المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إسرائيل والدول القومية الجديدة ( 1 من 2 ) بقلم: أمنون روبنشتاين* هل تعتبر الصهيونية نوعاً شاذاً من القوميات؟ هذا ما اعتقدناه على مر سنوات طوال كما لو كان مسألة شبه بديهية. وفي الواقع، لاشك في أن الصهيونية تنطوي على شيء شاذ أو مميز. فعندما أعلن هرتسل بأن اليهود شعب، وأن هذا الشعب جدير بدولة، ظن الكثيرون بأنه رجل غارق في أحلام اليقظة. وعلى ما يبدو فإن هرتسل نفسه خجل من التصريح بكل ما راوده من أفكار في هذا الخصوص. فقد كتب في مذكراته >في بازل أقمت دولة اليهود.

لكنه أضاف مستدركاً بأنه لا يجرؤ على التصريح بذلك جهاراً خوفاً من تعرضه للسخرية أو التهكم. مخاوف هرتسل هذه كان لها ما يبررها، فعند عودته من المؤتمر الصهيوني الأول إلى مقر الصحيفة النمساوية التي عمل فيها في فيينا، سخر منه زملاؤه ونعتوه بلقب >رئيس الدولة العتيد<. وفي الحقيقة فإن رؤية هرتسل وقناعته بأن اليهود المشتتين بين الكثير من الشعوب والبلدان دون قاسم ثقافي أو لغوي مشترك، سيتحولون إلى أمة جديرة بدولة، هذه الفكرة بدت في ذلك الوقت >ثورية< بالفعل. مع ذلك، ورغم كونها ظاهرة شاذة، وربما بسبب ذلك بالذات، فقد تبنت الصهيونية أيضاً التطلع نحو تحولها إلى حركة طبيعية. وكانت هذه الغاية المتمثلة بجعل اليهود شعباً ككل الشعوب، قد استحوذت على اهتمام العديد من الزعماء والمفكرين الصهيونيين من مختلف ألوان الطيف السياسي، وهو ما تجلى بوضوح في مؤلفات وكتابات هرتسل وجابوتنسكي وبن غوريون وآخرين. وفي الحقيقة ثمة ما يشبه المفارقة الخفية في التفكير الصهيوني، فالصيرورة الخاصة، الـ >لاطبيعية< المتمثلة بتحويل اليهود إلى أمة متكاتفة، تهدف في الواقع إلى تحقيق >الطبيعية< وإلغاء حالة الشذوذ أو الخروج عن المألوف. اليوم، وبعد أكثر من مئة عام من الصهيونية، يمكن القول أن هذا الجهد أو المسعى قد تكلل بالنجاح. لكن، ومع كل ذلك فإننا لم نتخلص بعد من الفهم الذي يرى في دولة إسرائيل والفكرة التي تقوم عليها شذوذا سياسياً وقانونياً وأخلاقياً. هذه المسلّمة، التي رسخت في البلاد وخارجها، تضر بسمعة إسرائيل وتصورها في صورة >الولد المشاغب< في أسرة الشعوب المتحضرة. سأحاول في هذا المقال مناقشة عدد من الأبعاد والجوانب المميزة ظاهرياً، لدى القومية اليهودية، لأبين بأنها لاتنطوي في الواقع على خروج أو شذوذ حقيقي عن القواعد والمعايير المتبعة حالياً لدى الدول الأكثر تقدماً في العالم. ففي الغرب، وخصوصاً في أوروبا، تسود في الوقت الحالي توجهات إيجابية للغاية إزاء جوانب مختلفة تنطوي عليها ظاهرة القومية، وهي جوانب كانت تثير وإلى فترة قريبة الكثير من التحفظ والارتياب. وعلى سبيل المثال، هناك إقرار متزايد بشرعية العلاقات التي تقيمها دول معينة مع جاليات إثنية مشتتة خارج حدود هذه الدول. هناك تشابه واضح بين هذه العلاقات وبين السياسة التي تتبعها إسرائيل تجاه الشتات اليهودي، ولذلك فإن هذه المقارنة ليست مطلوبة وحسب وإنما هي ضرورية ومفيدة، فهي تثبت أن باستطاعة إسرائيل الاندماج في المجتمع الدولي كمجتمع جدير يقف على قدم المساواة مع مجتمعات ودول ديمقراطية أخرى، بدون أوهام التفوق والعظمة ودون الشعور غير المبرر بالنقص أو تدني المكانة. لقد بدت القومية في نظر الكثيرين، حتى فترة قريبة، أشبه بقطار قديم متهالك، صعدت إليه الصهيونية في وقت متأخر بعض الشيء. في العالم الغربي الجديد تحولت الدولة القومية إلى ظاهرة غير ذات صلة. هذا العالم أصبح يحفل بدول فوق قومية ومتعددة