تشن اسرائيل في هذه الفترة حملة عنيفة ضد الحركة العالمية المساندة لنضال الشعب الفلسطيني. ولهذه الحملة جناحان، واحد محلي وآخر يجري تنفيذه في أوروبا. والجناحان مترابطان، أي أنهما ينتميان الى مصدر واحد ينتج التصور والتخطيط والتنفيذ. قد يرنّ ذلك في الآذان كوصف لعملية تآمرية، وهو ما يلاقي هوى لدى كثيرين، بعضهم مفتتن بكل أنواع "الجيمسبونديات"، وبعضهم الآخر، وهم الغالبية، مقتنعون بأن اسرائيل تمارس سياستها العالمية عبر الاستفادة من مراكز النفوذ ومجموعات الضغط التي يوفرها لها "لوبي" يهودي عالمي، يعمل بتناغم معها. وهذه قناعة تنتشر في الأوساط العربية التي تلجأ غالباً الى هذا التفسير لتبرير الهزائم المتلاحقة للعالم العربي، وأيضاً لتبرير فعالية المنظمات الصهيونية في مقابل ضعف التكوين السياسي للجاليات العربية في المهاجر. لكن كتاباً وسياسيين أوروبيين عديدين، يتبنون هذا التفسير، مع أن جلهم ديموقراطيون، أي ممن يرفضون في حياتهم العامة التصورات القائمة على أساس عرقي أو ديني والتأويلات التآمرية للتاريخ.
إلا أن تفسير ما يجري ليس جيمس بوندياً ولا تآمرياً، بل هو وبكل بساطة سياسي. بدأت الحملة في أوروبا منذ مطلع الخريف، واتخذت من حركة مناهضة الحرب على العراق ميداناً لها، اذ راح أشخاص متنوعون، ينتمون الى هيئات سياسية ونقابية مختلفة، يرفضون في الاجتماعات التحضيرية للتحركات، "الخلط" بين مسألتي الحرب وفلسطين، ويرفضون وجود تكتل مؤيد لنضال الشعب الفلسطيني في التظاهرات المناوئة للحرب. ومن المؤكد ان القسم الأكبر من هذه الأصوات كان صادق النية، أي انه كان يعبر عن قناعته بأن هناك حاجة لتكتيل أوسع جبهة ممكنة ضد الحرب، وان ادخال أي معطى آخر سيؤدي الى خلافات وانقسامات وتقليص التحرك. بل ان بعضهم أشار بوضوح الى حساسية الموقف إزاء المسألة الفلسطينية. وفيما جنحت حركة مناهضة الحرب في بريطانيا الى تبني هذا الاسلوب، لتورط الحكومة البريطانية في الحرب وللحاجة الى بناء جبهة وطنية ضد الحرب، وفيما لم يثر الموضوع الكثير من الحساسيات وبالتالي من النقاش في سائر البلدان الأوروبية، فإن المنظمات الفرنسية التي شكلت العمود الفقري للمبادرة الى الدعوة للتحرك ضد الحرب، وافقت بشيء من المضض على منح المنظمات المساندة لنضال الشعب الفلسطيني مساحة خاصة بها في التنظيم المعتمد للتظاهرات. وهكذا انتشرت أعلام فلسطين ومكبرات الصوت التي تطلق الهتافات المؤيدة لفلسطين في التظاهرات الفرنسية المناهضة للحرب. وتوسعت هذه الكتلة بسرعة إذ استقطبت كل أبناء الجاليات العربية في فرنسا، الذين كانوا يلتحقون بها تلقائياً، لأن غالبيتهم - خصوصاً الشباب منهم وهم الأكثرية الساحقة - كان منقطعاً تماماً عن الحياة السياسية والنقابية الفرنسية، بينما كان علم فلسطين يختزل بالنسبة له كل انتماءاته، أو يعيد لحمة ما اضطرب منها.
أمكن إذاً في فرنسا ممارسة التعبير عن الصلة القائمة بين الحرب على العراق والمسألة الفلسطينية. وراحت تكتلات فرنسية بحتة، سياسية ونقابية، تردد أحياناً من ضمن الشعارات التي ترددها خلف مكبرات الصوت التي تنظم الإيقاع فيها، هتافات تطالب بالانسحاب من كل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة، وبتفكيك المستوطنات، وتكرر ان "بوش وبلير وشارون هم القتلة".
