المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1454

"تؤكد التحليلات الاقتصادية أن لا مستقبل لدولة إسرائيل بدون تقليص الفجوات بين شرائحها الاجتماعية المختلفة، بينما تفرض السياسات الإسرائيلية استمرار تعميق الفجوات، طوال السنين. وليس ثمة طريقة سهلة لقول الحقيقة التالية: دولة إسرائيل تتقدم في مسار انتحاري وتقضي على مستقبلها. وهي تفعل هذا بعينين مفتوحتين. فرفض الأغلبية اليهودية إدراك حقيقة أن مجموعات الأقلية هي الشرط الضروري لنجاحها المستقبلي يحكم عليها (على الأغلبية اليهودية) بالفشل المحتوم. فقط حين يفهم اليهود أن مساعدة العرب هي، أولا وقبل كل شيء آخر، مساعدة لهم أنفسهم ـ فقط عندئذ يمكن أن تقوم لنا قائمة"!

هذه هي الخلاصة المكثفة التي تتوصل إليها ميراف أرلوزوروف، المعلقة الكبيرة والكاتبة اليومية في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية، في ختام سلسلة من المقالات خصصتها لأوضاع العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل، الاقتصادية والاجتماعية، ونشرت تباعاً في مطلع شهر كانون الثاني الجاري.

والخلاصة المذكورة هي التي توجت بها أرلوزوروف مقالها الأخير في السلسلة (يوم 7 كانون الثاني الجاري) عنواناً، بالقول: "مساعدة العرب هي، أولا وقبل أي شيء، مساعدة لليهود"! بعدما أكدت أن "الاعتراف بالمشكلة هو نصف الطريق إلى الحل"، كما هو معروف، مشيرة إلى قرار الحكومة الإسرائيلية الذي أقرت فيه "خطة حكومية لتطوير الوسط العربي".

وأضافت الكاتبة: "لكن هذا الاعتراف هو نصف الطريق فقط، لا كلها. ورغم أهمية قرار الحكومة الدراماتيكي والتاريخي، إلا أنه ـ وحتى لو تم تنفيذ بالكامل ـ يظل أقل بكثير من المطلوب لتقليص الفجوات في المجتمع العربي ولإحداث التغيير المنشود"!. وتردّ أرلوزوروف جزءا أساسيا من "دراماتيكية وتاريخية" القرار إلى حقيقة كونها "المرة الأولى التي تعترف فيها حكومة إسرائيل، رسميا، بأنها تمارس التمييز ضد مواطنيها العرب وتقدم معطيات رسمية تثبت ذلك"!

ألمانيا أم رومانيا؟- الأمر منوط بوضع العرب!

تؤسس أرلوزوروف تحليلها هذا وخلاصته، كما أوضحناها آنفا، على "توقعات النمو طويلة المدى في إسرائيل"، كما عرضتها عميدة "بنك إسرائيل" (البنك المركزي في إسرائيل)، كرنيت فلوغ، قبل ذلك ببضعة أيام. وهي توقعات وتقديرات منوطة بتغيرات بنيوية عميقة في المجتمع الإسرائيلي، وخاصة في كل ما يتعلق بمعدلات المشاركة في سوق العمل وقوته ومعدلات التعليم، بمختلف درجاته ومستوياته، وكذلك ـ وهو الأهم ـ كل ما يتعلق بتوزيعة هذه المعدلات على القطاعات السكانية المختلفة في إسرائيل: العرب، اليهود الحريديم واليهود الآخرون.

وكانت عميدة بنك إسرائيل قد عنونت تقريرها الآنف بـ: "توقع تراجع كبير في وتيرة النمو خلال العقدين القادمين"! وهو ما يخفي، بين طياته، "انهيارا حادا ـ ليس أقل! ـ محتملا في مستوى معيشة المواطنين في إسرائيل، جراء التحولات الديمغرافية في المجتمع الإسرائيلي"!

