تُطرح في الخطاب الإسرائيلي العام بوتيرة متزايدة مصطلحات ومفاهيم ومبادئ وأفكار كثيرة من قبيل "حقوق الإنسان"، "الحقوق الوطنية"، "دولة جميع مواطنيها"، و"دولة يهودية".
ويمكن اعتبار هذه المصطلحات كمفاهيم مناقضة أو قائمة في المسافة الواقعة بين القومية والعالمية. وفضلاً عن مضمونها، فإن لكل واحد منها مغزى عاطفيا ينبع من طريقة استخدامه ومن التاريخ الاجتماعي المرافق له ومن الكيفية التي يُعرض بها. هذه المصطلحات والمفاهيم تحتل حيزاً في النقاش الاجتماعي كما أنها جزء من الأرضية المُشَكِّلة لتفسيرنا لمن نحن ولما يحدث من حولنا. وكما كتب الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في مقالة بعنوان "سياسة الوعي" (2003): "نحن نعرف هويتنا دائما في خضم [حوار مع..]، وأحيانا في خضم [صراع ضد] الأمورِ والأشياء التي يُريد [الآخرون المهمون] رؤيتها فينا". وإلى جانب الجدل الاجتماعي الضروري في الديمقراطية، تنمو وتزدهر أيضا سياسة صراعات ضد أيديولوجيات الآخرين ومحاولات لإقصائهم من الحيز العام.
وعي، وعي مغلوط، ووعي مشوه
وفقاً لتايلور فإن "الهوية الذاتية تتشكل في جانب منها بواسطة الوعي أو غيابه، وأحياناً بواسطة وعيٍ مغلوط من جانب الآخرين، الأمر الذي يمكن أن يلحق بالإنسان الفرد، أو الجماعة، ضرراً حقيقياً، وتشويهاً حقيقياً، إذا ما كان المجتمع الذي يحيط بهم يعكس صورةً مصغرةً، مهينةً أو محقِّرة لهم". وإلى جانب الوعي والوعيِ المغلوطِ الذي تحدث عنه تايلور، ثمة أيضاً "وعيٌّ مشوه" وهو وعيٌّ مغلوطٌ بشكلٍ متعمد لدوافع سياسية.
وخلافاً للحاجة إلى وعيٍ ملائِمٍ والحاجة الديمقراطيةِ لنقاشٍ أو جدلٍ اجتماعيٍ في الحيز العام الذي يخدم ويُنمي أيديولوجيات قومية، فإن المنظمات التي تُركز على دفع القيم العالمية، تُعتبرُ مشبوهةً فوريةً بوصفها "كأولئك الذين يقفون ضدنا". ويُنظر إلى القيم العالمية باعتبارها مرفوضة ولا تُعتبر معايير مشروعة للنقد في الخطاب القومي. وفي الحيز العام – القومي نجد أن الفصل بين الفرد والدولة ضبابي أو مموه: فالفرد يفقد هنا فرديته ويُجنَّد كجزءٍ من المجموع القومي - "الشعب"- من أجل صد الانتقادات الموجهة للدولة. وفي الكثير من الأحيان يعرض النقد ضد سياسة معينة للحكومة كنقد موجّه لـ"الشعب".
كذلك يقوم رجالات السلطة التنفيذية من الطرف اليميني للخريطة السياسية بدمغ أولئك الذين ينتقدونهم باعتبارهم جهات وعناصر تسعى الى المس بإسرائيل. وعلى سبيل المثال، فقد ادعى وزير الداخلية السابق إيلي يشاي أن "التاريخ الإسرائيلي سيقتص من الذين يتباهون بتسميتهم [منظمات حقوق إنسان] بسبب نشاطاتهم ضد الدولة ومن أجل تحويلها إلى دولةٍ لجميع مواطنيها" (محطة القناة 7، 2/2/2012). وصرح تسيكي تسيلع المسؤول في الوزارة ذاتها، في ذلك الوقت، عن طرد مهاجري العمل، قائلا إن "هذه المنظمات [...] هي منظمات فوضوية ترغب في تدمير دولة إسرائيل، مع ثلاث علامات تعجب" ("معاريف"، 5/8/2009). ومن جهته قرر رئيس سلطة الخدمة الوطنية – المدنية، شالوم جربي، أن منظمة "بتسيلم" تعمل ضد الدولة وأنه "يشعر أن من واجبه استخدام صلاحياته لوقف المساعدة التي تقدمها الدولة الى هذه المنظمة التي تعمل ضدها وضد جنودها" ("هآرتس"، 17/8/2014).