وكان من السذاجة التصور ان المنظمات الصهيونية الفرنسية ستسكت على هذه الحال. فعلى رغم انها لا تضم الا اقلية من ابناء الجالية اليهودية الفرنسية ـ وهي ثاني اكبر جالية يهودية في العالم، بعد الولايات المتحدة او نيويورك تحديداً ـ فهي شديدة التنظيم والفعالية، وهي ايضاً ذات سطوة على الحياة العامة الفرنسية، السياسية والفكرية والثقافية على حد سواء. ولعلها تستمد سطوتها تلك من التاريخ الحديث نفسه. فقضية "درايفوس" مثلاً ما زالت تملك راهنية حقيقية، ليس بسبب الوقائع المتعلقة باتهام واضطهاد ذلك الضابط اليهودي، في نهاية القرن التاسع عشر، على اساس يهوديته، بل بسبب ما انتجته وقتها مما لا يزال فاعلاً. فقد شكّل بيان اميل زولا الشهير "إني اتهم" الذي صدر في تلك المناسبة، احدى ركائز مفهوم حقوق الانسان وأسس لمنظمات قامت حينها وما زالت فاعلة. والأهم من هذا وذاك، فقد تحولت تلك القضية بكل حيثياتها، الى قضية وطنية مهمة ومثلت احدى محطات الانشقاق الاساسية بين اليمين واليسار وجسدت دخول "المثقفين" ككتلة ناشطة وفعالة الى الحياة السياسية، وانحيازها الى اليسار.
ويمكن لهذا الجذر ان يفسر الكثير من ملامح الحزب الاشتراكي والجمعيات القريبة منه والمؤسسات الاعلامية التي يمارس عليها تأثيراً. وهذا مثال من ضمن امثلة اخرى يمكن رصدها بخصوص اوساط يسارية تتميز بالراديكالية، وليس بالانتماء الى الاشتراكية الديموقراطية فحسب. الا ان الأسس لا تبقى كما هي، معلقة وجامدة، كما نشأت. وقد يكون مدهشاً رؤية التركيبات التي تولدت عن سياق الزمن واحداثه. وآخر المحطات هو الموقف من الحرب ومن العلاقة مع الولايات المتحدة، حيث برز داخل بعض اطراف الكتلة اليسارية الفرنسية من يؤيد الحرب ويعتقد انها وسيلة للتخلص من الديكتاتورية ومن مخاطر الارهاب. اي ان هؤلاء تبنوا الخطاب الايديولوجي لاوساط اليمين المحافظ الجديد المتطرف الاميركي! لقد اتخذ عدد من المثقفين الفرنسيين اليساريين عادة، وجلهم من اليهود، مثل هذا الموقف علناً، وساد نوع من الضيق والاحراج اوساطاً اخرى، وتلاقى تيار من احزاب واوساط اليمين الفرنسي، الموصوف عادة بـ"الاطلسي"، او المعبّر عن مصالح كبرى الشركات الفرنسية واوساط الاعمال، مع تلك الاجواء اليسارية المضطربة او تلك التي خانت معسكرها، كما يقال.
وبهذا المعنى، فإن الهجوم على الارتباط القائم بين المسألة الفلسطينية وقضية مناهضة الحرب، كان ايضاً هجوماً ولو بأسلوب متوارٍ على حركة مناهضة الحرب نفسها، ومحاولة لضربها في جانبها الموجع، او على الاقل المثير للحساسية. وقد وجدت الحركات الصهيونية في هذه التركيبة ضالتها وخططت لاستخدام ذلك الى ابعد الحدود لضرب عصافير عدة بحجر واحد: فرض التراجع على حركة مساندة الشعب الفلسطيني واضعاف حركة مناهضة الحرب وفك الارتباط بينهما. وهناك في التحقيقات الرسمية الجارية اليوم في باريس ما يحمل على الاعتقاد بأن بعض الحوادث التي وقعت في سياق احدى المسيرات المناهضة للحرب، كحادثة الاعتداء بالضرب على ممثلي منظمة صهيونية يقع مقرها في طريق المسيرة، لم تكن عفوية، وانه جرى التخطيط لها بعناية واحكام فائقين. لان هذا الحادث اتخذ كنقطة انطلاق لحملة منظمة تهدف الى اخراج القطب الفلسطيني من تظاهرات مناهضة الحرب، بل، وأبعد من ذلك، لتحريك شعارات معينة بوصفها "معادية للسامية"، واخيراً للمطالبة شبه الرسمية باعتبار كل معاداة للصهيونية هي "معاداة للسامية"، أي رفع الصهيونية الى مصاف الانتماء الأصلي للانسان، وهو ما يرفضه بطبيعة الحال جزء مهم من اليهود انفسهم.
ويمكن تصور ان تلك الحملة تهدف الى فرض التراجع على حركة مساندة نضال الشعب الفلسطيني في أوروبا اجمالاً، والتي حققت منذ عامين، أي بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وترؤس ارييل شارون للسلطة في اسرائيل، تقدماً وامتداداً كبيرين، ترافقا مع نضج في آليات عمل هذه الحركة، مكنها من الحضور كعنصر فاعل في الحياة العامة الفرنسية والأوروبية، وأزعج ولا شك الحركات الصهيونية واسرائيل.
وبالوصول الى هذه، فقد بدأت في الأراضي المحتلة حملة منظمة هي الأخرى، تهدف الى منع "الدوليين"، أي المواطنين الذين يتوافدون الى فلسطين من انحاء العالم للتعبير عن تضامنهم مع نضال أبنائها ولممارسة نشاطاتهم كمراقبين وكشهود على ممارسات الاحتلال وكمتدخلين في مناسبات نضالية محددة، على الحواجز، ولمنع هدم البيوت، ولتمكين المزارعين من قطاف الزيتون أو الأطباء من ممارسة عملهم، الى آخر تلك الأشكال من المساندة السلمية للصمود الفلسطيني. لقد بدأت الحملة ضد الدوليين مع عملية "السور الواقي" في العام الماضي، إلا انها لم تتخذ طابعها الدموي إلا قبيل وقوع الحرب على العراق، حين قتلت المناضلة الاميركية الشابة "راشيل كوري" تحت عجلات الجرافة التي كانت تتقدم لتهدم منزلاً في مخيم رفح للاجئين. وأصيب بعد ذلك ثلاثة مناضلين دوليين بالرصاص في أماكن قاتلة، كان آخرهم الصحافي البريطاني. وبحساب سريع يتضح انه لم يصب أياً من المناضليين الدوليين الذين ذهبوا الى فلسطين على امتداد العامين الماضين، وهم حوالى ثلاثة آلاف، بأي أذى جدي، على رغم وقوع أحداث جسام خلال تلك المدة، كانوا دوماً في قلبها. وبالمقابل، وقع أربع ضحايا من بين صفوفهم خلال الشهر الأخير!
هناك اذاً قرار بالقتل يطال المناضلين الدوليين، يهدف الى إرعابهم وإجلائهم عن الساحة الفلسطينية، ويترافق قرار القتل هذا مع بيانات رسمية اسرائيلية تعلن ان هؤلاء الدوليين يعرقلون حرية حركة الجيش الاسرائيلي ويعرضون انفسهم وسواهم للخطر "من دون طائل". واخيراً، حدث أمر جديد مريب، هو تنفيذ عملية انتحارية على يد أجنبي، يبقى بريطانياً داخل البلاد رسمياً، حتى لو كانت أصوله باكستانية، أي مسلمة. بل ان هذا المعطى بحد ذاته، يساعد التوجه الاسرائيلي لإلقاء الريبة على حركة مساندة نضال الشعب الفلسطيني في العالم، التي ينضوي في ظلها العديد من ابناء المهاجرين العرب والمسلمين. وتمنح هذه الواقعة الجديدة السلطات الاسرائيلية "حقاً شرعياً" في مطاردة الدوليين واعتقالهم وطردهم من فلسطين، بل وفي ملاحقتهم والتفتيش في الأوساط الأصلية التي ينتمون اليها، كما يحدث في بريطانيا حالياً بحجة تلك العملية الانتحارية الغريبة.
ليس هدف السلطات الاسرائيلية التخلص من هؤلاء الشهود المزعجين فحسب، بل ايضاً التشكيك في طبيعة عملهم نفسه وضرب الحركات التي ينتمون اليها في بلدانهم الاصلية.
هكذا يتلاقى جناحا الهجمة الحالية على الحركات المساندة لنضال الشعب الفلسطيني. ويبقى هذا النضال هو المستهدف بالأساس. هنا من اجل مزيد من عزله عالمياً ومزيد من حرية الحركة الاسرائيلية على ما يقولون.
نهلة الشهّال - الحياة 2003/05/11