فبناء على الوتيرة الحالية لمعدلات النمو في إسرائيل، كان من المتوقع أن يرتفع مستوى المعيشة في إسرائيل ـ وهو يقاس بمعدل الناتج الإجمالي للفرد (يبلغ اليوم 120 ألف شيكل في السنة) ـ إلى 225 ألف شيكل (للفرد) حتى العام 2059، ما يعني مضاعفته تقريبا. أما فعليا، وطبقا للتوقعات المستندة إلى السيرورات المتوقعة والمحتملة مستقبلا، فلن يتحقق هذا الارتفاع، مطلقا، "وذلك بسبب معدلات الإنتاج المتدنية بين السكان العلمانيين العاملين، مستوى التعليم المتدني وقلة العمل بين الحريديم والعرب"! فهذه العوامل معاً "تشدّ بالاقتصاد الإسرائيلي ومستوى الحياة في إسرائيل إلى الوراء وإلى تحت"، كما تؤكد عميدة البنك المركزي.

وتضيف التوقعات الرسمية أنه في أفضل الأحوال، إذا ما نجحت الحكومة الإسرائيلية في معالجة أوضاع الحريديم والعرب وتحسينها، في مجالي العمل والتعليم خاصة، ولو قليلاً، فمن الممكن أن يرتفع مستوى المعيشة في البلاد إلى 170 ألف شيكل للفرد سنويا. أما بدون ذلك، فسيضطر المواطنون في إسرائيل إلى الاكتفاء بمستوى يعادل 150 ألف شيكل للفرد سنويا. ومعنى هذا، أن مستوى المعيشة في إسرائيل سيحقق خلال السنوات الـ 45 المقبلة، كلها، ارتفاعا ضئيلا جدا لا تزيد نسبته عن 25%. وهذه زيادة ضئيلة جدا على امتداد فترة زمنية طويلة جدا، نسبيا، وهو ما يعني، بشكل أساس: توقع تدهور مستوى المعيشة في إسرائيل إلى درجات غير مسبوقة وغير محتملة، "فبدلا من أن تصبح مثل ألمانيا، ستصبح ـ بعد 45 عاما ـ مثل رومانيا، بكل ما يعنيه هذا"!

والمركّب المركزي الذي يشكل لبّ هذه التوقعات، كما ذكرنا، هو تأثير الفجوات العميقة التي يعاني منها المواطنون العرب والحريديم، بشكل أساس، على مجمل الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي في إسرائيل، على معدلات ووتائر النمو المستقبلية فيها وعلى مستوى معيشة المواطنين عامة فيها. فإذا لم تقم الحكومة بتقليص هذه الفجوات وتحسين أوضاع هاتين الفئتين السكانيتين، فستكون النتيجة الحتمية التي لا مهرب منها: تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين كلهم، بشكل عام. وبناء على هذا، فإن المشاكل التي تتخبط فيها هاتان الفئتان، تحديدا، "ليست مشكلتهما، بل مشكلتنا نحن، جميعاً. مشكلة إذا لم نحسن معالجتها، فستقضي على مستقبل إسرائيل كدولة مزدهرة، متقدمة وناجحة"!

وتحدد الكاتبة الخطوة العملية الأولى التي ينبغي القيام بها لحل مشاكل هاتين الفئتين السكانيتين، ثم تضيف: "بالنسبة للعرب، المهمة واضحة تماما ـ يجب إلزام اليهود بالتوقف عن التمييز ضد العرب ومنحهم فرصة متساوية، في سوق العمل وفي سوق التعليم على حد سواء"!

الفجوات نتاج سياسيّ لا "قضاء مكتوباً"!

تؤكد الكاتبة أن تجارب عديد من الدول المتقدمة تثبت أنه من الممكن تقليص الفجوات، الاقتصادية ـ الاجتماعية، بين شرائح وقطاعات مختلفة من السكان في الدولة المعنية. لكن تحقيق ذلك منوط بالقرار السياسي وبالإرادة السياسية لتنفيذه. وتضيف: "وهذه هي المشكلة، بالضبط: دولة إسرائيل، بالذات، التي تحتل صدارة الدول المتقدمة من حيث معدلات الفقر وعمق الفجوات فيها، والتي تدرك بأنها إذا لم تعالج هذه الفجوات فستصبح مثل رومانيا ـ لا تفعل أي شيء، تقريبا، من أجل تقليص هذه الفجوات"!
فالفجوات الاجتماعية ليست "ضربة من السماء" وهي ليست قدرا مكتوبا ومحتوما. إنها نتيجة مباشرة للسياسات الحكومية المنهجية الممتدة سنوات طويلة جدا ـ يمكنها خلق مثل هذه الفجوات وتعميقها، كما يمكنها تقليصها وردمها بصورة كبيرة، إن هي أرادت.

وللتدليل على هذا وإثباته، تسوق الكاتبة نماذج عن تجارب بعض الدول المتقدمة، كما وثقها بحث مقارن حول السياسة الحكومية التمييزية ضد المواطنين العرب، أجرته شركة الخدمات الاستشارية الاستراتيجية "تاسك"، بناء على طلب خاص من قسم الميزانيات في وزارة المالية الإسرائيلية، وزارة المساواة الاجتماعية (سلطة تطوير قطاع الأقليات) وديوان رئيس الحكومة، وصدر تحت عنوان: "خطة منظومية لدمج المجتمع العربي اقتصادياً".

وتكشف هذه الوثيقة، التي تمتد على 100 صفحة، أن جميع الوزارات في الحكومة الإسرائيلية، وفي جميع البنود المختلفة في ميزانياتها، تنتهج سياسة تمييزية واضحة وصريحة ضد المواطنين العرب، بحيث يحصلون ـ دائما، تقريبا ـ على ميزانيات تقل عن نسبتهم من مجمل السكان في إسرائيل (20%، حداً أدنى) وتقل، كثيراً جداً، عن الميزانيات المطلوبة واللازمة، موضوعيا، لسدّ وتلبية احتياجاتهم.

ومعنى هذا، أن الدولة تعمق الفجوات بين المواطنين العرب والمواطنين اليهود باستمرار، ما يعني مفاقمتها بصورة متواصلة وجعلها أكثر حدة وخطورة، من سيء إلى أسوأ، عوضا عما كان يتوقع من "دولة رفاه" أن تقوم به وما كان يفترض بها أن تقوم به ـ انتهاج سياسة "رصد تفضيلي" لدعم الطبقات والفئات المستضعفة والفقيرة سعياً إلى "انتشالها" وتحسين أوضاعها، بما يعود بالفائدة على سائر الفئات السكانية وعلى مجمل المواطنين، عموماً.

وفي سياق المقارنة، فحص البحث ما قامت به دول أخرى في مسعاها نحو معالجة الفجوات الاجتماعية بين فئات سكانية مختلفة لديها، وخاصة الفجوات التي تعاني منها فئات سكانية أقلياتية، مستضعَفة ومهمّشة. وتبين من هذه المقارنة أن دولا ليبرالية غير قليلة تحدت مشكلة الفجوات الاجتماعية العميقة وعالجتها بنجاح ملحوظ.

فهولندا، مثلا، واجهت مشكلة المهاجرين الذين تدفقوا إليها في ستينيات القرن الماضي، من مستعمراتها السابقة، وخصوصا في مجال التعليم. فوضعت الدولة برنامجا تطويريا خاصا وصل في إحدى مراحله حدّ منح الطلاب "الضعفاء" ميزانيات تعادل 130% من الميزانيات المرصودة للطلاب "الأقوياء"، ما يعني أن كل طالب "ضعيف" كان يحصل على ميزانية تعليم تعادل 3ر2 ضعف من ميزانية الطالب "القوي"، وهو ما أوصل جهاز التعليم الهولندي، في النتيجة، إلى مرتبة اعتباره متفوقا، وخصوصا في تقليص الفجوات!

والأمر ذاته، تقريبا، حصل في الولايات المتحدة "التي تعتمد سياسة نيوليبرالية متطرفة" وأوصل إلى نتيجة تمثلت في تحسين مستوى تحصيل الطلاب "الضعفاء" بصورة كبيرة جدا وتقليص الفجوات بينهم وبين الطلاب "الأقوياء" بصورة حادة.

