسرائيل وحماس).

شكل هذا التكتيك الذي يتراوح ما بين القوة العسكرية والمفاوضات غير المباشرة، أساس توجه الائتلاف الإسرائيلي الحاكم خلال الشهور الثلاثة الماضية تجاه غزة. ويأتي الاتفاق بشأن إدخال أموال المنحة القطرية في الوقت الذي لم تتضح فيه بعد المعالم الرئيسة لاستراتيجية بينيت بعيدة المدى تجاه قطاع غزة. فإدخال الأموال القطرية، على الرغم من حيويته بالنسبة للقطاع، لا يشكل حلا نهائيا للتوترات المستمرة بين إسرائيل وقطاع غزة. بل إن الوصول إلى هذا الاتفاق، قد يوحي بأن استراتيجية بينيت تجاه قطاع غزة قد لا تختلف جوهريا عن تلك التي اتبعها نتنياهو.

سنقوم بشرح الفروقات ما بين ترتيبات إدخال الأموال القطرية في فترة نتنياهو والترتيبات الجديدة التي صادق عليها بينيت. ثم نحاول أن نستشرف معالم استراتيجية بينيت المستقبلية تجاه قطاع غزة.

أموال المنحة القطرية: من "شنطة" العبادي إلى رقابة الأمم المتحدة

في تقرير مفصل تم مناقشته داخل الكابينيت الإسرائيلي المصغر في كانون الثاني 2019، تبين أن قطر كانت قد أدخلت حوالي 1.1 مليار دولار إلى قطاع غزة بين العام 2012 والعام 2018 بموافقة إسرائيلية وعبر آليات مختلفة. يانيف كوفوفيتش، بموافقة إسرائيل: قطر حولت أكثر من مليار دولار إلى غزة منذ العام 2012، هآرتس، 10 شباط 2019. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3sHji00 وأظهر التقرير أن هذه الأموال توزعت كالتالي: 480 مليون دولار لإعادة إعمار البنية التحتية، و440 مليون دولار تم صرفها على قطاع الصحة والتعليم في قطاع غزة، بينما الباقي (حوالي 180 مليون دولار) ذهب إلى حركة حماس. في العام 2018 لوحده، أدخلت قطر إلى قطاع غزة حوالي 200 مليون دولار، بالإضافة إلى قيامها بدفع حوالي 50 مليون دولار للأونروا (بعد أن جمد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مصادر تمويلها)، والتي بدورها ساهمت في دفع رواتب 180 ألف موظف من موظفي الأمم المتحدة في غزة. ووافق نتنياهو على كل هذه الترتيبات لقاء حصوله على الهدوء في محيط قطاع غزة.

جاء نقاش هذا التقرير في ذلك التوقيت بالتحديد، لأن حكومة نتنياهو كانت قد أبرمت اتفاقا جديدا مع قطر قبل ذلك بشهرين، وتحديدا في تشرين الثاني 2018. في السابق، كانت قطر ترسل الأموال إلى السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وهذه الأخيرة تقوم بتحويلها عبر حسابات بنكية إلى قطاع غزة. لكن عندما أوقفت السلطة الوطنية الفلسطينية تحويلات الأموال إلى بنوك غزة في العام 2018، وجدت إسرائيل نفسها مضطرة إلى البحث عن ترتيبات جديدة للحيلولة دون انفجار الأوضاع. بموجب الترتيب الجديد الذي توصل إليه نتنياهو في تشرين الثاني 2018، يقوم رئيس لجنة إعمار غزة (لجنة منبثقة عن وزارة الخارجية القطرية)، محمد العمادي، بإدخال الأموال عبر حقيبة يدوية ويسلمها شخصيا إلى مسؤولي حماس في قطاع غزة. وتلقى نتنياهو انتقادات لاذعة بعد إبرام هذه الصفقة، خصوصا من نفتالي بينيت الذي كان في حينه وزير التربية والتعليم. لكن انتقادات بينيت، التي رآها العديدون بأنها للتسويق الإعلامي والدعاية الانتخابية، لم تتطور إلى انسحاب من الائتلاف الحكومي. بينيت الذي أشار إلى خلافات سابقة مع نتنياهو، وألمح إلى نيته الانسحاب من الحكومة في حينه، تراجع بعد توقيع اتفاقية "حقيبة العمادي" واستمر في منصبه إلى حين إجراء الانتخابات التالية. Raoul Wootliff, “Bennett Drops Ultimatum despite Cold Shoulder from PM, Keeping Coalition Afloat,” The Times of Israel, November 19, 2018. https://bit.ly/3klzPmI. بل إن بينيت نفسه كان "شاهد زور" على صفقة إدخال أموال قطرية إلى غزة لمرة واحدة من خلال "الحقيبة" في وقت سابق من العام 2016 بحجة أنها أموال ملحة وذات أهداف إنسانية.

