أبرزت الهبة الجماهيرية التي اندلعت مؤخراً في القدس المحتلة احتجاجاً على قرار الشرطة الإسرائيلية وضع حواجز عسكرية على مدخل باب العامود في المدينة المقدّسة الدور الكبير الذي تلعبه المنظمات الاستيطانية اليمينية العنصرية في التحريض ضد الفلسطينيين، وفي مساعي تهويد المدينة والقضاء على عروبتها. في هذا التقرير سنسلط الضوء على أحد أهم هذه المنظمات، منظمة "لاهافا" اليمينية المتطرفة. وهو الأمر الذي يندرج في إطار توجه الدراسات والمراكز البحثية المتخصصة لتناول ظاهرة الحركات والمنظمات الاستيطانية العنصرية والإرهابية العاملة في فلسطين التاريخية عموماً، والعاصمة المحتلة على وجه التحديد؛ ارتباطاً بما تتعرّض له المدينة المقدّسة من تهويد وقمع وإرهاب وتهديد تُمارسه الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية والشرطية، ومثلها المنظمات اليمينية المتطرفة التي تحظى بدعم وإسناد حكومي وشُرطي- مُضمر بالحدّ الأدنى- وتسعى من ضمن مساعٍ أخرى كثيرة، إلى القضاء على الوجود العربي في المدينة
المقدّسة كما غيرها من المناطق في كل أنحاء فلسطين التاريخية، وذلك من خلال تحويل حياة الفلسطينيين في القدس المحتلة إلى "جحيم" لا يُطاق بحيث لا يُمكن الاستمرار بالعيش فيها، الأمر الذي يدفعهم في نهاية المطاف لمغادرة المدينة المحتلة، خصوصاً وأن ظروف حياة المقدسيين اليوم في أفضل حالاتها هي ظروف طاردة ومُنفّرة، وأقل ما يُقال عنها إنها تفتقر لأدنى شروط الحياة الآدمية؛ نتيجة غياب الأمن الشخصي والجماعي والشعور الدائم بالتهديد والإرهاب، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة والضرائب الباهظة التي أثقلت كاهل المواطن المقدسي في ظل غياب مشاريع الدعم والإسناد العربية والدولية.
تُعتبر منظمة "لاهافا" التي تردّد اسمها كثيراً عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً كلّما تشتد وتيرة المواجهات في القدس بين الفلسطينيين والمنظمات الاستيطانية التي تدعو باستمرار إلى اقتحام الحرم القدسي الشريف ومحيطه وإقامة الطقوس التلمودية، إلى جانب الاعتداء الجسدي والمعنوي على الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين المتواجدين فيه، إحدى أبرز المنظمات الصهيونية اليمينية المتطرفة التي تعمل وفقاً لأجندات استيطانية قومية متطرفة وعنصرية ضد العرب. وقد أسسها المتطرّف بنتسي (بن تسيون) غوفشتاين العام 1999 بهدف منع ظاهرة "الزواج المختلط" ومحاربتها بشتّى الطرق والوسائل، إلى جانب "محاربة انصهار/ اندماج اليهود في الديار المقدّسة"!، وتعتبر إحدى أهم المنظمات اليمينية العنصرية التي تتبنّى خطاب الكراهية، قولاً وفعلاً، ضد العرب في المناطق المختلفة، وبالذات في مدينة القدس المحتلّة.
"لاهافا" هي الحروف الأولى من كلمات مقولة "لمنع الانصهار في الأرض المقدسة!" باللغة العبرية، وتعني في العربية "اللهب". وتحيل هذه العبارة إلى توجّه المنظمة الساعي لمحاربة ظاهرة "الزواج المختلط"؛ أي زواج الفتيات اليهوديات من غير اليهود، والعرب على وجه التحديد، بالإضافة إلى رفض انصهار "غير اليهودي" في حياة اليهود. ترفض هذه المنظمة بشكلٍ قاطع اندماج الفتيات اليهوديات في حياة العرب، سواءً بعلاقات غرامية، أو حتى من خلال الزواج؛ إذ تسعى المنظمة، إلى "إنقاذ الروح اليهودية" من خلال إنقاذ الفتيات اليهوديات من العرب قبل "تورّطهن" في هذه العلاقات، رسمية كانت أم غرامية، وإعادتهن إلى "الشعب اليهودي" قبل فوات الأوان، عملاً بالمقولة اليهودية "كل من يُنقذ روحاً واحدة من إسرائيل وكأنما يُنقذ العالم بأسره!".
في مقابلة مع غوفشتاين، مؤسس المنظمة ورئيسها الحالي، يرى بأن ظاهرة انصهار/ اندماج اليهود في الشتات لم تنتهِ هناك؛ بل موجودة أيضاً في "الأرض المقدّسة"، والهدف من تشكيل "لاهافا" هو الوصول إلى الآلاف من الفتيات وإنقاذهن، بالإضافة إلى تقديم الاستشارات والنصائح. وحول آلية عمل المنظمة، يقول غوفشتاين بأن المنظمة لا تنتظر مكالمة لكي تساعد الفتيات التي تنطبق عليهن شروط عمل المنظمة، بل يُبادر منتسبوها ونشطاؤها للوصول إليهن في أسرع وقت، وقد أنشأت المنظمة خطا هاتفيا يُمكن لأي يهودي أو يهودية الوصول إليه والتحدث مع أحد منتسبي المنظمة ووضعه في صورة الحالة وتعقيداتها، وبعدها يُترك الأمر للمنظمة التي تبدأ بحملة "استعادة" للفتاة بشتّى الطرق والوسائل. ويُضيف بأنه لا يوجد تعاون من الفتيات في معظم الحالات، ولا توجد رغبة لديهن بإنهاء العلاقة مع العرب، الأمر الذي يدفع المنظمة لتفعيل نشطاء، يُطلق عليهم داخل المنظمة "سَحَرَة"، مهمتهم هي ملاحقة الفتيات في كل الأماكن، كالمدرسة والشارع ومكان العمل لإقناعهن بضرورة العودة "لشعب إسرائيل"، حيث تتضمن هذه "المهمة" عملية توعية وشرح لماذا ينبغي قطع هذه العلاقات وما هو الثمن الذي سيُدفع نتيجةً لهذه العلاقة!، وبرأيه: "نحن لا نتنازل عن أي بنت لإسرائيل، ونتعامل مع كل فتاة كما لو كانت ابنتنا الوحيدة، وحتى لو كانت متزوجة من عربي بالفعل ولديهما أطفال مشتركون، فإننا نسعى لإقناعها وإعادتها إلى شعبها!". (1)
إن حدود عمل "لاهافا" لا تقتصر على العاصمة المحتلة، بل يُمكن التعرف عليها من خلال النشاط اليومي لهذه المنظمة في المناطق المختلفة، ولا سيما في مدينة القدس؛ إذ يعمل منتسبو المنظمة على تسيير دوريات لمراقبة حركة الفتيات اليهوديات والتأكد من الهوية القومية للمرافقين ومهاجمة العرب منهم، إلى جانب تكثيف الضغوطات على أصحاب المحال التجارية والمصانع التي تُشغّل يهوداً وعرباً كونها تزيد من فرص اختلاط، وبالتالي، تعارف اليهوديات على الشباب العرب، وهو الأمر الذي يزيد من احتمالية الارتباط والزواج، وتلجأ لهذا الأمر كوسيلة للضغط على أصحاب هذه المحال والمصانع لطرد العمال العرب. كما تتعرّض هذه المنظمة لسائقي السيارات المقدسيين الذين يتبيّن أنهم يُقلّون فتيات يهوديات خلال عملهم، والهدف من ذلك كلّه، هو تقليل فرص التعارف والاختلاط التي قد تُفضي إلى علاقات غرامية أو علاقة زواج بين الفتيات اليهوديات والشبّان العرب، وتُصدر هذه المنظمة باستمرار شهادات للمصانع والمحال التجارية التي لا تُشغّل عرباً في إطار تشجيع مبدأ "العمل العبري" في سياق عملها على الأرض، بشكل يحولها لأشبه بشرطة آداب يهودية في المناطق المنتشرة فيها.
كذلك فإن عمل المنظمة لا يقتصر على قطع العلاقة وإفشالها قبل أن تتطوّر، بل يستمرّ لفترة طويلة لضمان عودة "آمنة" للفتيات "للشعب اليهودي"؛ حيث تعمل المنظمة على توفير مساكن لبعض الحالات، والرعاية المادية كذلك، وهو الأمر الذي لا يُمكن القيام به لولا الدعم الذي يُقدّم لهذه المنظمة وأعضائها، وإن كان بصورة غير مباشرة، من قِبَل الحكومة الإسرائيلية؛ فقد أظهر تحقيق أجرته صحيفة "هآرتس" وجود ارتباط فعلي بين "لاهافا" ومنظمة "رحمة" التي تحظى بدعم حكومي يُقدّر بمئات آلاف الشواكل سنوياً،(2) وهو الأمر الذي يجعل من وصول الدعم عبر الجمعيات المختلفة أكثر سهولة، خاصة في ظل التوجه بعدم دعمها بشكل علني. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ؛ فنشاط المنظمة التخريبي والإجرامي الذي يصل إلى حدّ الاعتداء الجسدي والتهديد بالقتل وإطلاق الشعارات العنصرية الداعية لقتل العرب وغيرها من الخطابات والممارسات العنصرية يُشير لغياب رغبة جهاز الشرطة أو البُنى القضائية الإسرائيلية بمعالجة هذه الظاهرة وانتشارها بكثافة خلال العقد الأخير.
إجمالاً، إن هذه الأنشطة اليمينية العنصرية ضد العرب التي تصدر عن منظمات يمينية استيطانية عنصرية مثل "لاهافا"، لا يُمكن فصلها عن تلك المهام والسياسات المصمّمة والمهندسة حكومياً (حكومات يمينية استيطانية قومية متطرفة)، والساعية إلى تهويد المدينة المقدسة والقضاء على أي طابع عروبي فيها، وما تتضمّنه هذه العملية من مصادرة للبيوت والأراضي والملاحقات والتحريض على القتل والاعتداءات المتكررة في ظل غياب رادع حقيقي للجم إسرائيل ومخطّطاتها الاستيطانية التهويدية في الأراضي الفلسطينية، وفي العاصمة المحتلة على وجه التحديد.
هوامش
1- مقابلة مع المدير التنفيذي لمنظمة "لاهافا" بنتسي غوفشتاين، الموقع الرسمي لمنظمة "لاهافا" على الشبكة، https://bit.ly/336Epgs (آخر مشاهدة 29.04.2021).
2- أوري بلاو وشاي غرينبرغ، "كهانا حي بشكل جديد". هآرتس، 07.05.2011، http://www.haaretz.co.il/misc/1.1173276 (آخر مشاهدة 29.04.2021).