يأتي الشهر العبري المسمى "تشري" من كل عام خلال شهري أيلول وتشرين الأول الميلاديين، وتحل خلال هذا الشهر ثلاثة أعياد اليهودية هي: رأس السنة العبرية، ويوم الغفران، وعيد العرش. خلال هذه الأعياد، يُفرض إغلاق كامل على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. والإغلاق، أو ما يسمى بالعبرية "سيغر"، هو إجراء عسكري يستند إلى مسوغات "قانونية" و"إدارية" و"إجرائية" تفرضه البنية العسكرية للاحتلال في حالات عدة، أهمها: 1) الأعياد اليهودية؛ 2) تصاعد أعمال المقاومة وتحولها إلى مقاومة شعبية مسلحة كما حدث في الانتفاضة الثانية؛ 3) في ظل الكوارث الطبيعية مثل تفشي وباء كورونا. وربما هذه هي الفرصة المناسبة لشرح مفهوم "الإغلاق"، والبنية التحتية والقانونية والبيروقراطية التي يستند إليها.
تستند المقالة الحالية في أجزاء منها إلى بحث ميداني موسع، ومقابلات مكثفة، تنظر إلى نظام الإغلاقات والتحكم بحركة الفلسطينيين باعتبارها نظام ضبط استعماري.[1]
في القاموس العسكري الإسرائيلي، يتم استخدام ثلاثة مصطلحات تتعلق بالإغلاقات. الأول، الإغلاق الشامل (بالعبرية "سيغر") ويعنى إغلاق كل المنافذ بين الضفة الغربية وإسرائيل. الثاني، عزل المدن والبلدات الفلسطينية (بالعبرية "كيتر"/ طوق) ويعني منع الحركة بين المدن والبلدات الفلسطينية داخل الضفة الغربية، أو على الأقل عزل مدينة أو بلدة أو قرية وحيدة ومنع الدخول إليها والخروج منها حتى إشعار آخر. والثالث، هو منع التجوال (بالعبرية "عوتسر")، ويعني منع الحركة داخل مدينة أو بلدة أو قرية بحيث يتوجب على كل السكان التزام بيوتهم. في الحالات الثلاث، فإن الإجراء المتخذ لا يتعلق بالمكان أو الجغرافيا وحسب (مثلا فصل مدينة عن أخرى، أو الضفة عن إسرائيل)، وإنما يتعلق بمفهوم إدارة السكان (population management) بحيث تستخدم إسرائيل حركة السكان كإحدى أهم الأدوات المفروضة إداريا في تاريخ المستعمرات بهدف إدارة حياتهم والتحكم الحثيث والمباشر في نمط معيشتهم، نفسيتهم العامة، مصادر دخلهم، علاقاتهم الاجتماعية.
إسرائيل ليست استثناء. ولا هي قامت بتطوير أنماط الإغلاقات، أو التحكم بحركة السكان من الصفر، بل استندت إلى إرث استعماري طويل لا يعود فقط إلى فترة الانتداب البريطاني وأنظمة الطوارئ التي فرضها، وإنما نجده (أي الإرث الاستعماري) بارزا في تجارب استعمارية أخرى مثل جنوب أفريقيا (نظام البانتوستانات)، وفي أستراليا (المحميات الطبيعية المعزولة)، وغيرها من التجارب الاستعمارية.
بالعودة إلى مفهوم الـ "سيغر" في الضفة الغربية، فإنه ينطوي على ثلاثة مركبات لا بد من تفصيلها:
- بنية قانونية- إدارية تُفرض بموجب أمر عسكري. في العام 1972، صدر أول أمر يتعلق بحركة الفلسطينيين عندما أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية ما بات يسمى بـ"تصريح المرور العام". بموجب هذا التصريح، تم إلغاء الخط الأخضر (وبطبيعة الحال، لم يكن هناك جدار فصل في حينها)، وبات متاحا لكل الفلسطينيين العبور بين الضفة الغربية وإسرائيل، شريطة أن لا يغيروا مكان سكنهم، أو المبيت داخل إسرائيل. وعليه، كان الحاكم العسكري يقوم بتعليق هذا الأمر العسكري في الفترة بين الساعة 1:00-5:00 فجرا لكي يمنع الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة من المبيت داخل إسرائيل. ثمة اعتبارات عديدة تفسر عدم رغبة إسرائيل في مبيت الفلسطينيين داخلها، أهمها إمكانية حصول اختلاط سكاني (قد يشمل زواجاً بين فلسطينيين وإسرائيليين، استفادة الفلسطينيين من قوانين وزارة الداخلية الإسرائيلية والمطالبة بلم شمل إلى داخل إسرائيل، لم شمل عائلات فرقتها حرب 1948... إلخ). في هذه الفترة، أي السبعينيات والثمانينيات، وصل عدد الفلسطينيين العاملين داخل إسرائيل إلى حوالي ثلث القوى العاملة الفلسطينية.