القوميات ودول هجرة، توجد فيها ثقافة مهيمنة وصبغة مسيحية ولغة رسمية، لكنه لا توجد فيها قومية مسيطرة. الولايات المتحدة الأميركية مثلاً ليست دولة قومية، إذ يتحدر مواطنوها من قوميات مختلفة لكنهم يتمتعون بمساواة دستورية كاملة. كذلك فإن أوروبا تمر هي الأخرى بعملية ذات أبعاد وانعكاسات تاريخية بعيدة الأثر، حيث نجد دولاً شعرت دوماً بكونها دول قومية مستقلة، تتجه الآن أكثر فأكثر نحو الاتحاد وإزالة الحدود الفاصلة بينها، وهذه بلا شك متغيرات دراماتيكية، كان من الصعوبة بمكان تصورها أو مجرد التفكير فيها في مطلع القرن العشرين. بيد أن تطورين حصلا في الفترة الأخيرة أحدثا تغييراً حاداً في هذا السياق. أولاً، فقد ظهرت في أوروبا الغربية نزعات قومية جديدة، وعلى سبيل المثال فقد أدى زوال الحدود بين إسبانيا وفرنسا إلى تعزيز المشاعر القومية بدرجة كبيرة لدى >الباسك< الذين يمتلكون الآن ليس فقط لغة وثقافة خاصتين بل وبقعة جغرافية مشتركة أيضاً، ومثلما أن الباسك يرون أنفسهم كقومية مستقلة (عن القومية الإسبانية)، كذلك الحال أيضاً بالنسبة (للأقليات العرقية) الكاتلونية والكورسيكانية والاسكتلندية. هذه القبلية القومية أخذت تزدهر في أوروبا، مثيرة نزاعات قديمة. في بلجيكا على سبيل المثال، والتي عم فيها هدوء نسبي لفترة طويلة من الزمن، نشأ مؤخراً نزاع مقلق بين الناطقين بالفرنسية والناطقين باللغة >البالمية<. يتضح إذن أن محو الحدود بين الكيانات السياسية القديمة ليس فقط لم يقد باتجاه أفول وانحسار القومية، بل على العكس، بث فيها نفساً وروحاً جديدين. التطور الثاني حصل في أعقاب انهيار الكتلة الشيوعية. إذ حلت مكان الدولة السوفياتية وحليفاتها نحو ثلاثين دولة جديدة اتخذت لنفسها ظاهرياً، ملامح ديمقراطية. هذه الدول، وفي طليعتها روسيا الاتحادية العظمى، تعتبر دولاً قومية بكل معنى الكلمة. علاوة على ذلك فإن معظم هذه الدول منخرطة في عضوية مجلس أوروبا، بل ويطالب جزء منها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. هذا التطور له أهمية بالغة، نظراً لأن أوروبا كانت تعتقد بأنها نجحت في التخلص من القومية. الآن يتعين عليها (أي أوروبا الغربية) أن تستوعب مجموعة كبيرة من الأعضاء الجدد، وهذه دول ليست ديمقراطية وحسب وإنما هي دول قومية أيضاً، وبالتالي فإن هذا الواقع الجديد يتطلب من أوروبا تغيير نظرتها للظاهرة. أحد الملامح البارزة لهذا التغيير يتمثل في الاعتراف المتزايد بوجود أقليات قومية. قبل انضمام دول أوروبا الشرقية إلى المجلس الأوروبي لم يجر تقريباً أي نقاش أو بحث جاد لهذا الموضوع، على الرغم من وجود أقليات قومية في أوروبا الغربية أيضاً، كالباسك والكاتلونيين والكورسكيين. إن الرياح الجديدة التي تهب على أوروبا تظهر أيضاً بوضوح في استعدادها (دول أوروبا الغربية) لإعادة النظر في مفهوم الشتات أو >المنفى<. ونحن كإسرائيليين وكيهود لدينا شأن خاص بهذه العملية، لاسيما وأن كلمة >منفى< تظهر بشكل عام في السياق اليهودي. ولعل مطالعة الطبعات الأخيرة للقواميس الضخمة تظهر ذلك. أحد هذه القواميس المعروفة يقترح ثلاثة تعريفات للمنفى، أحدها >تشتت اليهود خارج فلسطين منذ القرن السادس للميلاد<. وفي الواقع فقد نالت العلاقة بين الشتات والمركز اهتماماً خاصاً. في الآونة الأخيرة بحثت الظاهرة في نطاق دراسة للباحث الإنكليزي أنطوني سميث، والذي أشار إلى ثلاثة نماذج لقومية الشتات: الإسرائيليون والأرمن واليونانيون.