مع اندلاع الحرب في 10 أيار، جمد نتنياهو (الذي كان في أيامه الأخيرة كرئيس حكومة) الترتيبات المعمول بها تجاه غزة، بما يشمل إدخال "حقيبة العمادي" التي تعتبر حيوية بالنسبة لحركة حماس. بعد شهر واحد، أصبح نفتالي بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلي الجديد، واستمر في تجميد هذه الترتيبات حتى منتصف آب 2021. خلال هذه الشهور الثلاثة، لم تدخل أموال المنحة القطرية إلى غزة، وتركزت مساعي بينيت على عدم العودة إلى ذات الترتيبات السابقة، وإنما الضغط على حركة حماس لتقديم تنازلات تتعلق بعدة أمور أهمها آلية إدخال أموال المنحة القطرية وقدرة إسرائيل على مراقبة آلية توزيعها عن كثب. 

 

المنحة القطرية في فترة نتنياهو

المنحة القطرية في فترة بينيت

بداية التنفيذ

تشرين الثاني 2018

أيلول 2021

حجم المنحة شهريا

30 مليون دولار

توزيع المنحة

الثلث الأول

10 ملايين دولار مقابل شراء سولار

الثلث الثاني

10 ملايين دولار توزع على 100 ألف فرد فقير أو محتاج بواقع 100 دولار/الفرد

الثلث الثالث

10 ملايين دولار لدفع الراتب الشهري لحوالي 27 ألف موظف يعملون في أجهزة حماس الإدارية

آلية دخول الأموال

مباشرة (شنطة العمادي)

قطر تتبرع بالأموال إلى الأمم المتحدة ضمن برنامج الغذاء العالمي والتي بدورها تحولها إلى حسابات بنكية في غزة

آلية استلام الأموال

توزيع داخلي تشرف عليه حماس بشكل مباشر بدون وجود رقابة إسرائيلية أو قطرية حقيقية

من خلال كرت صراف آلي، وآلية يشرف عليها موظفو الأمم المتحدة الذي يحددون أسماء العائلات الفقيرة. استخدام البنوك يتيح لإسرائيل مراقبة التوزيع والمستفيدين النهائيين

موظفو حماس

فيما يخص الثلث الثالث، لم تكن إسرائيل قادرة على التحكم به، وواجهت انتقادات داخلية كبيرة بحجة أنها تمول "الإرهاب"

حتى الآن تم الاتفاق على إدخال المنحة القطرية المتعلقة بالثلث الأول والثاني. فيما يخص الثلث الثالث، لم يتم الاتفاق عليه.

جدول (1): مقارنة ما بين اتفاق المنحة القطرية في فترة نتنياهو (2018-2021) وفترة بينيت (2021- )

