كيف تكون مدينة القدس "مركز الحكم" الإسرائيلي؟ ما هي مواصفات مثل هذا "المركز" ومقوماته؟ ما الذي ينقص مدينة القدس كي تكون "مركز الحكم" الإسرائيلي وما الذي يجب تغييره و/ أو إنجازه من أجل ذلك؟
هذه هي الأسئلة المركزية التي تسعى "وثيقة سياساتية" صدرت حديثاً كدراسة عن "معهد القدس لبحث السياسات" للإجابة عليها ضمن رؤية شاملة ترمي، في هدفها الأكبر، إلى "تعزيز مدينة العاصمة"، لأسباب عديدة ومختلفة من بينها: أن "مدينة الحكم" الناجحة تشكل تجسيداً لنظام ديمقراطي صحي ومتين؛ أن في "مدينة الحكم" درجة عالية من انتقال المعلومات والمعرفة والأفكار بين لاعبين مختلفين، مما يرفع من مستوى الإبداع والتجديد في تطوير السياسات؛ أن "مدينة الحكم" الناجحة تشكل مرساة للنشاط الاقتصادي والتجاري، بما يؤدي إلى تطوير الخدمات في محيطها بمستوى عال؛ أن "مدينة الحكم" الناجحة تشكل مركز جذب للسياحة المهنية، مثل المؤتمرات والمعارض التقنية التي تستقطب باحثين، عاملين في التقانة العالية (الهايتك) والخدمات وما شابه؛ أن "مدينة الحكم" الناجحة تشكل مصدر فخر واعتزاز للعاملين في القطاع الحكومي، للمدينة وأهلها وللدولة ومواطنيها عموماً.
تنضم هذه الوثيقة السياساتية، التي صدرت بعنوان "القدس كمركز للحكم ـ وثيقة سياساتية"، إلى جملة من الدراسات التي أعدها "معهد القدس لبحث السياسات" في موضوعة "مدينة الحكم" خلال السنوات الأخيرة، لوضعها أمام صناع القرار بغية اطلاعهم على الامتيازات الاقتصادية والأخرى الكامنة في جعل القدس "مدينة حكم ناجحة".
ويوضح "معهد القدس لبحث السياسات" أن وثيقته هذه، التي تبحث في كيفية تطوير القدس كمدينة حكم وجعها "مركز حكم ناجحاً"، مقدمة إلى وزارة القدس والتراث وإلى سلطة تطوير القدس، كجزء من سلسلة دراسات أجريت وستجرى حول الموضوع في إطار مشروع "هيوفيل" لتطوير المدينة اقتصادياً.
وتشكل الوثيقة الحالية ثمرة الدراسة المركزية في هذه السلسلة (التي تجري تحت عنوان "المدينة والحكم في صهيون")، إضافة إلى دراستين أخريين كانت الأولى حول نقل الوحدات الحكومية المختلفة إلى مدينة القدس، والتي تركزت حول الفائدة الاقتصادية التي ستجنيها مدينة القدس من نقل 91 وحدة حكومية من منطقة تل أبيب إليها، تنفيذا لقرار حكومي صدر منذ ما يزيد عن عقد من الزمن لكنه لم يطبق بعد. وتقدر هذه الفائدة الاقتصادية المباشرة بنحو 1ر382 مليون شيكل في السنة، علاوة على زيادة نحو 9540 عاملاً.
تركز الوثيقة على ضرورة تعزيز ما تسميه "منظومة الصدى الحوكمي" في مدينة القدس باعتبار ذلك مفتاحاً لتحويل المدينة إلى "مدينة حكم ناجحة ومزدهرة"؛ وتنطلق من تعريف "مدينة الحكم الناجحة" و"منظومة الصدى الحوكمي"، ثم تصيغ أربعة شروط أساسية لوجود "مدينة حكم ناجحة"، يليها عرض للوضع القائم في مدينة القدس حالياً، والتي تعاني من مواطن ضعف عديدة في أدائها كمدينة حكم، ثم تخلص في النهاية إلى طرح بعض التوصيات للعمل في ثلاثة مجالات أساسية: المنالية، التجارة وتطوير "منظومة الصدى الحوكمي".
مدينة الحكم و"منظومة الصدى الحوكمي"
تضع الدراسة تعريفاً لـ"مدينة الحكم" يعتبرها مدينة العاصمة التي تقوم فيها مؤسسات الحكم المركزية في الدولة: الوزارات الحكومية المختلفة، البرلمان، المحكمة العليا ومؤسسات سلطوية أخرى. غير أن هذا كله ليس كافياً لجعلها "مدينة حكم ناجحة". ذلك أن هذه الأخيرة هي التي تتوفر فيها شبكة من الروابط والعلاقات التبادلية بين اللاعبين الذين يشكلون ما يُعرف في الأبحاث بـ " شبكات السياسة" التي تتيح إمكانيات التعلم المتبادل وبلورة رد تجديديّ على التحديات العامة.
بكلمات أخرى، "مدينة الحكم الناجحة" هي المدينة التي يشكل الحكم فيها جزءاً مركزياً من النسيج المديني وتحيط به منظومة متكاملة من العناصر التي تعمل حول القطاع الحكومي وتقيم معه علاقات تبادلية متشعبة وغنية. وتشمل هذه العناصر: معاهد الأبحاث، مجموعات الضغط السياسي، شركات الاستشارة الاستراتيجية، المؤسسات الأكاديمية، منظمات المجتمع المدني وجمعيات القطاع الثالث، مكاتب الدعاية والعلاقات العامة، المنظمات الدولية، السفارات، القنصليات والممثليات الدبلوماسية، وسائل الإعلام الرائدة والشركات الخاصة التي تزود الحكومة بخدمات مختلفة. هذه العناصر مجتمعة هي التي تضعها الدراسة تحت مسمى "منظومة الصدى الحوكمي"، مع التنويه بأنه تجري بين مركّبات وعناصر "منظومة الصدى الحوكمي" سلسلة من التفاعلات المتبادلة، في مركزها التعاون المشترك في قضايا التفكير، تطوير المعرفة وتطوير الأدوات العصرية لتحسين أداء هذه المركّبات والعلاقة بينها.
النموذجان البارزان اللذان توردهما الدراسة عن "مدينة الحكم" الناجحة هما واشنطن وبرلين، اللتان كانتا "حتى وقت قريب، مثل القدس ـ بعيدتين عن تشكيل نموذج ناجح لمدينة حكم، إلا أنهما أصبحتا قصة نجاح عالمي خلال العقدين الأخيرين"، إذ أصبحت تتوفر فيهما اليوم الجوانب المركزية من مدينة الحكم الناجحة: وجود مقرات الحكومة في موقع مركزي وجذاب؛ سهولة الوصول إلى مجمع المقرات الحكومية؛ نشاط كل مركّبات "منظومة الصدى الحوكمي" في المدينة، نسبة مرتفعة من الشبان وذوي المكانة الاقتصادية ـ الاجتماعية المتينة من بين السكان.
بعض هذه المركّبات تتوفر في القدس أيضا، بينما تنقصها مركبات أخرى، إما كلياً أو جزئياً، من أبرزها، كما تشير الدراسة: السفارات الأجنبية، وسائل الإعلام، جماعات الضغط السياسي وشركات التشبيك والاستشارات الاستراتيجية، ناهيك عن أن "الوجود الحكومي في العاصمة غير متكامل".
الوضع في مدينة القدس اليوم ـ معطيات
يعمل في مدينة القدس اليوم العدد الأكبر من مجموع العاملين في القطاع العام (الحكومي) الإسرائيلي، غير أن نصفهم فقط يقيم في المدينة نفسها.
المكاتب الحكومية: المكاتب الحكومية المختلفة في المدينة موزعة على ثلاثة تجمعات رئيسية هي: 1. "كريات هليئوم" في حي "جفعات رام"، والتي تشمل الغالبية الساحقة من مكاتب الوزارات الحكومية والمؤسسات الرسمية مثل المحكمة العليا، الكنيست و"بنك إسرائيل" المركزي؛ 2. مجمع المكاتب الحكومية في حي "الشيخ جراح"، والذي يشمل مقار أربع وزارات حكومية هي: وزارة البناء والإسكان، وزارة الأمن الداخلي، وزارة العلوم والفضاء ووزارة العدل (في شارع صلاح الدين)؛ 3. المنطقة الصناعية في حي "جفعات شاؤول"، حيث مقار وحدات حكومية عديدة. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة 10 وحدات حكومية أخرى موزعة في مبان مختلفة في أنحاء المدينة، مثل وزارة الاتصالات في شارع يافا، وزارة التربية والتعليم في شارع "هنفيئيم" وغيرها.
ولكن، على الرغم من أن "قانون أساس: القدس" ينص على أن تكون مقرات الحكومة في مدينة القدس وعلى الرغم من العديد من القرارات الحكومية الرسمية التي كررت ضرورة تركيز المكاتب الحكومية المختلفة في هذه المدينة، إلا أنه ما تزال أكثر من 140 وحدة حكومية تعمل من خارج المدينة، غالبيتها في منطقة تل أبيب، ومن بينها: وزارة الدفاع، وزارة الزراعة ووزارة الشؤون الاستراتيجية.
في الثالث عشر من أيار 2007، اتخذت الحكومة قرارها رقم 1661 الداعي إلى نقل جميع هذه الوحدات إلى مدينة القدس حتى موعد أقصاه يوم 13 أيار 2015. غير أنه من بين 131 وحدة حكومية رسمية، تم إلزام 91 فقط بالانتقال، بينما تم إعفاء 40 وحدة أخرى من واجب الانتقال إلى القدس.
وطبقاً لوثيقة صادرة عن "مركز الأبحاث والمعلومات" التابع للكنيست، فإن السبب المركزي لعدم انتقال غالبية الوحدات الحكومية الملزمة بالانتقال إلى القدس، حتى الآن، هو "انعدام التعاون، بل المعارضة، من جانب تلك الوحدات"!
وسائل الإعلام: الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام المركزية لا تتخذ من مدينة القدس مقراً رئيسياً لها، ومن بينها جميع الصحف اليومية الرائدة، قنوات التلفزة التجارية وجزء كبير من "اتحاد البث العام". أما وسائل الإعلام التي تتخذ من القدس مقرا أساسيا لها فهي: صحيفة "مكور ريشون" (يمينية)، شركة الأخبار التابعة للقناة التلفزيونية 13 وجزء من "اتحاد البث العام".
وفي موازاة الغياب شبه التام لوسائل الإعلام المحلية عن مدينة القدس، يلاحظ حضور مكثف ودائم لممثلي العديد من وسائل الإعلام الأجنبية، من بينها: صحيفة "دير شبيغل"، صحيفة "نيويورك تايمز" وصحيفة "واشنطن بوست"، وكالة "رويترز" للأنباء، شبكة سي إن إن (CNN) وشبكة هيئة البث البريطانية (BBC) وشبكة بلومبرغ وغيرها، إضافة إلى صحيفتي "جيروزاليم بوست" و"تايمز أوف إزرايل" المحليتين اللتين تصدران باللغة الإنكليزية.
سفارات أجنبية: حتى إعداد هذه الدراسة، ثمة لسفارتين أجنبيتين اثنتين فقط مقران في مدينة القدس: سفارة الولايات المتحدة، التي جرى نقلها إلى القدس السنة الماضية ولا تزال غالبية مكاتبها في مدينة تل أبيب حتى الآن؛ وسفارة غواتيمالا التي جعلت مقرها في الحديقة التكنولوجية في المالحة. أما سفارة باراغواي فقد أعيد مقرها إلى تل أبيب بعد شهرين فقط من نقله إلى القدس في العام 2018، وذلك في أعقاب انتقال السلطة في تلك الدولة. وإلى جانب ذلك، ثمة في القدس مقار عدد من القنصليات، إلا أن غالبيتها تعالج شؤون وعلاقات بلدانها حيال السلطة الفلسطينية، وليس حيال إسرائيل.
الاستشارة الاستراتيجية والتجارة الدولية: الغالبية الساحقة من هذه المجموعات والشركات تتخذ من مدينة تل أبيب مقرا رئيسيا لها.
معاهد الأبحاث: تمتاز القدس بحضور مكثف وبارز لمعاهد الأبحاث المختلفة فيها، المؤسسات الأكاديمية الرائدة ومنظمات المجتمع المدني. إلا أن العلاقة بينها وبين الحكومة غير وثيقة بما فيه الكفاية ويعتري تدفق المعلومات بينها نقص واضح. فإمكانية وصول معاهد الأبحاث إلى أروقة السلطة محدودة ولا تحظى منظمات المجتمع المدني بأي دعم أو إصغاء من جانب موظفي الحكومة. ومع ذلك، يبدو أن تحسناً ما قد طرأ على هذا الوضع في أعقاب حملة الاحتجاج الشعبية في العام 2011 والتي أدت إلى تشكيل "لجنة ترختنبرغ" لفحص واقع غلاء المعيشة في إسرائيل وإلى نشوء عشرات المنظمات الناشطة من أجل التغيير الاجتماعي ومن أجل التأثير على السياسات الحكومية.
منظمات دولية: لا تشكل مدينة القدس مركزاً للمنظمات الدولية، مثل باريس أو واشنطن، إلا أن ثمة فيها مجموعة من المنظمات الدولية التي تستطيع، بعمل صحيح، أن تكون شريكة في "منظومة الصدى الحوكمي". وتضم هذه المنظمات، بشكل أساسي، منظمات يهودية مثل "جوينت" والوكالة اليهودية، إضافة إلى منظمات مسيحية، مثل السفارة المسيحية، حراسة الأرض المقدسة والمحفل الفرنسيسكاني وممثليات التيارات المسيحية الأخرى في المدينة.
السكان: تبين معطيات المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل للعام 2017 أن في القدس العدد الأكبر من العاملين في القطاع العام (الحكومي) في إسرائيل: 7ر31 ألف عامل يعملون في قطاعات الإدارة العامة، الإدارة المحلية، الأمن والتأمين القومي، من أصل 2ر382 ألف عامل في الدولة كلها. في المجمل، يعمل في القدس 3ر8% من مستخدمي القطاع الحكومي في إسرائيل، مقابل 6ر7% في تل أبيب (2ر29 ألف). أما نسبة مستخدمي القطاع العام في القدس من مجمل العاملين في المدينة عموماً فتبلغ 2ر9% (من أصل 1ر343 ألف)، مقابل 7% في تل أبيب (2ر29 ألف من أصل 2ر420 ألف). ومع ذلك، لا يقيم في مدينة القدس سوى 1ر52% فقط من عاملي القطاع العام في المدينة، والذين يبلغ عددهم الإجمالي 7ر31 ألف عامل. 8ر26% من العاملين في القطاع العام في مدينة القدس يقيمون في "حاضرة القدس" الكبرى، 1ر21% يقيمون خارج هذه الحاضرة ومعظم هؤلاء يقيمون في منطقة "غوش دان" (وسط إسرائيل).
على ضوء النتائج التي بينتها الدراسة، وضع طاقم البحث جملة من التوصيات ضمنوها "وثيقة السياسات" المقدمة إلى الجهات المسؤولة، البلدية والحكومية، من أجل تحويل مدينة القدس إلى "مدينة حكم ناجحة". وقد توزعت هذه التوصيات على ثلاثة عناوين رئيسية: المنالية وسهولة الوصول؛ التجارة والمدينية؛ منظومة الصدى الحوكمي.
العنوانان الأولان يشملان مركّبات فيزية ـ تخطيطية، بينما يشدد العنوان الثالث على تعزيز العلاقات ما بين العناصر المختلفة في إطار "منظومة الصدى الحوكمي".
غالبية التوصيات في هذه الوثيقة تمثل "وسائل رقيقة" يمكن تطبيقها وتحقيقها في المدى الفوري، وهي غير منوطة بتنفيذ خطط البناء الخاصة بهذا الموضوع. وفي المحصلة، تؤكد الدراسة على أن "تنفيذ التوصيات، كلها أو بعضها، سيشكل دفعة قوية لمساعي تطوير القدس كمدينة حكم مركزية في إسرائيل"، لكنها تنوه في المقابل إلى أن "تحقيق التغيير الجوهري في وضع المدينة عامة، وفي هذا الموضوع خصوصا، يتطلب خطة استراتيجية شاملة، بالتعاون المباشر والحثيث ما بين البلدية والحكومة، في رصد الميزانيات أو القوى البشرية اللازمة".
تجدر الإشارة إلى أن "معهد القدس لبحث السياسات" تأسس في العام 1978 وهو معهد خاص ومؤثر يدير الأبحاث والتفكير ويستنتج نظرية اجتماعية واقتصادية ومكانية مستدامة من القدس.
وبحسب المعهد يتصل به صانعو القرارات لتعزيز وتحديد قضايا السياسة العامة، في إسرائيل بشكل عام وفي القدس بشكل خاص. وتساعد أبحاث وأنشطة المعهد المؤسسات والهيئات المختلفة في تصميم وتنفيذ سياسات فعالة تتعلق بالمدينة.