ü صحيح أنه يجب التأكيد هنا مجدداً بأن اليهود فقط لم تكن لديهم قاعدة أو أساس إقليمي للقومية الجديدة، إذ أن معظم اليونانيين واصلوا العيش في اليونان والأرمن في أرمينيا، غير أن الدور الذي لعبته جاليات الشتات هذه في انبثاق الحركة القومية اليونانية والحركة القومية الأرمنية يفوق بما لايقاس الدور الذي لعبه السكان الأصليون. وفي هذا السياق من الجدير بالذكر أن شتات الشعوب الليتوانية واللاتفية والأستونية هو الذي واصل الاحتفاظ بسفارات وهمية في المهجر باسم البلدان الأصلية التي كانت لا تزال تئن تحت نير النظام السوفياتي. من هنا إذن فإن الحركة الصهيونية ليست المثال الوحيد للقومية المتبلورة في الشتات وللصراع القومي الجاري >خارج حدود الوطن<. وفي الواقع فإن العلاقات الخاصة بين الدول القومية وأبناء قومياتها غير المواطنين فيها، تشغل أكثر فأكثر المجموعة الأوروبية والدول الملتحقة حديثاً بعضويتها. وتحظى الأقليات القومية بصورة عامة بنوع من الحماية بموجب معاهدات دولية أو اتفاقيات ثنائية بين الدول. ومع ذلك فقد نوقشت مؤخراً مكانة الأقليات كقضية قانونية داخلية في بلدانها الأصلية. وقد سنت تسع دول أوروبية، بينها النمسا وهنغاريا واليونان وأيطاليا وسلوفاكيا وروسيا، قوانين تعطي مفعولاً قانونياً للعلاقات بينها وبين أبناء قومياتها الذين يعيشون خارج حدودها. هذه التطورات بمجملها لايجوز الاستهتار بأهميتها أو التقليل من شأنها، فهي تنطوي على انعكاسات عميقة على صورة أوروبا المستقبلية وعلى العلاقات بين الدول وبين المجموعات الإثنية التي تبحث عن مكان لها في هذه الدول. ومن ناحية عملية فإننا نشهد محاولة، أو على الأقل جهداً متعدد الأطراف، لإعادة صياغة وتعريف شرعية الظاهرة القومية في نطاق القانون الدولي. هذه العملية لها انعكاسات وأبعاد في غاية الأهمية، يمكن أن تنعكس وتؤثر على الساحة العالمية برمتها، وبضمنها إسرائيل أيضاً. إن التغير في التوجه الأوروبي إزاء المسألة القومية جدير بأن يحظى باهتمام إسرائيل التي تعرف نفسها كدولة قومية ديمقراطية أو كدولة >يهودية ديمقراطية<. وتدور داخل المجتمع الإسرائيلي خلافات شديدة حول تفسير هذا التعريف. وتحاول إسرائيل منذ تأسيسها إيجاد الصيغة الدستورية الملائمة والتوازن الصحيح بين هذين المكونين في هويتها. كذلك فإن الدول المنضمة حديثاً لعضوية المجموعة الأوروبية تواجه هي الأخرى مثل هذه المشاكل. فهي كحال إسرائيل، تسعى إلى التعبير عن هويتها القومية دون التخلي عن صبغتها الديمقراطية. الحديث يدور إذن عن قومية من نوع جديد، ليس من النوع الذي ينمي القبلية المتعصبة، والمنغلقة والمتعالية، وإنما ذلك الذي ينمي المثل التي تعترف بحقوق الإنسان والمواطن وكذلك بحقوق الأقلية. باستطاعة إسرائيل أن تستفيد وأن تستمد التشجيع، من تجارب ومحاولات الدول القومية الأوروبية الرامية للتعبير بشكل ملائم عن علاقاتها مع الأقليات المنتسبة إليها في الشتات. لقد أشار معارضو الصهيونية مراراً إلى مشكلة >الولاء المزدوج< لليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل. فيهود الولايات المتحدة على سبيل المثال ما زالوا يواجهون اتهامات من هذا النوع. ولكن عملية المراجعة وإعادة النظر الجارية اليوم لمفهوم أو مصطلح الشتات تنسف الإدعاء بشأن الولاء المزدوج. فالدولة الديمقراطية المعاصرة ليست دولة متعددة الثقافات وحسب، بل ومتعددة الولاءات القومية أيضاً. ü وزير عدل سابق، من قادة >ميرتس<

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, دولة اليهود, الكتلة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات