تهدف هذه الورقة إلى تحليل الموقف الإسرائيلي من الأحداث الأخيرة المتعلقة بقطاع غزة، ولا سيما تواتر الحديث عن توقيع تسوية مع حركة حماس حول مستقبل القطاع المنظور.
وتنطلق الورقة من مقولة أن الموقف الإسرائيلي الحالي من الأحداث الأخيرة، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى السلوك (السياسي والعسكري والدبلوماسي)، ظل مرتبطا مع التوجه الإسرائيلي الإستراتيجي المتمثل في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، بحيث تحول هذا الهدف إلى المحور المركزي في الإستراتيجية الإسرائيلية، بينما تراجعت هوية من يحكم غزة إلى محور هامشي، ما دامت إسرائيل قادرة على ضمان وتحقيق الهدف المركزي لها بالنسبة إلى قطاع غزة.
وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن هذه الرؤية الإسرائيلية لقطاع غزة تتعرض لتحديات، مثل: موقف السلطة الفلسطينية، وموقف حركة حماس نفسها، والموقف المصري، والموقف الدولي.
تناقش هذه الورقة أبرز هذه المسائل، إنما فقط على ضوء الأحداث الأخيرة في قطاع غزة.
مقدمة
تعاملت إسرائيل مع قطاع غزة، بعيد الانفصال بين غزة والضفة من جراء الانقسام في العام 2007، كمسألة أمنية في البداية وخاصة بعد فك الارتباط أحادي الجانب الذي قاده أريئيل شارون العام 2005. وتطورت الرؤية لاحقاً لتكون غزة مسألة سياسية أيضا. وهدفت خطة فك الارتباط أو الانفصال الشارونية إلى تحييد قطاع غزة سياسيا وأمنيا عن قضايا الحل الدائم. ولا يستبعد كثير من المحللين أن شارون في قرارة نفسه كان يهدف من وراء خطته أيضا إلى فصل غزة عن الضفة الغربية كجزء من رؤيته للحل، الذي لم يكتمل بسبب مرضه وتنحيته عن السلطة. ولاحقا، بعد سلسلة من الحروب التي أعقبت الانفصال الإسرائيلي عام 2005 والانقسام الفلسطيني عام 2007، وبعد صعود اليمين الإسرائيلي إلى سدة الحكم عام 2009، بدأ اليمين ينظر إلى الانقسام الفلسطيني كـ"فرصة سياسية" لتعزيز رؤيته للحل أو عدم الحل. فمن جهة تقارع إسرائيل السلطة بكونها لا تمثل كل الفلسطينيين بسبب عدم سيطرتها على قطاع غزة، ومن جهة أخرى ترفض أي مصالحة فلسطينية تؤدي إلى وحدة السلطة بين القطاع والضفة بذريعة أن حركة حماس إرهابية. لذلك فإن الحربين التي شنهما اليمين على قطاع غزة وهو في السلطة (عام 2012 وعام 2014) لم تكونا بهدف إسقاط حكم حماس لقطاع غزة، وإنما للحفاظ على الوضع القائم الذي رسمته إسرائيل وفق مصالحها، ويتمثل ذلك في ثلاث نقاط:
أولا: تكريس الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
ثانيا: الحفاظ على الهدوء الأمني في ظل الانقسام، وخاصة من غزة.
ثالثا: الإبقاء على الحصار المفروض على قطاع غزة مع بقاء الانقسام والهدوء الأمني.
الأحداث الراهنة وخيارات التسوية
بدأت الأحداث الراهنة في أعقاب "مسيرات العودة"، التي أطلقتها قطاعات شبابية وسياسية ووطنية فاعلة في قطاع غزة، وتمثل هدفها الأساس في فك الحصار عن قطاع غزة بعد أن تراجعت قضية الحصار على المستويين العربي والدولي، لا سيما بعد سنوات من الهدوء العسكري والأمني النسبي الذي ساد بين إسرائيل وحركة حماس عقب الحرب الأخيرة على غزة عام 2014 (عملية "الجرف الصامد"). وساهمت المسيرات، بكيفية ما، في إعادة قضية قطاع غزة إلى الأجندة العربية والدولية والإسرائيلية من جديد. وتعاملت إسرائيل مع "مسيرات العودة" بأنها جزء من العمل العدواني لحركة حماس ضد إسرائيل، وتمت بشكل مثابر شيطنة هذه المسيرات باعتبار أن هدفها هو "اختراق الحدود" و"تنفيذ مذابح بحق اليهود الساكنين في المنطقة المحاذية للقطاع"!. وتزامنت المسيرات مع تدشين السفارة الأميركية في القدس، فحملت الاحتجاجات مقولة سياسية تتعدى فك الحصار عن قطاع غزة. غير أن السردية الإسرائيلية للمسيرات وما أعقبها من إطلاق بالونات حارقة باتجاه حقول المستوطنات المحاذية للقطاع، بقيت على حالها في اعتبار أن هذه المسيرات جاءت بمبادرة ودعم وتنظيم من حركة حماس، وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن حركة حماس تمر بظروف سياسية واقتصادية ودولية صعبة، وخاصة بعد عزلتها عربيا وحصارها مصريا، فلجأت إلى "مسيرات العودة" لفك عزلتها وحصارها.
ثانيا: بسبب هذه العزلة والحصار الإسرائيلي والعربي فإن حركة حماس عاجزة عن استعمال القوة العسكرية أمام إسرائيل، فنتائج الحرب على غزة عام 2014 لا تزال ماثلة أمامها، فضلا عن أن إسرائيل ستكون أكثر حرة في القتل والهدم في حرب قادمة مع غزة لانشغال العالم بقضايا أخرى، فتبنت "مسيرات العودة الإرهابية" لمقارعة إسرائيل من دون دفع ثمن عسكري بالغ كما لو في حال مواجهة عسكرية مباشرة.
ثالثا: تصعيد العداوة بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية، وغياب أفق للمصالحة بين الطرفين والخطوات التي اتخذتها السلطة تجاه قطاع غزة في الجانب الاقتصادي، حيث بدأت حماس تبحث عن أفق سياسي جديد للخروج من العزلة وفك الحصار.
ومنذ انطلاق "مسيرات العودة" يوم 30 آذار 2018 اندلعت شبه مواجهة عسكرية غير مباشرة في كل مرة ليوم واحد، حيث تطلق المقاومة عشرات الصواريخ على إسرائيل كرد على قصف إسرائيل للقطاع، وهدفت من ذلك إلى الحفاظ على تفاهمات الحرب الأخيرة على غزة، وعدم السماح لإسرائيل في استسهال ضرب قطاع غزة عبر الجو وقتل مقاومين.
التسوية في غزة
هناك تداول غير واضح في إسرائيل حول موضوع التسوية بشأن قطاع غزة. ولا بد من البدء بالقول إن الخطاب الإسرائيلي يطلق على الاتفاق الذي يتم التداول بشأنه صفة "هسدراه"، وهي كلمة غير واضحة المعنى في هذا الشأن، ولكن تحاول الحكومة الإسرائيلية تسويق هذا المصطلح إعلاميا، لأنه يوحي بأن ما يتم في القطاع هو ترتيب قضايا ذات طابع أمني واقتصادي وسياسي، وليس اتفاقا مع حركة حماس، وهي جزء من محاولة نتنياهو تسويق التسوية مع حركة حماس على عكس رغبة الشارع الإسرائيلي بالعموم الذي يطالب بحملة عسكرية وتصفيات وتضييق الخناق على الفلسطينيين في غزة. فبحسب استطلاع للرأي العام أجري حول موقف الجمهور الإسرائيلي بشأن التسوية في قطاع غزة، أشير إلى أن 40% يعارضون هذا الاتفاق مقابل 27% يؤيدونه. وهو نفس الموقف تقريبا لمؤيدي الليكود (41% و-28% على التوالي).
على العموم، هناك ضبابية في التصريحات الإسرائيلية حول التسوية مع غزة بعد جولة المواجهة الأخيرة التي أطلقت فيها المقاومة أكثر من مئة صاروخ على إسرائيل في أعقاب قيام الجيش بقتل فلسطينيين من كتائب القسام. في البداية قاد الخطاب عن التسوية وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، الذي تحدث عن تسوية يكون محورها اتفاق على وقف إطلاق النار كليا في مقابل تسهيلات اقتصادية متسارعة، وقد ووجه بنقد شديد من وزير التربية التعليم ورئيس حزب "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، الذي هاجم ليبرمان قائلا "إن من يخضع لابتزاز حماس سيجلب علينا الحرب"، علاوة على النقد الشديد الذي وجه لهذا الاتفاق وخاصة أنه لا يشمل إعادة جثتي جنديين ومواطنين إسرائيليين محتجزين في غزة، ويظهر إسرائيل بموقف الخاضع لإملاءات حماس، لا سيما من يمين الخارطة السياسية، وقد تراجع ليبرمان عن تسويقه للاتفاق مدعيا بأن لا علم لدية بوجود تسوية حول الموضوع، وذلك على الرغم من أن مصادر دولية تؤكد أن إسرائيل وحماس توصلتا إلى اتفاق بعدم خوض حرب جديدة بينهما.
وحاليا تحاول الحكومة الإسرائيلية تسويق أي تسوية حول غزة باعتبارها اتفاقاً لوقف إطلاق النار فقط وليست تسوية سياسية، حيث أكد ليبرمان أن كل وقف لإطلاق النار سيعقبه تحسن للاقتصاد الفلسطيني في غزة. على كل حال، لم يخرج حتى الآن تصريح رسمي إسرائيلي حول وجود تسوية في غزة، وربما أن الأمر نابع من كون نتنياهو يريد الاحتفاظ بذلك في السر حاليا، فهو لم يشرك المجلس الوزاري المصغر بهذه التفاصيل، علاوة على أن هناك نقداً شديداً لهذه التسوية نابعاً من أن كل تسوية مع حماس لن تصمد كثيرا وأن الحرب قادمة لا محالة، وهو ما عبر عنه عاموس يدلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق ومدير مركز دراسات الأمن القومي.
وكتب يدلين: "هناك وضعيتان، الأولى وهي غير قابلة للتحقيق حتى الآن وتتمثل في اتفاق طويل المدى، أو "تسوية شاملة"، أي اتفاق على وقف إطلاق النار طويل المدى يشمل فك الحصار عن غزة، وترميم الاقتصاد والبنى التحتية، والاستثمار، وعودة السلطة الفلسطينية لقطاع غزة، وتبادل أسرى، ومنع تعزيز قوة الذراع العسكرية لحركة حماس ونزع السلاح في غزة. هذا الوضع غير ممكن في هذا السياق بسبب ثلاثة عوائق: حماس لن تتخلى عن ذراعها العسكرية؛ السلطة الفلسطينية ترفض أن تكون طرفا في الاتفاق؛ مطالب حماس لاتفاق حول إعادة جثتي الجنديين والمواطنين غير منطقية". ويكمل يدلين حول الوضعية أو الخيار الثاني قائلا: "في الجهة الأخرى هناك حملة عسكرية شاملة (حرب). والحديث هنا يدور حول مواجهة كبيرة. وفي خضم ذلك، فإن حماس ستطلق صواريخ للمدى البعيد الذي تقدر عليه، وستطلق راجمات مع رؤوس ثقيلة أكثر، وستحاول الدخول لإسرائيل عن طريق الأنفاق أو البحر، وستستعمل طائرات من دون طيار، وفي المقابل ستستعمل إسرائيل سلاح الجو ضد مئات الأهداف التابعة لحماس، وستعود للاغتيالات، وستتوغل أرضيا بشكل لم تقم به في أثناء عملية الجرف الصامد (2014)". ويشير يدلين إلى أن الطرفين غير راغبين في المواجهة الشاملة، كل لأسبابه، لذلك فإن التسوية التي تسعى لها إسرائيل يجب أن تشمل برأيه أربعة أهداف، وهي أهداف ضمن الإستراتيجية الأوسع التي يجب أن تكون في التعامل مع قطاع غزة.
والأهداف الأربعة بحسب يدلين هي:
أولا: إعادة الهدوء والأمن إلى المنطقة المحاذية للقطاع وترميم قوة الردع الإسرائيلية.
ثانيا: فصل قطاع غزة من المسؤولية الإسرائيلية من خلال إعادة السلطة الفلسطينية إلى هناك أو إلقاء المسؤولية على مصر.
ثالثا: ترميم قطاع غزة ومنع أزمة إنسانية.
رابعا: نزع قطاع غزة من السلاح، أو على الأقل منع تعزيز قوة حركات المقاومة هناك.
من جانبه يشير المحلل العسكري رون بن يشاي إلى أن التسوية في قطاع غزة جاءت من طرف الأجهزة الأمنية (الجيش، الشاباك ومجلس الأمن القومي) وتبناها نتنياهو وليبرمان، وتنطلق فكرة التسوية من هدف منع اندلاع حرب في القطاع، بغية التركيز على الجبهة الشمالية، وغياب أفق السياسي بعد الحرب، حيث يشير بن يشاي إلى إيجابيات التسوية كما عرضت في المجلس الوزاري المصغر على النحو التالي:
أولا: ستؤدي التسوية إلى فرض الهدوء في الجنوب، من دون خسائر بشرية أو عسكرية، ومن دون محاولات لأسر جنود قد تنجح، ومن دون صرف مليارات الشواكل.
ثانيا: ستمنح التسوية إمكانية إكمال إقامة الجدار العائق على حدود القطاع، وسيعطي الإمكانية للتركيز على مواجهة التواجد الإيراني في سورية.
ثالثا: التسوية سوف تمنح إسرائيل شرعية دولية لعمل عسكري واسع في غزة إذا ما فشلت التسوية.
رابعا: نجاح التسوية سوف يمنع أزمة إنسانية في القطاع والتي ستتهم فيها إسرائيل، وسوف تقلل من دافعية الشباب للانخراط في أعمال عسكرية ضد إسرائيل.
خامسا: التسوية سوف تعزز من حكم حماس، لكن هذا الواقع أفضل لإسرائيل من حالة الفوضى التي قد تسود في غزة بغياب حماس، علاوة على ذلك فإن هذا سوف يعزز الانقسام والعداء بين حماس والسلطة الفلسطينية.
إجمـال
تتجه إسرائيل نحو عقد تسوية مع حركة حماس في قطاع غزة، لكن إسرائيل ما تزال حتى الآن غامضة في طرح تفاصيل هذه التسوية، وتسوقها حالياً على أنها اتفاق لوقف إطلاق النار في مقابل امتيازات اقتصادية في القطاع. مع ذلك، لا شك في أن الإستراتيجية الإسرائيلية حيال القطاع باتت أكثر وضوحاً عما كانت عليه في السابق، وهي إبقاء الانقسام الفلسطيني وفصل غزة عن الضفة. ويتضح أن الحكومة الإسرائيلية في كل ما يتعلق بالتعامل مع قطاع غزة تستمع إلى الأجهزة الإستراتيجية في إسرائيل، التي تقترح حلولاً وأدوات للتعامل مع القطاع بخلاف مواقف القواعد الاجتماعية لليمين الإسرائيلي الحاكم التي تطالب بعملية عسكرية شاملة في القطاع يكون غايتها إسقاط حماس. وليس صدفة أن ليبرمان وحتى نتنياهو نفسه تراجعا عن مواقفهما السابقة حول ضرورة إسقاط حكم حماس في غزة، أو احتلال القطاع عبر عملية برية كبيرة، وذلك انسجاما مع الإستراتيجية الإسرائيلية الأشمل إزاء التعامل مع قطاع غزة، والتي يقف في صلبها البعد السياسي (تعزيز الانقسام الفلسطيني) والبعد الأمني (الحفاظ على الهدوء الأمني ومنع تعزيز قوة حركة حماس).