كذلك فإن رجالات السلطة التشريعية شركاء في تشويه الوعي وفي التحريض. وعوضا عن إجراء نقاش اجتماعي وإقناع المعارضين، فإن عدد مشاريع القوانين الرامية إلى المس بمن يُنظر إليه كشخص يقف في الجانب الآخر للخريطة السياسية، بلغ حداً قياسياً. وقد بررت عضو الكنيست فاينا كرشنباوم مشروع القانون المتعلق بـ"تشكيل لجان تحقيق في عمل منظمات حقوق الإنسان" بقولها إن هذه المنظمات "تُشجع على التهرب من الخدمة العسكرية، وتقول إن التجنيد للجيش الإسرائيلي غير أخلاقي، وتقوم بنقل مواد من شأنها أن تؤدي إلى اعتقال المتهمين" حسب ادعاءاتها (واينت، 5/1/2011). وطالب زميلها في الحزب، نائب الوزير داني أيالون، بأن "تحقق اللجنة البرلمانية في عمل هذه المنظمات التي تسعى الى تقويض الديمقراطية في إسرائيل" (واينت، 5/1/2011). من جهته أضاف زعيم حزبهما، وزير الدفاع حاليا أفيغدور ليبرمان، مدعيا أن "هذه المنظمات متواطئة مع الارهاب". هناك مثال آخر أُثير خلال نقاش لجنة الداخلية التابعة للكنيست لموضوع طالبي اللجوء. فقد ادعت رئيسة اللجنة في ذلك الوقت، وزيرة الثقافة حاليا ميري ريغف، بأن هناك "جمعيات تستخدم المتسللين من أجل تقويض وجود دولة إسرائيل" وادعى عضو الكنيست زفولون خلفا أن "المتسللين هم فقط العارض، والجمعيات هي المرض" (20/1/2014).
ولعل المثال الأبرز على التحريض تمثل في دعوة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في يوم الانتخابات للكنيست (17/5/2015) لأنصار اليمين للقدوم والتصويت بحجة أن "سلطة اليمين في خطر. فالناخبون العرب قادمون بكميات هائلة إلى صناديق الاقتراع. وجمعيات اليسار تقوم بنقلهم في حافلات باص".
في السنوات الأخيرة تقوم المؤسسة الرسمية بتشجيع وتمويل منظمات مجتمع مدني مهمتها مهاجمة الآراء والمنظمات التي لا تروق لرئيس الوزراء. من هنا يمكن فهم الدعم المكثف - والخفي - من جانب بنيامين نتنياهو لمجموعة الاحتجاج التي تطلق على نفسها "احتجاج أفراد الاحتياط" التي تشكلت في أعقاب حرب لبنان الثانية (2006)، واستخدام محققين خصوصيين ضد منظمات حقوق الإنسان (كما فعلت حركة "إم تِرَتسو – إذا أردتم" اليمينية المتطرفة)، وحملة التحريض ضد"المندسين" – أي النشطاء العاملين في مثل هذه المنظمات – التي أطلقتها الحركة المذكورة في أواخر العام 2015 (وهي حملة خطط لها موشيه كلوجهيفت، المستشار البارز لوزير التربية والتعليم الحالي نفتالي بينت والمستشار الانتخابي لحزب "البيت اليهودي") (واينت، 16/12/2015)، ومنشورات"عاد كان – حتى هنا" (2016) التي تعمل بهدف "كشف الوجه الحقيقي لمنظمات نزع الشرعية في إسرائيل" عن طريق مراقبة وزرع باحثين (مزيفين) مموهين داخل منظمات حقوق الإنسان.
وعوضا عن محاولة الإقناع من خلال النقاش الحر، فإن هذه المنظمات اليمينية تركز جهودها على دمغ وإقصاء كل من يفكر أو يعمل بناء على تفسيره المحلي للقيم العالمية.
"الذين يقفون ضدنا" - سبعة ادعاءات من التشويه والتحريض!
ثمة ادعاءات سافرة تُستخدم لتشويه الوعي وإقصاء الخصوم الأيديولوجيين عن طريق تقديمهم بشكلٍ مقلص ومهين. ويمكن تقسيم هذه الادعاءات الى سبعة أنواع من التشويه والتحريض.
الإدعاء الأول- المنظمات تعمل بدوافع سياسية وليس قيمية: ولذلك فإن معظم منظمات حقوق الإنسان تُعتبر مثلا، من وجهة نظر NGO monitor - هيئة تُعنى بجمع المعلومات عن منظمات غير حكومية - "منظمات سياسية إسرائيلية تدعي أنها تعمل من أجل دفع حقوق الإنسان". على سبيل المثال، منظمة "بتسيلم" تأسست في العام 1989 بمبادرة من جانب أُدباء وكتاب وقانونيين وأعضاء كنيست غالبيتهم من حزبي ميرتس والعمل؛ منظمة عدالة "تعمل من أجل دفع الدستور الديمقراطي الداعي الى تصفية الإطار اليهودي لدولة إسرائيل"؛ منظمة أطباء لحقوق الإنسان هي منظمة "هدفها الرئيس [...] سياسي محض"، الى آخر القائمة التي تضم منظمات كثيرة، تعمل وتسعى من أجل دفع قيم وتوجهات عالمية تتناقض مع الموقف الأيديولوجي للمنظمة المذكورة (أي NGO monitor ). كذلك فقد أشار رئيس ما يسمى بـ"مجلس مستوطني السامرة" بيني كتسوفر ("هآرتس"، 8/1/2012) الى أن "نشطاء اليسار" ينظمون حملات متزامنة ضد كل ما تفوح منه رائحة مقدسة، علماً أن لديهم مقصدين اثنين، الأول سياسي ويهدف إلى تقويض الحكومة وحصد أسهم لدى الرأي العام، والثاني العمل ضد كل أُسس العقيدة اليهودية" على حد تعبيره.
الإدعاء الثاني- منظمات حقوق الإنسان تفتقد في عملها للاستقامة والمصداقية: ولذلك لا حاجة لبحث ومواجهة ادعاءاتها وكشوفاتها. وتضم قائمة منظماتNGO monitor تلك المنظمات التي لا يجدر الوثوق بها، ذلك لأنها تتصرف بعدم استقامة، فمنظمة أمنستي (العفو الدولية) "تدين إسرائيل فقط بشكل غير متناسب... تحرف وتشوه القانون الدولي"، ومنظمة جيشاه "عادت واتهمت إسرائيل بصورة كاذبة بممارسة العقاب الجماعي"، واللجنة الشعبية ضد التعذيب في إسرائيل "تتناول نشاطاتها بصورة دائمة مواضيع تتعدى ما هو مبين في إعلان مهمات المنظمة"، ومنظمة عدالة "تستخدم بصورة خطيرة ومليئة بالكراهية كذبة الأبارتهايد".
الإدعاء الثالث- الانتقادات التي توجهها المنظمات ظلم أو تشهير: لذلك لا ضرورة لمواجهة ادعاءاتها، وبالتالي يمكن مقاضاتها. وعلى سبيل المثال "قانون منع المس بدولة إسرائيل بواسطة المقاطعة – من العام 2011" ينص على أن أي "امتناع بشكل متعمد عن اقامة علاقة اقتصادية، ثقافية أو أكاديمية مع شخص أو مع جهة أخرى، فقط بسبب صلته بدولة إسرائيل، أو مع مؤسسة من مؤسساتها أو منطقة تقع تحت سيطرتها، وينطوي على ما من شأنه إلحاق ضرر اقتصادي، ثقافي أو أكاديمي بهم، يعتبر بمثابة ظلم أو إجحاف". من هنا فإن أي امتناع علني عن إقامة علاقة مع مؤسسة أو سلعة مصدرها المناطق الفلسطينية المحتلة هو عمل يجب المعاقبة عليه. هناك مثال آخر وهو مشروع قانون "منع القذف والتشهير بالجمهور وبسلطات الدولة" الذي قدمه عضوا الكنيست يعقوب كاتس وتسيون بينيان. ويمكن للمواطنين بموجب هذا الاقتراح أن يقاضوا، حتى من دون إثبات وقوع الضرر، من قام بالقذف والإساءة للجمهور الذي ينتمون إليه. وقد جاء في تبرير مشروع القانون أنه "نشر مؤخرا بأن جمعيات إسرائيلية مختلفة، سلمت معلومات للجان تقصي تابعة للأمم المتحدة حول نشاطات الجيش الإسرائيلي أثناء عملية الرصاص المصبوب، وقد تسببت هذه المعلومات بإلحاق ضرر شديد بسمعة دولة إسرائيل وببلورة استنتاجات تلحق ضررا خطيراً بالسياسة الخارجية لدولة إسرائيل، لم تتضح نتائجها الهدامة بعد".
الإدعاء الرابع- منظمات حقوق الإنسان تتواطأ مع حملة نزع الشرعية الدولية عن إسرائيل: ولذلك باشرت حركة "إم تِرَتسو" بحملة دعاية تحت عنوان "الصندوق الجديد لإسرائيل والحملة لمقاطعة إسرائيل ومنتجاتها" بدعوى أن "دولة إسرائيل واجهت في السنوات الأخيرة هجمة نزع شرعية لم تعرفها من قبل، وثمة في إسرائيل أيضا منظمات غير برلمانية تعمل من أجل تشويه سمعة الدولة في الخارج والداخل، ومن أجل تقويض المناعة القومية لدولة إسرائيل وقدرتها على الدفاع عن نفسها". وتبين صحيفة "يسرائيل هيوم" (23/12/2010) لقرائها بأن "قسما من منظمات اليسار الإسرائيلية تستمر في ترويج الرسالة القائلة بأن أجهزة الأمن الإسرائيلية ترتكب جرائم حرب في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)".
المثال البارز في مسلسل هذه المزاعم أورده أمنون لورد (NRG- موقع إلكتروني، 23/5/2014) الذي ادعى في مقال تحت عنوان "قتل الفلسطينيين في بيتونيا: متعة اليسار الساديّة" بأن "اليسار الإسرائيلي المتطرف على اختلاف منظماته، وكذلك السلطة الفلسطينية، يفرضان احتكاكا دائما بين مجموعات فلسطينية عنيفة وبين قوات الأمن الإسرائيلية. وتقوم منظمات إسرائيلية ودولية بتشويش قدرة قوات الأمن الإسرائيلية على فرض القانون والنظام، وعندما ينجحون في ذلك يحققون مأربهم: سقوط ضحايا ومصابين، ويفضل أن يكون هناك قتلى فلسطينيون. وهكذا تستخدم الدماء الفلسطينية واليهودية كوقود في دعاية الشيطنة التي تبثها منظمات يسارية متطرفة ضد دولة إسرائيل".
الإدعاء الخامس- منظمات حقوق الإنسان تخدم آخرين مقابل الحصول على تمويل: ولذلك فقد كتب رونين شوفال ("هآرتس"، 22/12/2011) عن "مجموعة من الأشخاص يسيطرون على عدد من مراكز القوة وأحد القواسم المشتركة بينهم هو تمويلهم من جانب دول أجنبية"؛ وكتب أريئيل سيغال (موقع nrg، 22/3/2012) عن منظمات حقوق الانسان بأنها "تهاجم في الخارج شرعية الدولة، من جهة، وتعمل في الداخل من جهة أخرى، من أجل تقويض الهوية القومية للدولة اليهودية، وذلك بتمويل مال أجنبي بطبيعة الحال". من جهة أخرى لم يتطرق الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، الميجر جنرال آفي بينياهو، في تعقيبه على تقرير منظمة "لنكسر الصمت" - الذي تضمن شهادات جنود إسرائيليين حول الأشكال التي أُديرت بها عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة- الى شهادات الجنود، ولكن نقل عنه القول بأنه يرى "وجود استهتار أخلاقي في الفترة الأخيرة"، وعزا ذلك إلى "التنافس بين المنظمات على الأموال".
وقد أطلق على التقرير الذي عرض في الكنيست من جانب NGO monitor ومعهد الإستراتيجيا الصهيونية: "سيادة مع وقف التنفيذ: حجم تأييد الحكومات الأجنبية للمنظمات السياسية في إسرائيل"، ويؤكد هذا التقرير، الذي يتمحور فقط حول منظمات حقوق الإنسان أو معسكر السلام (2009، ص26) على أن "هذه المنظمات تعمل كوكلاء إسرائيليين للممولين الخارجيين – حكومات (غالبيتها أوروبية ومن ضمن ذلك الاتحاد الاوروبي نفسه) وصناديق أجنبية مثل الصندوق الجديد لإسرائيل وصندوق فورد". لذلك قدمت بمرور السنوات مشاريع قوانين مختلفة هدفها المس بتمويل المنظمات لأن "الحكومات الأجنبية - كما ادعت وزيرة العدل حاليا أييلت شكيد ("معاريف"، 10/7/2013)- متورطة حاليا، عن طريق الدعم الذي تقدمه لمنظات متطرفة، في محاولات مستمرة لتصفية الطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل". وأضاف من جهته عضو الكنيست يوآف كيش في مشروع قانون يدعو الى وصم جمعيات تتلقى تمويلا من كيان سياسي أجنبي، قائلا إن هذه الجمعيات "مزروعة من طرف الدول التي تساندها" ("هآرتس"، 15/12/2015).
أحد الأمثلة البارزة على التحريض السافر في مسلسل هذه الإدعاءات هو الفيلم القصير الذي أنتجته شبكة مجلس مستوطني السامرة (يوتيوب، 14/2/2015) والذي يُشاهَد فيه شخص يجلس ويتصفح جريدة اسمها HASMOL (اليسار) وعلى صفحتها الأولى أخبار وقصص تشهير بإسرائيل والجيش الإسرائيلي. وبينما كان يقوم بذلك طرق باب شقته رجل يتحدث بلكنة ألمانية ليعلمه قائلا باللغة الإنجليزية "هار شتيرمر، اليهودي هنا". دخل "اليهودي" واقترح بحماس سرد قصص عن أطفال ورضَّع فلسطينيين، وعن الجيش الإسرائيلي والحواجز العسكرية. وحصل في المقابل على نقود بعملة اليورو. في نهاية الشريط يتلقى "اليهودي" تعليمات تطالبه بتولي أمر نفسه، ثم يُقْدِم على الانتحار بينما ظهرت على الشاشة عبارة ورد فيها "ربما سيبدو الأوروبيون لكم اليوم مختلفين، ولكنكم تبدون في نظرهم بالشكل نفسه بالضبط"، ووردت إلى جانب هذه العبارة أسماء ورموز منظمات (يسارية) مثل الصندوق الجديد لإسرائيل، بتسيلم، يوجد حد، السلام الآن وغيرها.
الإدعاء السادس- دمغ منظمات حقوق الإنسان بأنها كارهة لإسرائيل ولا سامية: وعليه فقد ادعى نائب وزير الخدمات الدينية، إيلي بن دهان، حاملا على "الصندوق الجديد لإسرائيل" بقوله: "من ناحية هؤلاء فإن كل ما يمكن له أن يسيء لضباط وجنود الجيش الإسرائيلي الذين توجد لديهم كرامة وروح يهودية، مثل عوفر فينتر (قائد سابق للواء غفعاتي)، يعتبر أمراً مشروعاً". كذلك صرح رئيس "مجلس مستوطني السامرة" بيني كتسوفر، قائلا إن "التحريض ضدنا ينبع من نفس الجذر المعادي لليهود واليهودية، والذي يسعى الى اقتلاع كل شيء" ("هآرتس"، 8/1/2012)؛ كذلك واضح لِيسرائيل هريئيل بأن الصندوق الجديد لإسرائيل كـ"منظمة يسارية متطرفة.. يمول أيضا منظمات غير عربية، مثل جمعية حقوق المواطن، والتي تسعى إلى تقويض الهوية اليهودية لدولة إسرائيل" حسب تعبيره ("هآرتس"، 11/2/2011)؛ أو كما ورد في عنوان مقالة يوءاف شوريك: "اليسار الإسرائيلي يذكي اللا سامية في أوروبا" (nrg، 25/5/2014).
الإدعاء السابع- انعدام المصداقية: ولذلك فقد عرَّف موقع "يسرا - كامبوس" عن نفسه بأنه "موقع يرصد ويراقب الطابور الخامس بين الأكاديميين الإسرائيليين ويوثق التطرف المناهض لإسرائيل في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية". ونقل عن البروفسور ستيفان فلاوت، أحد مؤسسي هذه المنظمة، قوله: "إن الحديث لا يدور حول جدل أيديولوجي وإنما حول منشورات المجموعة المناهضة لإسرائيل التي تدعم وتؤيد العدو بصورة علنية" ("هآرتس"، 22/1/2013)
وقد تصدرت حملة حركة "إم ترتسو" التي جرت عشية إحياء ذكرى قتلى الجيش الإسرائيلي في العام 2010، اعلانات جاء فيها "نحن نؤدي التحية للعلم، وهم يلاحقون! خسئتم أيها المتآمرون- الصندوق الجديد لإسرائيل ومنظمة عدالة".
وفي هذا السياق فإن ردود الفعل تجاه الانتقادات التي وجهت للحكومة خلال عملية "الجرف الصامد" في قطاع غزة (2014) مالت في الكثير من الأحيان للتمسك بهذا الخط أيضا. وقالت سارة بيك، مقدمة برنامج "مساء جديد" في التلفزيون التعليمي، مخاطبة الحاخام أريك آشرمان أحد نشطاء مجموعة الحاخامين التي تطلق على نفسها "المحافظون على القانون – حاخامون من أجل حقوق الإنسان": "في الوقت الذي يذود فيه شعب إسرائيل عن حياته داخل قطاع غزة، أتت مجموعة تنتمي لجزءٍ من الشعب لتطلق ببساطة الرصاص على الجنود من الخلف" (24/7/2014).
المثال الأبرز على تحريض من هذا النوع، تمثل في الحملة التي أطلقتها حركة "إم ترتسو" تحت عنوان "المندسون". ففي بداية الشريط شوهد "مخرب" فلسطيني يستل سكينا ويصوبه نحو المشاهد، وظهرت في الخلفية عبارة جاء فيها "في المرة القادمة عندما يهم مخرب بطعنك فإنه يدرك أن ثمة من سيدافع عنه"، وتعرض هنا أسماء ووجوه أربعة نشطاء حقوق إنسان ذكر أنهم "إسرائيليون، يقيمون هنا معنا، ولكنهم من المندسين. ففي الوقت الذي نحارب فيه ضد الإرهاب نجدهم يحاربون ضدنا" ("هآرتس"، 15/12/2015)
تلخيص
يرى القوميون المتعصبون تفسيرهم الأيديولوجي "القومي" لـ"القيم القومية" بأنه التفسير المشروع الوحيد، وفي الوقت ذاته لا يرى قسماً منهم أن ثمة أهمية أو مكانا لتفسيرات ترتكز إلى القيم العالمية. وتُعرض هذه القيم الأخيرة (أي العالمية) كانحراف عن الصواب، بينما تعرض القيم القومية على أنها حقيقية، تاريخية، موثوقة، نقية ومستديمة. ويرى القوميون في عملية النقد لأنشطة الحكومة أمراً يقتضي لفظ وإقصاء المنتقدين بمعزل عن فحوى النقد. والمبدأ الموجه هنا واضح: فكل من ينتقد نشاطات حكومة إسرائيل أو سياستها هو في منزلة "الآخر"، وهو ليس إسرائيليا أو أنه إسرائيلي فاسد وغير ملائم. كذلك، ليس هناك فصل بين انتقاد السلطة وبين انتقاد الشعب، فأي انتقاد للحكومة ينظر إليه كانتقاد موجه "لنا" على لسان شخص "يقف ضدنا"، فهو شخص غير موال يعمل انطلاقا من دوافع غريبة كالمال وانعدام الاستقامة وعدم المصداقية، والكراهية والخيانة والرغبة في "طعن الأمة في ظهرها".
أما الرؤية العالمية التي تتبناها منظمات حقوق الإنسان، ومعطياتها واستنتاجاتها وانتقاداتها، فليس لها مكان في الخطاب "القومجي"، كما أن أية صلة أو علاقة بهم تعتبر مرفوضة ومدانة. وعلى سبيل المثال فقد ورد على لسان رونين شوفال قوله عن"الصندوق الجديد لإسرائيل" إن "من يحصل على تمويل من الصندوق يتحول إلى ورقة تين له. ويشبه ذلك من يقوم باغتصاب أطفال ثم يقدم لهم الحلوى، ومن الأفضل عدم أخذ الحلوى منه" ("معاريف"، 25/1/2014). وتساءل كوبي أريئيل في محطة إذاعة الجيش الإسرائيلي ازاء تقرير منظمة "لنكسر الصمت"، والذي تضمن شهادات جنود حول الطريقة التي أديرت بها عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة، بقوله: "أوَلا يقوم خونة يساريون، يعانون من مشكلة هوية، بالتجسس علينا لحساب المعسكر الآخر... لماذا لا يقوم الأقوياء منا بضربهم ضرباً مبرحاً يعيدهم الى بيوتهم بعاهات مستديمة" ("كول هعير"، 24/7/2009).
________________________
(*) أستاذ جامعي إسرائيلي وناشط في مجال حقوق الإنسان. المصدر: شبكة الانترنت.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي, بتسيلم, هآرتس, يسرائيل هيوم, معسكر السلام, الكنيست, نائب وزير, بنيامين نتنياهو, يوآف كيش