لكن تقليص الفجوات في تلك الدول، ومن بينها الدولتان المذكورتان، لم يقتصر على مجال التعليم فحسب، بل طال مجالات أخرى عديدة. وأحد النماذج الأكثر تعبيرا عن هذا، كما يسجلها البحث المقارن، هو ما حصل في ألمانيا بعد انهيار "المعسكر الاشتراكي" وسور برلين في العام 1989، ثم توحيد شطري الدولة الألمانية الغربية والشرقية (وهذه الأخيرة كان عدد سكانها الإجمالي يشكل 20% فقط من مجموع سكان ألمانيا الموحدة!). وهو نموذج لافت لأنه يعكس، تحديدا، مدى تقليص الفجوات بين المركز والضواحي البعيدة، في كثير من المجالات الحياتية، انطلاقا من قرار سياسي تمثل في رصد ميزانيات هائلة لتطوير وتحسين الأوضاع في "ألمانيا الشرقية"، بما في ذلك البنى التحتية، شبكات الشوارع والمواصلات، التعليم وغيرها،
حتى أصبحت ألمانيا، بعد 25 سنة من توحيد شطريها، "دولة واحدة موحدة (غربها وشرقها) تنعدم فيها الفوارق والفجوات الجدية، كما كانت في السابق وفي بداية فترة التوحيد / الاندماج"!

المواصلات في المجتمع العربي أقلّ بـ 60%!

خلافا لما بينته هذه النماذج، وغيرها، التي يتضمنها البحث المقارن المذكور، تقول الكاتبة إن دراسة وتحليل "خطة دمج العرب" التي وضعتها وزارة المالية الإسرائيلية تكشف عن أن وزارة المواصلات الإسرائيلية، مثلا، "لم تُجر، منذ قيام الدولة وحتى اليوم، أي بحث أو فحص لاحتياجات المناطق البعيدة عن المركز، ومنها الضواحي البعيدة وجميع القرى والبلدات العربية، في مجال المواصلات والبنى التحتية اللازمة، من شوارع وغيرها، ولذا فهي (وزارة المواصلات) لا تمتلك قائمة بالأهداف المراد تحقيقها في هذا المجال"! ولذا، أيضا، لم تضع الوزارة أية خطة لتقليص الفجوات في كل ما يتعلق بشبكات الشوارع والمواصلات عامة في الوسط العربي، سواء في داخل القرى والبلدات العربية نفسها أو في الطرق المؤدية إليها.

ونتيجة لهذا "ثمة إجماع تام، تقريبا، بين جميع المهنيين المختصين الكبار في وزارة المواصلات على أن وضع شبكات الشوارع والبنى التحتية المختلفة في مجال المواصلات في القرى والبلدات العربية في إسرائيل سيء جداً"!! وتشير التقديرات الرسمية إلى أن البنى التحتية في مجال المواصلات في الوسط العربي "تتخلف بنحو 60% عما هي عليه في الوسط اليهودي"!

وتلعب شبكة المواصلات والشوارع المتردية في الوسط العربي، سواء في داخل البلدات والقرى العربية أو في الطرق المؤدية منها وإليها، دورا كبيرا جدا في منالية العمل وفرص العمل وفي القدرة على الالتزام بما يترتب عليها من واجبات، فضلا عن تأثيرها العميق على مختلف مناحي الحياة، وهو ما يشكل سبباً آخر من أسباب تدني نسبة مشاركة المواطنين العرب، إجمالا، في قوة العمل في إسرائيل.

الطالب العربي ـ تُسْع الطالب اليهودي!

أما في مجال التعليم، وخلافا لما هو معمول به في إنكلترا وهولندا والولايات المتحدة، على سبيل المثال، فميزانية التعليم في إسرائيل "ليست شفافة" (!) وجزء قليل منها فقط يتم رصده، تخصيصه وتوزيعه بموجب معايير اقتصادية ـ اجتماعية محددة وثابتة!

والنتيجة الحتمية المترتبة على هذا هي ما يمثله الواقع السائد والممتد منذ عقود: المخصصات المرصودة من ميزانية وزارة التعليم للطالب اليهودي تزيد عن تلك المرصودة للطالب العربي (في المدارس العربية) بـ 30% في المرحلة الابتدائية، بـ 50% في المرحلة الإعدادية وبـ 75% في المرحلة الثانوية.

ولدى زيادة الميزانيات التي ترصدها السلطات المحلية والأهالي للطلاب في المدارس، يصبح معدل ما يحصل عليه الطالب اليهودي أكثر مما يحصل عليه الطالب العربي بـ
78% حتى 88%. أي أن ما يحصل عليه الطالب العربي يعادل نحو تُسْع ما يحصل عليه الطالب اليهودي!!

وتواصل وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية ممارسة هذه السياسة التمييزية في رصد الميزانيات الحكومية على الرغم من أن الطلاب العرب هم "الضعفاء" الذين في حاجة إلى الدعم والرعاية الزائدة. فبدلا من تقوية "الضعفاء"، تعمد الوزارة إلى إضعافهم أكثر فأكثر.

وتنوه الكاتبة إلى أنه "صحيح أن وزارة التربية والتعليم تبنت، خلال السنتين الأخيرتين، سياسة تحويل مليار شيكل إلى التعليم الرسمي العربي، لكن لا أوهام لدى أي من مسؤولي الوزارة أو خارجها بأن من شأن هذا أن يسدّ الفجوات الهائلة جدا في جهاز التعليم الإسرائيلي، أو حتى تقليصها بصورة جدية"!

وتذكّر الكاتبة، هنا، بأن إسرائيل احتلت المرتبة الثانية (!!) من بين 65 دولة في ما يتعلق بعمق الفجوات التعليمية وحدّتها فيها، وذلك في "امتحانات بيزا" الأخيرة ("بيزا" أو "بيسا" ـ الاسم المختصر لـ"البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" الذي تعده وتجريه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ـ OECD ـ ويعتبر المعيار الدولي الأساسي لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة).

وينعكس واقع التمييز هذا في الوضع المزري الذي يعاني منه جهاز التعليم العربي في إسرائيل، في مختلف المجالات وبمختلف المقاييس، والذي تظهر نتائجه في ما يحققه هذا الجهاز من تحصيلات و"إنجازات". وأول ما يلفت الانتباه في جهاز التعليم العربي، هنا، هو النسبة المرتفعة جدا لظاهرة "تسرب" ("تساقط") الطلاب وهجرهم مقاعد الدراسة وهم لا يزالون في سن التعليم الإلزامية. فنسبة "التسرب" في جهاز التعليم العربي تزيد بـ50% عنها في جهاز التعليم اليهودي!!

أما الذين يواصلون تعليمهم وينهون المرحلة الثانوية في المدارس العربية فنحو 23% فقط منهم يحصلون على شهادة "بجروت" تؤهلهم للالتحاق بإحدى الجامعات الإسرائيلية، مقابل 47% من بين الطلاب اليهود.

وينتقل هذا "الفارق" مع الطلاب إلى التعليم الأكاديمي في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى، حيث يحظى 13% فقط من الطلاب العرب الذين ينهون الثانوية بالقبول لدراسة اللقب الأول في إحدى الجامعات الإسرائيلية، بينما نسبتهم من مجمل السكان تصل إلى 20%. أما في دراسات اللقب الثاني، فتنخفض نسبة الطلاب العرب إلى 10%، ثم إلى 5% فقط في دراسات اللقب الثالث.

ويواجه الطلاب العرب في داخل الجامعات وخلال تعليمهم الأكاديمي أشكالا مختلفة من التمييز تبدأ بحصصهم من المساكن الطلابية ومعايير الحصول عليها ولا تنتهي بالمنح الدراسية! فحجم المنح الدراسية الإجمالي المتاحة للطالب العربي في الجامعات الإسرائيلية لا يزيد عن 3 آلاف شيكل خلال كل سنوات الدراسة للقب الجامعي، بينما تصل تكلفة هذه السنوات بالمجموع إلى نحو 60 ألف شيكل. وهذا، في الوقت الذي تتوفر فيه صناديق وجهات وعناوين لا عد لها ولا حصر تقدم منحا دراسية مختلفة للطالب اليهودي.

وفي السنوات الأخيرة، استحدث "مجلس التعليم العالي" الإسرائيلي مشروع دعم جديدا للطلاب من فئات اجتماعية "ضعيفة" في الجامعات وشرع في تقديم المنح الدراسية لهم. وبينما رصد هذا المجلس مبلغا وصل إلى 51 مليون شيكل لتقديم منح للطلاب العرب، رصد مبلغا وصل إلى 131 مليون شيكل للمنح للطلاب الحريديم! ولذا، فبينما تبلغ المنحة المتاحة للطالب العربي 1300 شيكل في السنة الدراسية الواحدة، تبلغ المنحة للطالب الحريدي 26 ألف شيكل! ما يعني أن الطالب الحريدي يزيد عن الطالب العربي بـ 95%!!... حتى بين "الفقراء"، ثمة من يستحق أكثر ويحصل على أكثر!

لكن هذه "الفوارق" والفجوات التي تعاني منها المدارس العربية لا تقتصر على هذا، بل تشمل جميع المركبات والمجالات كما ذكرنا. وأولها، بالطبع، البنى التحتية والمباني والتجهيزات. فقد بيّن بحث أجرته "جمعية سيكوي" (الجمعية لدعم المساواة المدنية) أن ثمة نقصاً خطيراً في الصفوف التعليمية في جهاز التعليم العربي. ففي المدارس الابتدائية العربية، هناك نقص يعادل 33% من حاجة هذه المدارس، وهو ما يضطر إلى تدريس عدد كبير من الطلاب العرب في "صفوف متنقلة" (كرافانات)، في مكتبات ومختبرات جرى تحويلها إلى "صفوف تعليمية"، أو إلى حشر أعداد كبيرة من الطلاب العرب في "الصفوف التعليمية"، مما يجعلها في وضع غير مناسب وغير محتمل، لا من ناحية إنسانية ـ صحية ولا من ناحية تعليمية.

وبناء على هذا، يصبح التعليم الأكاديمي ـ كمفتاح ومصدر للحصول على فرص عمل جيدة وراقية ـ بعيد المنال بالنسبة لغالبية الشبان العرب، ناهيك عن التمييز بحق العرب في مجال التعيينات، في القطاع الخاص كما في القطاع العام على حد سواء، وخاصة في المناصب والمراكز الهامة.

وهذا كله يعني أن دولة إسرائيل لا تمنح الشاب العربي فرصة متساوية في أية مرحلة من مراحل الحياة.

وبالنظر إلى حقيقة أن الفجوات في مجال التعليم تخلق وتؤثر، لاحقا، على طبيعة وعمق الفجوات الاقتصادية ـ الاجتماعية، فمن الواضح إذن أنه بدون سدّ هذه الفجوات الهائلة في مجال التعليم العربي، لن تستطيع إسرائيل سدّ ـ أو حتى تقليص! ـ الفجوات الاجتماعية العميقة جدا، على ما تحمله من تأثيرات هدامة على المجتمع الإسرائيلي برمته وعلى المواطنين الإسرائيليين بشكل عام، كما بينّها أعلاه.

واقع التمييز واتهام الضحية!

كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قال خلال "المؤتمر الصحافي" الذي عقده في موقع العملية التي نفذها نشأت ملحم، ابن قرية عرعرة في المثلث، في أحد الشوارع المركزية في مدينة تل أبيب: "أنا غير مستعد لتقبل واقع وجود دولتين في إسرائيل ـ دولة قانون لأغلبية المواطنين ودولة أخرى في داخلها لجزء من المواطنين"!

وأضاف نتنياهو: "في الجيوب التي لا يسود فيها القانون ولا يُطبَّق هناك تحريض إسلاموي وأسلحة للبيع الحر، يستخدمونها أحيانا في المناسبات، مثل الأعراس، كما يستخدمونها لتنفيذ جرائم جنائية"!

وخلص نتنياهو إلى القول: "انتهى هذا العصر... لقد وضعتُ خطة، بمبلغ كبير من المال وبموارد كثيرة... ستطبق إسرائيل القانون وستفرض سيادتها ـ في الجليل، في المثلث وفي كل مكان... سنجند المزيد من رجال الشرطة وسندخل إلى جميع القرى والبلدات وسنطلب من الجميع تقديم الولاء للدولة... لا يمكنك القول "أنا إسرائيلي في الحقوق وفلسطيني في الواجبات"!... فمن يرغب في أن يكون إسرائيليا، عليه أن يكون إسرائيليا حتى النهاية، في الحقوق كما في الواجبات"!

سلسلة مقالات أرلوزوروف هذه جاءت على خلفية وفي أعقاب تصريحات نتنياهو هذه، وأرادت أن تتساءل، باختصار: هل المواطنون العرب في إسرائيل هم الذين "ينشئون دولة في داخل دولة"؟؟ هل هم، حقا، الذين يقولون "أنا إسرائيلي في الحقوق وفلسطيني في الواجبات"، أم السلطة هي التي تقول لهم: "أنت إسرائيلي في الواجبات وفلسطيني في الحقوق"؟؟

وبعد ما ساقته في سلسلة مقالاتها من معطيات ومعلومات تؤكد واقع التمييز السلطوي البنيوي ضد المواطنين العرب، منذ قيام دولة إسرائيل وحتى اليوم، تؤكد ميراف أرلوزوروف أنه "إذا كان المواطنون العرب في إسرائيل يعانون من بنى تحتية مهلهلة، في مجالات عديدة ومنها المواصلات على وجه الخصوص، يفتقرون إلى الزراعة الجدية (بعدما تمت مصادرة الجزء الأكبر من أراضيهم، من جهة، ومحاصرة من تبقى من بينهم يمتلك أراضي زراعية ويفلحها والتضييق عليه بمياه الري وبالضرائب وبفرص تسويق منتجاته، من جهة أخرى)، يفتقرون إلى المناطق الصناعية الجدية في نطاق قراهم وبلداتهم، فيبدو أنه من الصعب جدا إلقاء اللوم على المجتمع العربي وتحميله (بوصفه بأنه "مجتمع محافظ"!) المسؤولية عن واقع أن 23% فقط من النساء العربيات يخرجن إلى العمل خارج بيوتهن ويشاركن في قوة العمل"!!

وتضيف أن هذا الادعاء الذي يُفهم منه، عادة، أن "الرجال العرب الشوفينيين لا يسمحون لنسائهم بالخروج من القرية للعمل"، يبدو إشكاليا جدا، وخاصة عند فحص أحد المعيقات الأكثر أهمية أمام خروج النساء إلى العمل ومشاركتهن في قوة العمل، وهو: الحضانات النهارية. فالمعطيات الرسمية تدل على أن 1% فقط من الأطفال العرب حتى سن 3 سنوات مؤطرون في ترتيبات حضانية نهارية، مقابل 7% من الأطفال اليهود. وإذا ما أضيف إليهم الأطفال المؤطرون في ترتيبات رسمية أخرى، نجد أن 5ر4% فقط من الأطفال العرب مؤطرون في ترتيب معين أيا كان، مقابل 9% من الأطفال اليهود.

ورغم هذا الإجحاف الواقع على الأطفال العرب وأمهاتهم، وبالإضافة إليه، تخصص الدولة للحضانات النهارية في الوسط العربي ما نسبته 20% من الميزانية (المرصودة لهذه الحضانات في البلاد)، أي بما يعادل نسبة المواطنين العرب من مجمل سكان الدولة، وسط تجاهل حقيقة مركزية حاسمة هي أن نسبة الأطفال العرب أعلى من نسبة الأطفال اليهود! وهذا، فضلا عن تجاهل نتائج التمييز المتواصل منذ عقود وما خلف من فجوات، بالطبع.

غير أن الأمرّ والأدهى هنا هو أن السلطات المحلية العربية، في غالبيتها الساحقة، لا تستطيع الاستفادة من نسبة الـ 20% المذكورة هذه، وذلك جراء مشاكل إدارية مختلفة، نقص حاد في القوى العاملة المؤهلة وفي البنى التحتية والمباني الملائمة، فضلا عن النقص الحاد في الأراضي وفي الموارد اللازمة لتخطيط وبناء مثل هذه الحضانات.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات