تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 1662

توحي الحملة لتشجيع الإسرائيليين على الهجرة إلى العاصمة الألمانية، برلين، والتي تعصف بإسرائيل في الفترة الأخيرة، بأن الإسرائيليين انضموا إلى الشعوب التي تعيش، أو يعيش قسم منها، في فقر وضائقة اقتصادية وخوف من نزاعات مسلحة، ويهجر قسم من هذه الشعوب أوطانه سعيا وراء حياة أفضل وأكثر أماناً.

هذه الحال، على الأقل، هي حال أكثر من خمسين ألفا من المهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة، وغالبيتهم العظمى من السودان وإريتريا، الذين وصلوا إلى إسرائيل في الأعوام الأخيرة الماضية، رغم الفرق في التعامل مع المهاجرين الإسرائيليين في برلين وغيرها من مدن أوروبا وأميركا، حيث يحصلون على العمل الذي يناسبهم ويعيشون في رفاهية وسكينة بمستوى أعلى من إسرائيل، فيما إسرائيل تطارد الأفارقة وتسجنهم وتقطع عنهم سبل العيش وتنتهك حقهم الإنساني في اللجوء.

 

المشكلة في هذه المعادلة هي إسرائيل وليس المهاجرين منها وإليها. فهي تريد أن تبقى دولة مغلقة على طهارة "العرق" اليهودي، إن صح التعبير، وفيما هي تندب حظها لأنها لم تُرحل البقية الباقية من الفلسطينيين أثناء النكبة، جاءها نصف مليون روسي غير يهودي، قبل عقدين ونيّف، وعشرات آلاف الأفارقة في السنوات الأخيرة.

ومن الناحية الأخرى، تتبع إسرائيل، منذ ثلاثين عاما وربما أكثر، سياسة اقتصادية نيو – ليبرالية، وصفها رئيسها السابق، شمعون بيريس، بأنها "سياسة خنازيرية". وقد قضت هذه السياسة على "دولة الرفاه" التي كانت تسود إسرائيل حتى بداية الثمانينيات. 

وتستخدم إسرائيل مصطلحات خاصة بها في مجال الهجرة. فهي تسمي القادمين إليها من غير اليهود بالمهاجرين، فيما تسمي القادمين اليهود بـ"الصاعدين"، وتسمي اليهود المهاجرين منها بـ"النازلين". ولذلك يطلق على حملة تشجيع هجرة الإسرائيليين إلى برلين اسم "النازلون إلى برلين".

إلا أن هجرة الإسرائيليين ليست ظاهرة جديدة في الواقع. فقد كان دائما قرابة 10% من سكانها يعيشون خارجها. وتتحدث المعطيات عن حوالي 750 ألف إسرائيلي يعيشون ويعملون خارج البلاد، وخاصة في الولايات المتحدة، وحتى أن لديهم منظمات خاصة بهم. لكن العاصفة الحاصلة الآن في أعقاب حملة "النازلين إلى برلين" ناجمة من أن هذه هجرة منظمة وتعلن جهاراً أنها احتجاج على الوضع الاقتصادي – الاجتماعي المتردي في إسرائيل.

حروب وغلاء المعيشة

 

إن أحد أسباب حملة "النازلين إلى برلين" هو اقتصادي – اجتماعي. والسبب الثاني يتعلق بالأمن الشخصي والحروب المتكررة، مثل العدوان على غزة وحرب لبنان الثانية والانتفاضة الثانية، وهذه جميعاً تميزت عن الحروب السابقة بأنها تدور في الجبهة الداخلية الإسرائيلية أيضا، التي تسقط فيها الصواريخ، وليس في جبهات قتال خارج الحدود.

وفي خلفية حملة "النازلين إلى برلين" الاحتجاجات الاجتماعية التي ثارت في إسرائيل، في صيف العام 2011، وشارك فيها مئات الآلاف من الشبان. وكانت مطالب المحتجين خفض أسعار السكن والمواد الغذائية والتعليم وغيرها. وانتهت هذه الاحتجاجات من دون تحقيق أي مطلب.

والآن، بعد مرور ثلاث سنوات على الاحتجاجات الاجتماعية، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والشقق بشكل كبير. وفي المقابل فإن الأجور بقيت متدنية نسبيا، ما يعني أن العائلة المتوسطة تضطر إلى إنفاق مبلغ أعلى من دخلها.

ويؤكد المبادرون إلى حملة "النازلين إلى برلين" أن حملتهم هي خطوة احتجاجية على غلاء الأسعار، وأن هدفهم هو الضغط على الحكومة الإسرائيلية. وهم يقولون إن الحكومة لا تعيرهم أي اهتمام حاليا، لكن في حال هجرة 100 ألف إسرائيلي فإنها سترضخ لمطالبهم وتضطر إلى تخفيض الأسعار. ويحاول المبادرون التنسيق مع مؤسسات لتسهيل إجراءات الهجرة خاصة لحملة الشهادات الأكاديمية.

ويوضح المبادرون للحملة مدى غلاء الأسعار في إسرائيل في ظل حكومة كل همها افتعال الحروب وتغطية نفقاتها على حساب المواطنين، برفع الضرائب ومستلزمات الحياة الأساسية، وأن الحكومة لا يعنيها شيء من أمور المواطنين وحياتهم.

وفي مقارنة أجراها القيمون على حملة "النازلين إلى برلين"، ذكروا أنه في ألمانيا يمنح المواطن تعليما مجانيا من سن 3 سنوات حتى إنهاء اللقب الجامعي، وأن ذلك يشمل الفعاليات اللامنهجية بعد دوام المدرسة والمساعدات التعليمية حتى الساعة الخامسة مساء مجانا، وهذا الأمر يتيح للأهل العمل بوظيفة كاملة من دون القلق على أولادهم.

وفيما يتعلق بتكلفة السكن، يقول المبادرون إلى الحملة إن سعر الشقة في منطقة مركزية في برلين أقل بثلاث مرات عن تل أبيب، وأشاروا إلى شبكة المواصلات العامة المريحة التي تتيح لكل إنسان العمل أينما أراد من دون أن يقلق من بعد المسافة أو أزمات السير التي قد تؤخره عن عمله.

ويشدد المبادرون إلى الحملة على الفروق في أسعار المنتجات الغذائية والضمانات الاجتماعية وتأمين الشيخوخة وتعويضات البطالة، بحيث في برلين تضمن الحياة الكريمة طوال مراحل الحياة، على عكس إسرائيل التي قد يبلغ المواطن فيها مرحلة الفقر الشديد من دون الالتفات إليه من قبل الجهات الحكومية.

وأعلن المبادرون للحملة، في نهاية الأسبوع الماضي، أنهم تلقوا 9300 طلبا من إسرائيليين يطلبون الهجرة إلى برلين. وقالوا إنهم توجهوا إلى المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بطلب الحصول على آلاف تأشيرات العمل لصالح المهاجرين الإسرائيليين.

ونقلت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي عن المبادرة للحملة إنه "طلبت 25 ألف تأشيرة عمل مؤقت لمدة 3 سنوات بموجب شروط الحكومة الألمانية". وأضافت أنه "توجهت إلى خبراء اقتصاديين ألمان كي يساعدوني في صياغة خطة لتنجيع سوق السكن والغذاء في إسرائيل. فإذا كانت الأسعار في ألمانيا رخيصة إلى هذه الدرجة، فعلى ما يبدو أن ثمة شيئا ما ناجح، فلماذا لا نتعلم منهم؟".

وشدد منظمو هذه الحملة في صفحتهم في موقع "فيسبوك" على أن الوضع الحاصل في البلاد هو شهادة فقر لإسرائيل. وقال أحدهم "أجريت معي مقابلة اليوم ستنشر في ’دير شبيغل’، الصحيفة الرئيسة في ألمانيا، وسينشر ملحقهم في نهاية الأسبوع طلبي الشخصي من المستشارة الألمانية ميركل، المدعومة بطلباتكم، للحصول على آلاف التأشيرات للعمل المؤقت".

وأضاف "أعتزم أن أتوجه لاحقا إلى حكومة إسبانيا وتسريع موضوع الحصول على الجنسية لأكثر من 3 ملايين يهودي – سفارادي (شرقي) إسرائيلي".

وعبر المبادرون عن أملهم بأن تتسع حملتهم، وأن تشمل مدنا أخرى في العالم وأن ينظم مواطنون إسرائيليون مجموعات تدعو إلى الهجرة إلى نيويورك، لندن، واشنطن، ميامي، لوس أنجلس، براغ، كوستاريكا، روما أو إلى بلد بالإمكان العيش فيه من الناحية الاقتصادية.

وقال منظمو الحملة، مشيرين إلى أسباب احتجاجهم، إن "الأفراد الذين ليس بمقدورهم شراء بيت حتى لو عملوا 35 عاما، والأفراد الذين يوفرون لمدة 15 عاما وأكثر مبلغا بدائيا وحسب لشراء شقة، أولئك هم الذين يصارعون ضد قروض الإسكان. شبان، طلاب جامعات، مسوقون، مهندسون، معلمات روضات، أبناء 14 عاما، أفراد شرطة، طلاب مدارس ثانوية، ضباط جيش، جميعهم يتوجهون إلينا ويطلبون ألا نكشف أسماءهم لكنهم يتوقون للخروج من هنا إلى مكان يكون بالإمكان فيه شراء بيت أو الدخول إلى السوبرماركت من دون أن يُذبحوا" جراء غلاء الأسعار.

 

90% من اهتمام نتنياهو منصب على الأمن

 

تحت عنوان "ما الذي سيمنع أولادكم من الانتقال إلى برلين؟"، كتب المحلل الاقتصادي في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، سامي بيرتس، يوم الجمعة الماضي، أن "احتجاجات صيف العام 2011 كشفت عن انعدام الأمن الاقتصادي لدى الشبان والعائلات في إسرائيل بسبب غلاء المعيشة قياسا بمستوى الدخل واستقرار العمل لدينا. والحرب في صيف العام 2014 [على غزة] كشفت عن انعدام الأمن لدينا في القدرة على عيش حياة هانئة، من دون صواريخ وصفارات إنذار".

وأضاف أن "الحياة غير المستقرة هنا، اقتصاديا وأمنيا، تحدث جدلا صاخبا حول جدوى العيش هنا. ويتطور هذا الجدل كلما يتم سحب قطع أرض مستقرة من تحت أرجل الإسرائيليين".

ورأى بيرتس أنه "عندما يتحدث رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، من الصباح حتى الليل عن الأمن، فإنه يوجه الأمور نحو جانب واحد فقط من المعادلة: نحو الواقع الأمني مقابل جيراننا. ويغيب عن تصريحاته التطرق إلى الأمن الاقتصادي بمعناه الواسع، أي الحصول على خدمات اجتماعية أساسية، غلاء المعيشة، مأوى بمتناول اليد وفوق كل هذا أمان في العمل. ونتنياهو لا ينشغل بمسألة الاستقرار في العمل لأنه يوجد معطيان إيجابيان من السنوات الأخيرة يخطفان بصره، وهما انخفاض نسبة البطالة وارتفاع نسبة المشاركة في سوق العمل".

لكن المحلل لفت إلى أن "هذين المعطيين مضللان. فإذا دققنا في نواح أخرى، مثل التطور البطيء للراتب في الاقتصاد الإسرائيلي والانخفاض الحاد في الاستقرار في العمل، فسنحصل على اقتصاد تبدو فيه الرزمة جميلة، لكن الفحوى مهتز وتكمن فيه القدرة على حدوث أزمة اجتماعية مستقبلية. وعندها سيكون الجدل حول الانتقال إلى برلين أصعب بكثير".   

من جانبه، اعتبر البروفسور مانويل تراختنبرغ، المستشار الاقتصادي السابق لنتنياهو، أن قسما كبيرا من المشاكل الاجتماعية في إسرائيل، مثل انعدام المساواة، هو مشاكل عالمية والدول تواجه صعوبات في معالجتها، لكن غلاء المعيشة مشكلة تتميز بها إسرائيل.

وقال تراختنبرغ، في مقابلة أجرتها معه "ذي ماركر" ونشرتها يوم الثلاثاء الماضي، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على نشر تقرير "لجنة تراختنبرغ" التي شكلتها حكومة نتنياهو السابقة في أعقاب حملة الاحتجاجات الاجتماعية، إنه "لا يمكن الاختلاف مع حقيقة أن الشعور العام لدى الجمهور هو خيبة أمل وفشل. وهناك شعور بأن القليل جدا قد حدث منذ الاحتجاجات الاجتماعية، التي لم تعد بالفائدة أبدا وأن التقرير الذي قدمناه قد أفرغ من مضمونه".

وأضاف أن "الأهم من ذلك، وأكثر ما يؤلمني، أن أولئك الذين شاركوا في الاحتجاجات يشعرون بأن الأفق لا يبدو واعدا، وأن برلين تبدو أكثر جاذبية، وهذا هو الأمر الأكثر خطورة".

وشدد تراختنبرغ على أنه "يستحيل إجراء تغيير اقتصادي – اجتماعي في إسرائيل، لأن رئيس الحكومة يخصص 90% من وقته للأمن". وقال إن العدوان الأخير على غزة "قد يقصي المواضيع الاجتماعية وهذا أكبر تهديد" على إمكانية حل المشاكل الاقتصادية – الاجتماعية في إسرائيل.

وتطرق تراختنبرغ إلى زيادة ميزانية الأمن في ميزانية العام المقبل فقال إن "ميزانية العام 2015 تشمل نفقات أمنية عالية ودعما منخفضا لباقي المواضيع. وقد تم إجراء تقليص عميق في الإنفاق على البنى التحتية وعلى بنود أخرى".

 

لبيد: "معادون للصهيونية"

تطرّق وزير المالية الإسرائيلي، يائير لبيد، إلى حملة "النازلين إلى برلين"، ووصف المبادرين لها بأنهم "ما بعد صهيونيين" و"معادون للصهيونية". وأضاف أن "المحتجين مخطئون، لأنه لو انشغلت الصهيونية كلها بغلاء المعيشة لما كانت هناك دولة إسرائيل".

وتابع لبيد أنه "من الجهة الثانية فإنهم على حق لأن هذا (الوضع) لم يعد يحتمل، ولهذا السبب فإن كل الميزانية الحالية هي إعلان حرب على غلاء المعيشة. وهذه حرب أردت الإعلان عنها في الميزانية السابقة لكن كنا منشغلين بإصلاح الكارثة" في إشارة إلى الميزانية التي وضعها سلفه في هذا المنصب.

لكن الصحافية رافيت هيخت كتبت في صحيفة "هآرتس" أن "الإسرائيليين لا يغادرون إلى برلين بسبب سعر ’الميلكي’ [من مستحضرات الحليب والشوكولاته]... وإنما بسبب غدعون ساعر"، موضحة أن المقصود ليس وزير الداخلية الإسرائيلي المستقيل، غدعون ساعر، بالذات وإنما الروح والمواقف والأداء السياسي لحزب الليكود الحاكم وحزب "البيت اليهودي".

وأضافت أن ساعر ونواب حزب الليكود "لا يبحثون عن رأس (المهاجرين) السودانيين والإريتريين، وإنما هم يطلبون رأسنا، نحن الشباب العلماني، الليبرالي، اليساري، الذين نريد دستورا وليس دولة إكراه ديني، ونريد محكمة وليس حاخامين، نحن الذين نؤمن بقدسية الحياة وليس بقدسية موقف سيارة (في أرض فلسطينية للمستوطنة) أوريت ستروك. هؤلاء الشبان الذين يريدون مواصلة الحلم الصهيوني لآبائهم، ومستعدون للتجند لقوات الاحتياط وتسديد الضرائب، لكنهم يرفضون رهنهم لحلم مسياني لثلة مهووسة وعنيفة، سيطرت على موارد الدولة؛ هؤلاء الشبان يرفضون أن يحيوا ويموتوا من أجل المستوطنات".

وأشارت إلى أن المحتجين على غلاء المعيشة الذين يعبرون عن استعدادهم للهجرة من إسرائيل لم يصوتوا ولن يصوتوا لساعر ونتنياهو، ولن ينضموا إلى "مهرجان الترهيب من إيران ومن هولوكوست جديدة".

ورأت هيخت "بما أن هؤلاء الشبان ليسوا كنزا انتخابيا، وإنما عائق في الطريق، من خلال الالتماسات للمحكمة العليا والمنظمات اللحوحة والتظاهرات والعرائض ورفضهم لاستخدام الهولوكوست، فإنه لأمر جيد أن يتم تشجيعهم على أن ينصرفوا من هنا، والاستهزاء بهم وتصويرهم كيهود حقيرين (مثلما فعل النازيون) عادوا إلى برلين بسبب الطمع بالمال".

وخلصت هيخت إلى أن "المشكلة ليست بمغادرتهم وإنما بالفراغ الناشئ هنا، في هذا المكان الذي يملأه مؤيدو اليمين المتطرف. إن برلين هي مدينة ساحرة، لكنها تجذب إليها القوى التي نحتاج إليها كثيرا هنا وخاصة الآن".

 


هذا التقرير ممول من قبل الاتحاد الأوروبي.

 

 

مضمون هذا التقرير هو مسؤولية مركز "مدار"  و لا يعبر بالضرورة عن آراء الاتحاد الاوروبي