في كانون الثاني 1991، وفي أثناء الحرب العراقية، قامت إسرائيل بإلغاء "تصريح المرور العام" الذي أصدرته العام 1972. ومنذ ذلك الوقت، بات يتوجب على كل فلسطيني مقيم في الأرض المحتلة أن يصدر "تصريحاً فردياً" (وهو التصريح الذي يحتاجه الفلسطيني اليوم للدخول إلى إسرائيل). لكن إسرائيل بدأت بتنفيذ هذا القانون الجديد فقط في آذار 1993، عندما تمت ترجمة القانون في الميدان على أنه إغلاق شامل. وحتى اليوم، فإن الأمر العسكري الذي يفرض إغلاقا شاملا على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ما يزال نافذا، بحيث أن تصريح المرور الذي يحمله أي فلسطيني يعني أنه "مستثنى" من الإغلاق الشامل. وعليه، فإن اعلان إسرائيل فرض إغلاق شامل على الضفة الغربية في أثناء الأعياد، هو إعلان مغلوط، إذ إن الإغلاق الشامل مفروض على الضفة الغربية منذ العام 1991 (بغض النظر عن قدرة إسرائيل على تنفيذه، وهي قدرة تعاظمت فقط بعد بناء الجدار). إن ما تقصده إسرائيل بـ "فرض إغلاق شامل" هو أن التصاريح التي تستثني حاملها من الإغلاق الشامل هي التي ستتوقف خلال فترة الأعياد.
- التصاريح والهويات: لا يعمل نظام الإغلاق باعتباره أداة من أدوات التحكم في الفلسطينيين وإخضاعهم، إلا من خلال رفده بنظام تصاريح (permit regime). تعتبر إسرائيل من أكثر الأنظمة الاستعمارية تعقيدا في نظام التصاريح، ويمكن مقارنتها بنظام تصاريح العبور من بانتوستانات جنوب أفريقيا، أو نظام تصاريح العبور من الصين إلى مستعمرة هونغ كونغ، أو نظام تصاريح العبور من وإلى كشمير بين الهند وباكستان، وغيرها. في أثناء فترة "تصريح المرور العام" (1972-1991) أصدرت إسرائيل لكل سكان الأرض المحتلة بطاقات هوية من اللون البرتقالي. واللون البرتقالي كان يعني، بشكل تلقائي، أن حامل الهوية يملك "تصريح مرور عام" إلى إسرائيل. في تموز 1988، بدأت الإدارة المدنية الإسرائيلية بإصدار هوية ذات لون أخضر، وخصصتها لمعظم الأسرى المحررين، وكان اللون الأخضر يعني تلقائيا أن حاملها ممنوع من العبور من الأرض المحتلة إلى إسرائيل. وعندما ألغي "تصريح المرور العام" (العام 1991) وتم البدء بتنفيذ الإغلاق الشامل (العام 1993)، قامت إسرائيل تدريجيا بتحويل هويات كل سكان الأرض المحتلة إلى هويات خضراء. ترافق الأمر، كما هو معلوم، مع قدوم السلطة الفلسطينية، بيد أن تصنيف الهويات وألوانها هو صناعة استعمارية بيروقراطية بحيث أن كل سكان الأرض المحتلة، أي حاملي الهويات الخضراء، ممنوعون من الدخول إلى إسرائيل بموجب قرار الإغلاق الشامل الصادر العام 1991، إلا من حصل على تصريح مرور.
وفي الإدارة المدنية، باعتبارها الجهاز الإداري والبيروقراطي للمنظومة الاستعمارية الإسرائيلية الأوسع، يستخدم التصريح كإحدى الأدوات الأكثر نجاحا في "ترويض" السكان والتحكم في سلوكهم السياسي والاجتماعي. ومفهوم التصريح، باعتباره أداة إخضاع، يستند إلى مبدأين:
المبدأ الأول: مبدأ فرق تسد. هذا يعني أن إسرائيل لا تقسم الفلسطينيين إلى ممنوعين من العبور (لا يملكون تصريحا) ومسموحين بالعبور (لديهم تصريح)، وإنما تقوم بخلق تراتبيات هرمية وترفق التصاريح بنظام امتيازات يختلف من تصريح إلى آخر. لدى الإدارة المدنية الحالية، هناك نحو 100 نوع من التصاريح، تشمل تصاريح اقتصادية (تجارة، مساعدة تجارة، تدريب على مهنة، عمال، مقاولون، BMC، وغيرها)، وتصاريح دينية (للصلاة، كنائس)، تصاريح دراسة، تصاريح قانونية (لحضور محكمة، أو زيارة سجن)، تصاريح صحية، تصاريح مسؤولين فلسطينيين (وتشمل ثلاثة أصناف تتفاضل عن بعضها من حيث الامتيازات)، تصاريح احتياجات خاصة، ولم شمل ومطار وغيرها.[2]
المبدأ الثاني: هو وجود معايير معقدة (وفي معظم الحالات غير واضحة أو مكتوبة) تتعلق بكيفية الحصول على التصريح. المعايير قد تشمل العمر، الحالة الاجتماعية، البروفايل الأمني الذي يتحكم فيه جهاز المخابرات العامة الإسرائيلي، منظومة العقاب الجماعي (بمعنى حرمان أفراد القرية كلها، أو أبناء العائلة كلهم). إن عدم التيقن، والضبابية، التي تجعل من الفلسطيني يعتقد أنه دائما مهدد بعدم قدرته على الحصول على تصريح، تعمل بمثابة "شرطي ذاتي" على الفلسطيني الذي يبدأ رويدا رويدا بتعلم منطق تفكير المنظومة الاستعمارية ويستبطنه، وبالتالي يحاول أن يفي بالشروط التي تخوله الحصول على تصريح. ومن هنا تعتبر التصاريح أداة ضبط استعمارية مهمة جدا. لكن، في المقابل، هذا أتاح ظهور سوق سوداء تتشارك في طيف واسع من المتنفذين والذين باتوا، بشكل غير مباشر، جزءاً أساسياً من منظومة الضبط الاستعماري، وهم قادرون على إصدار تصاريح مختلفة بشكل رسمي بحيث يوفرون على الفلسطينيين (الذين يدفعون أكثر) عناء التورط مع مكاتب الإدارة المدنية البيروقراطية المعقدة.[3] في هذا السياق، بعض التصاريح لا يتم إصدارها سوى من خلال التعامل المباشر مع الإدارة المدنية، والبعض الآخر يتم إصدارها فقط من خلال مكاتب التنسيق والارتباط الفلسطينية. وبعض التصاريح تحتاج إلى وكيل، أو سمسار، أو "خبير" في إصدارها لقاء عمولة.
- نظام التحكم المكاني والذي يشمل الجدار، المعابر، نقاط التفتيش، والشوارع الالتفافية: هذه البنية التحتية التي تطورت بشكل واضح خلال انتفاضة الأقصى، هي ما يتيح لإسرائيل أن تفرض نظام التحكم بحركة الفلسطينيين بشكل محكم. ثمة بنية تحتية لفرض الـ "كيتر" (الطوق)، وأهمها البوابات الصفراء التي تستطيع أن تغلق المنافذ إلى أي قرية، أو الطرق المسماة "عنق زجاجة" وهي عبارة عن الطريق الوحيدة التي تربط منطقة كاملة بباقي الضفة الغربية، مثل طريق وادي النار (تربط بين جنوب الضفة وباقي الضفة)، أو طريق بير نبالا (التي تربط قرى شمال غربي القدس بباقي الضفة الغربية).كما أن هناك بنية تحتية خاصة بفرض نظام الـ "سيغر" (أي إلغاء التصاريح الفردية ومنع الدخول إلى إسرائيل)، وهي تشمل المعابر، الجدار، ومنظومة رقابة إلكترونية، بالإضافة إلى فتحات متروكة في الجدار. والفتحات ليست مجرد قصور في إحكام الجدار، وليست مجرد ثغرات يمكن سدها وإلغاؤها (إن كان هذا صحيحاً)، وإنما يجب النظر اليها أيضا باعتبارها جزءاً من نظام التحكم الإسرائيلي بحيث أن الجيش الإسرائيلي يعلم بشأنها، وتعرف على المتحكمين بها (بعض الفتحات يتم السيطرة عليها من قبل عصابات فلسطينية مسلحة تأخذ أتاوات من كل من يمر عبرها)، وعلى من يستخدمها (عمال، أو مقاومون.. إلخ). وإن قيام إسرائيل "بغض البصر" عن هذه الفتحات، أو "التشديد" على إغلاقها، يحتاج بحد ذاته إلى بحث لمعرفة منطق عمل نظام التحكم الإسرائيلي بحيث يمكن القول إن "التنفيسات" هي جزء من "التشديدات" وتعمل بالتناغم معها تارة، وبالتناقض معها تارة أخرى.
لا يمكن فهم "الإغلاق" بمعزل عن هذه المستويات الثلاثة، التي تشمل البنية القانونية (وبالتحديد الأمر العسكري للعام 1991)، ونظام التصاريح (وبالتحديد أن كل الفلسطينيين يحملون هويات خضراء باستثناء من حصل على تصريح)، والبنية التحتية (الجدار والمعابر). وجدير بالذكر أن نظام التحكم بحركة الفلسطينيين لم يعد مجرد نظام يستخدمه المستعمِر لضبط حياة المستعمَر، بحيث أن إسرائيل هي النظام الاستعماري الأكثر بروزا في مسألة التحكم المكاني والحركي. بل إن هذا النظام، في الضفة الغربية تحديدا، تحول أيضا إلى سوق تشارك فيه العديد من شركات الهاي تك، شركات مقاولات، وشركات صناعة بوابات وجدران، وأجهزة أمنية واستخباراتية (تقوم باستمرار بتطوير تقنيات إدارية تتعلق بصميم إدارة السكان بهدف تسويقها كمنتجات تم تطويرها من "داخل المختبر نفسه").[4] وعليه، فإن إتاحة الفرصة لمئات الآلاف من الفلسطينيين لدخول إسرائيل (وأحيانا من خلال حافلات كاملة مسيرة من شركات سياحية فلسطينية) خلال صيف 2020، أو إصدار عشرات الآلاف من التصاريح في أثناء أعياد المسلمين والمسيحيين، أو استثناء أعمار معينة من "منع الدخول" في أثناء رمضان، يمكن أن ننظر إليها باعتبارها تقنيات مختلفة تتيح للسوق الرأسمالية- العسكرية الضخمة أن تطوّر من إجراءاتها المتعلقة بإدارة السكان، ودراسة الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية على تكتيكات الإغلاق/ المنع، الضبط/ الرخو، وغيرها.
[1] هذه المقالة جزء من دراسة لنيل درجة الدكتوراه في العلاقات الاقتصادية بين الضفة الغربية وإسرائيل، أنظر/ي إلى الصفحة الأكاديمية للباحث على الرابط التالي: https://huji.academia.edu/WalidHabbas/CurriculumVitae
[2] إنظر/ي إلى قائمة التصاريح، وشروط الحصول عليها، في هذا المنشور الصادر عن الإدارة المدنية والذي تم تحديث بياناته في كانون الثاني 2022: http://www.gisha.org/userfiles/file/LegalDocuments/procedures/general/50.pdf
[3] Walid Habbas (2021) The West Bank-Israel Economic Integration: Palestinian Interaction with the Israeli Border and Permit regimes. In: Tartir A, Dana T, and Seidel T (eds), Political Economy of Palestine: Critical, Interdisciplinary, and Decolonial Perspective. London: Palgrave Macmillan.
[4] للمزيد حول تحوّل الضفة الغربية إلى سوق للرقابة، أنظر/ي موقع Who Profits، والذي يوفر أيضا قائمة ببعض الشركات المتورطة: https://whoprofits.org/involvement/control-of-population/