إن الجهود الكبيرة التي بذلها الوسطاء المصريون والقطريون للوصول إلى اتفاق جديد، واجهها بينيت برفض قاطع لاستخدام "حقيبة العمادي". لكن تصوير الترتيب الجديد الذي تشكل الأمم المتحدة جزءا أساسيا منه (أنظر الجدول 1) على أنه "إنجاز" لإسرائيل قد يكون فيه الكثير من المبالغة. يحاول بينيت، بالإضافة إلى وزير الدفاع بيني غانتس، تصوير الأمر على أنه إنجاز سياسي أمام حركة حماس بحيث أن إسرائيل ستكون قادرة من الآن فصاعدا على مراقبة قوائم المستفيدين من المنحة القطرية، وآليات توزيعها عبر البنوك في غزة. لكن هذه لم تكن أصلا قضية مرفوضة من قبل حماس والتي أبدت استعدادها لهذه الآلية (إدخال الأموال عبر الأمم المتحدة) منذ اليوم الأول لإبرام صفقة "حقيبة العمادي" في تشرين الثاني 2018. مبعوث قطري: أموال المساعدات ستُستثمر في مشاريع إنسانية ولن تُحوَّل إلى حماس، هآرتس، 25 كانون ثاني 2019. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.6873174 لكن الجديد الذي استطاع بينيت القيام به هو وضع فيتو على استفادة 27 ألف موظف من موظفي حماس، وبالتالي عرقلة الوصول إلى تفاهمات فيما يخص ثلث قيمة المنحة القطرية (الثلث الثالث في الجدول 1).

 استراتيجية بينيت تجاه قطاع غزة ما تزال غير واضحة

إن تحديد ما إذا كان بينيت يحذو فعليا حذو نتنياهو أم لا، يحتاج إلى بعض التفصيل.
ثمة ثلاث استراتيجيات بديلة تضعها إسرائيل نصب أعينها فيما يخص التعامل مع قطاع غزة تحت حكم حركة حماس:

1. الهدوء مقابل الهدوء: وفق هذه المعادلة، لا تحاول إسرائيل إسقاط حكم حماس، أو تدمير قوتها العسكرية بشكل نهائي. لكنها في المقابل تسعى إلى تطوير قوة الردع وتحويل أي مواجهة عسكرية مع حركة حماس إلى عبء كبير على قطاع غزة الذي سيتعرض إلى دمار هائل يجعل خيار أي مواجهة مستقبلية صعبا جدا بالنسبة لحماس. هذه الاستراتيجية التي تبناها نتنياهو خلال فترة حكمه أثبتت فشلها. اليوم، تنتقد الأوساط اليمينية هذه الاستراتيجية النتنياهوية والتي خلفت أربع حروب (2009، 2012، 2014، 2021). كما أن رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غادي أيزنكوت أشار إلى هذا الفشل عندما قال في الأيام الأخيرة من حكم نتنياهو إن معادلة الهدوء مقابل الهدوء تنطوي على تعقيدات كبرى، وتقيد إسرائيل بعمل الوسطاء (مثل مصر) وفي أحسن الحالات توفر لإسرائيل هدوءا نسبيا قبل أن تنفجر الأوضاع مجددا. أمير نوعام، التحدي الأمني للحكومة القادمة: وضع استراتيجية لقطاع غزة، مكور ريشون، 10 حزيران 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3yaXqvi

2. إنهاء حكم حماس في غزة وتدمير القوة العسكرية لهذه الحركة. لم يكن هذا خيارا عمليا بالنسبة لنتنياهو على الرغم من أنه قد يكون خيارا ملائما من الناحية النظرية. والسبب هو أن نتنياهو، في عقيدته، لا يفضل الحروب التي قد تضع إنجازاته الداخلية على المحك، وتعرض إسرائيل إلى انتقادات لاذعة من قبل المجتمع الدولي. هذا الخيار يتطلب تجفيف موارد حماس نهائيا، وتحويل قطاع غزة إلى منطقة منكوبة إنسانيا، ومن ثم الانقضاض على قطاع غزة عسكريا، بما يشمل اجتياحا بريا ينتهي إما بإجلاء قوات حماس (كما حصل في حصار بيروت 1982) أو تفكيكها. لكن، بالنسبة لإسرائيل، هذا قد ينهي الانقسام ويعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت قيادة السلطة الفلسطينية.

3. إعادة إعمار غزة. واضح بالنسبة لإسرائيل أن الإشكالية الراهنة لقطاع غزة تتمثل في الفقر، وانعدام أشكال الحياة، والحصار وعدم القدرة على النمو والازدهار. إن إعادة إعمار غزة لا يمكن أن يتم من خلال مجرد إدخال المنحة القطرية، أو فتح المعابر بشكل جزئي، أو القيام بتسهيلات آنية ملموسة مثل رفع الطاقة الكهربائية، وكمية المحروقات، والتبادل التجاري وغيرها. فكل هذه الأمور، طالما بقيت آنية فإنها قد تتناسب أكثر مع معادلة "الهدوء مقابل الهدوء" والتي من خلالها تتحكم إسرائيل بتوقيت ونوعية التسهيلات لقاء المحافظة على الهدوء. في المقابل، إعادة إعمار غزة تتطلب استراتيجية مغايرة تشمل تطوير كل البنية التحتية، تشييد ميناء، فتح باب العمالة داخل إسرائيل، إنهاء مشكلة البطالة في غزة. ونتنياهو لم يسلك هذا الطريق بتاتا.

في أعقاب الحرب مع غزة في العام 2014 (والتي تطلق عليها إسرائيل اسم "الجرف الصامد" وتطلق عليها حماس اسم "العصف المأكول")، أطلق بينيت تصريحا يمكن من خلاله استشراف رؤيته تجاه قطاع غزة. في تلك الفترة، كان بينيت عضوا في الكابينيت الإسرائيلي المصغر، وانتقد بشكل لاذع أداء نتنياهو في الحرب، واتهم أعضاء الكابينيت المصغر بأنهم يخفون عنه تفاصيل حيوية، واستكمل انتقاده بتقديم رؤية بديلة بقوله:

"لدي اهتمام كبير بإعادة إعمار غزة وتأهيلها مدنيا. أنا أتحدث من منطلق الفطرة السليمة وأنظر إلى الواقع كما هو بالفعل. عندما تحين اللحظة للإطاحة بحماس، يمكننا القيام بذلك. قد تأتي هذه اللحظة يوما ما. لكن طالما أنها لم تأت، علينا أن نبادر لإعادة إعمار قطاع غزة." بينيت، لا بد من إعمار غزة، هآرتس، 23 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/2WkPtGT

هذا التصريح القديم يشير إلى أن استراتيجية بينيت تتراوح ما بين الخيار الثاني (الإطاحة بحركة حماس) والخيار الثالث (إعادة إعمار غزة). وكلا الخيارين لم تقم إسرائيل بتجربتهما طيلة فترة حكم نتنياهو الذي نأى بنفسه عن الدخول في أي مغامرة سياسية أو عسكرية. إن تطبيق أحد هذه الخيارات سيحتاج إلى قرار سياسي بالدرجة الأولى، ومن غير الواضح فيما إذا كانت هذه الخيارات ستلاقي اعتراضات من المستويات الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية.

لكن من قراءة الظرف السياسي الحالي، يمكن استخلاص التالي:
1. يعتبر بينيت أن سياسة نتنياهو خلال أكثر من عقد كانت فاشلة فشلا ذريعاً. وعليه، يدرك بينيت أن ادخال أموال المنحة القطرية (او على الأقل ثلثي أموال المنحة) سوف لن ينهي الإشكالية الحقيقية الماثلة امام إسرائيل. كما أن منح تسهيلات متقطعة ومضبوطة (مثل فتح المعابر، زيادة كمية البضائع الواردة إلى غزة، توفير الكهرباء) قد يمنح إسرائيل المزيد من الوقت قبل أن تنفجر حرب جديدة. هذا الأسلوب النتنياهوي يبدو مستبعدا لدى بينيت، وقد لا يشكل بالنسبة له خيارا عمليا على المدى البعيد الأمر الذي يرجح إما خيار حرب واسعة تشمل اجتياحا بريا وتحمل تبعات داخلية (قتلى إسرائيليين، آثار اقتصادية كبرى) وخارجية (انتقاد دولي) وإما إعادة إعمار غزة وتحقيق ازدهار فعلي لاقتصاد قطاع غزة، وإما خليطا بين الاستراتيجيتين.

2. الائتلاف الحكومي الحالي قد يبقى متماسكا طالما تربع الشأن الإسرائيلي الداخلي على جدول أعماله بدون منازع. في حال أجبر الائتلاف على وضع إحدى القضايا الإقليمية أو السياسية أو الأمنية- العسكرية على سلم أولوياته، فإنه سيكون قريبا من الانهيار بسبب اعتماد الائتلاف الحاكم على قاعدة انتخابية ضيقة (61 مقعدا)، بالإضافة إلى التباين الحاد في الأجندات السياسية لأعضاء الائتلاف. وقد يضع خيار المواجهة العسكرية الشاملة (والتي لا تعني مجرد جولة قتال أخرى على غرار أسلوب نتنياهو) نهاية سياسية لبينيت الذي يحكم إسرائيل من خلال ستة مقاعد فقط في حال فشل في إدارة الحرب. ومع ذلك، فإنه لا يجب إسقاط خيار "تدمير حماس" بشكل مطلق، كونه خيارا مرغوبا لدى بينيت الذي صرح به أكثر من مرة، وادعى أنه وضع خططا ملموسة أمام قيادة الجيش الإسرائيلي. بيد أن حسابات الجيش الإسرائيلي قد تختلف عن الحسابات السياسية لبينيت، الأمر الذي دفع الجيش في الحروب الأخيرة إلى الدخول في جولة حربية بدون تحديد أهداف واضحة لئلا يعتبر عدم القدرة على إسقاط حماس فشلا عسكريا.

3. تنطوي رؤية بينيت للصراع مع الفلسطينيين بشكل عام على مبدأ تقليل الاحتكاك وتجفيف منابع التوترات على المدى المتوسط والبعيد بدون تقديم أي تنازل سياسي. هذه الرؤية التي قد تكون أقرب إلى مفهوم "تقليص الصراع"راجع التحليل المتعلق بمفهوم "تقليص الصراع" في ملحق "المشهد الإسرائيلي" الصادر عن مركز مدار بتاريخ 2 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3ydqVwj قد تعني أن خيار إعادة إعمار غزة وفق شروط وضوابط إسرائيلية ستكون الخيار الأكثر أرجحية بالنسبة للائتلاف الحاكم على المدى المتوسط.

لقد استخدم بينيت قنواته الخفية مع مصر لتسهيل استخدام معبر رفح، كما أنه أمر "المنسق" بالإسراع في إدخال أكثر من 1000 صنف من المواد إلى غزة. أمير نوعام، على الرغم من التصعيد، لماذا تم تقديم التسهيلات للقطاع؟، مكور ريشون، 18 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3sLwam2 حتى الآن، تبقى هذه الخطوات بمثابة "مسكن آلام" ولا تشكل تغييرا جذريا في سياسة إسرائيل تجاه قطاع غزة. تتمثل الإشكالية الأساسية لدى بينيت في طبيعة العلاقة ما بين إسرائيل وقطاع غزة على المدى المنظور وقبل اتضاح معالم الاستراتيجية الفعلية التي سيتبناها (الإطاحة بحكم حماس، أو إعادة إعمار قطاع غزة، أو توجيه ضربة لقادة حماس مع إعادة إعمار قطاع غزة في نفس الوقت). في هذه الفترة التي سنشهد فصولها خلال العام القادم على الأقل، سيضطر بينيت إلى إدارة الأزمة حسب أسلوب نتنياهو السابق (بما يشمل حل قضية الأموال القطرية). فبدون استراتيجية عمل جديدة، لن تكون إسرائيل قادرة بالفعل على إنهاء التوترات مع قطاع غزة، بل إن المستوى العسكري الإسرائيلي يبدو غير قادر حتى على فهم سلوك حماس الأمني والسياسي، سيما بعد انتهاء الحرب الأخيرة.        خوري جاكي، في ضوء محاولات الوساطة، غزة توافق على العودة للاحتجاج بالقرب من السياج يوم السبت، هآرتس، 18 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3BcUfoR ففي الوقت الذي تم فيه الوصول إلى اتفاق بشأن أموال المنحة القطرية، تحاول حماس أن تصعد من احتجاجاتها في قطاع غزة، والعودة إلى مظاهرات الإرباك بالقرب من الجدار، بالإضافة إلى تكثيف إطلاق البالونات الحارقة. وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجيش الإسرائيلي أن الحرب الأخيرة أضرت بالجهاز العسكري لحماس، تبين التقارير الإسرائيلية الجديدة أن حماس مستعدة فعليا لجولة حرب جديدة.