المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 3106
  • تسفي مزائيل
  • سعيد عياش

تشكل المعاملة الفظة التي تواجهها دولة إسرائيل من جانب المجتمع الدولي إحدى الظواهر السياسية الدولية الأكثر إثارة للانتباه في العصر الحالي.

ولعل اللافت هنا أن إسرائيل، وهي الدولة الديمقراطية الوحيدة الواقعة في قلب عالم عربي وإسلامي غارق في التخلف الاجتماعي والاقتصادي، ويعبر عن نفسه بوسائل العنف، داخليا وخارجيا، هي التي تتعرض بالذات لحملات الشجب والإدانة المتواصلة من جانب المجتمع الدولي، ولا سيما من جانب الاتحاد الأوروبي، الذي نَصَّب نفسه مسؤولا وراعيا مؤتمنا على حقوق الإنسان في العالم أجمع.

 

والسؤال: كيف يمكن لنا أن نفهم أوروبا التي تتجاهل مظاهر العنف والدمار والتخلف التي خلفتها الفتوحات الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟! كيف يمكن فهم أوروبا التي تغازل العالم العربي، متناسية التاريخ البشع لمحاولات السيطرة الإسلامية عليها، ومتنكرة لما يشكله الإسلام حاليا من تهديد لمستقبلها عن طريق هجرة المسلمين والإرهاب الإسلامي إلى بقاعها وبلدانها؟!

إن إسرائيل، التي تكافح في مواجهة عدو غير مستعد للاعتراف أو القبول بوجودها، وتحافظ بمنتهى الحرص والحزم على نظامها الديمقراطي، وعلى حقوق الإنسان لجميع سكانها، ومن ضمنهم حتى ألّد أعدائها الذين يسمون "فلسطينيين"، تتعرض حاليا لحملة شيطنة منهجية تصورها كدولة أبارتهايد، ترتكب أعمال إبادة جماعية، وتتعمد قتل الأطفال وبتر أعضاء (جثث) المخربين، وغير ذلك من شتى أنواع الاتهامات الغريبة والعجيبة.

وعلى ما يبدو فإن هذه الاتهامات، العارية عن الصحة تماما، ولا أساس لها في الواقع، نابعة من المناخ اللاسامي والمعادي لإسرائيل، الذي تَكَون على أرضية من النفاق والجهل والعنصرية وتجاهل الحقائق، خدمة لمصالح سياسية ضيقة. وتقف في أساس هذه الاتهامات دعاية عربية كاذبة ومنهجية على امتداد عشرات السنين، تلقفها اليسار الأوروبي المتطرف، بل وزاد عليها.

لقد وجد هذا اليسار الأوروبي في المنظمات العربية والإسلامية حليفا له في طريقه الثوري لتغيير العالم، متجاهلا جوهر الإسلام القائم على الانصياع التام للشريعة الإلهية، والذي يتنافى تماما مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

هذا الحلف غير المقدس امتد إلى يسار الوسط وتغلغل داخل المؤسسات السياسية والأكاديميا ووسائل الإعلام الأوروبية.

وهكذا فقد تحولت إسرائيل، بكيفية ما، إلى كائن غير شرعي، وبات يمكن في السنوات الأخيرة ملاحظة وجود نقاشات في الأكاديميا ووسائل الإعلام العالمية تتناول شرعية قيام دولة إسرائيل.

ويزعم تحالف الكراهية هذا، والذي يضم عددا غير قليل من اليهود من "مصلحي العالم"، وإسرائيليين من أتباع اليسار المتطرف، أن نضاله ضد إسرائيل ينبع من الاحتلال (!) .

من هو المحتل في المنطقة؟

مما لا ريب فيه أن هناك احتلالا في الشرق الأوسط، غير أن هذا الاحتلال ليس إسرائيليا وإنما هو احتلال عربي – إسلامي مستمر، ويمارس القمع والاضطهاد منذ القرن السابع الميلادي. وقد انبرت إسرائيل لمحاربة هذا الاحتلال وتمكنت من الانتصار عليه والتحرر من نيره بعد 1308 سنوات، لتجدد بذلك استقلالها، ولم ينجح في الانعتاق من هذا الاحتلال العربي - الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العصر الحالي سوى إسرائيل وجنوب السودان.

ثمة في المنطقة شعوب أو أقليات دينية وقومية ما زالت تكافح، أو تنتظر خلاصها من الاحتلال العربي، كالشعب الكردي الذي فُرِض عليه الإسلام بالقوة. مع ذلك فقد حافظ الأكراد، الذين يتراوح تعدادهم ما بين 30 إلى 40 مليون نسمة موزعين بين أربع دول (إيران، سورية، العراق وتركيا) على لغتهم وهويتهم الخاصة، وما انفكوا يكافحون للحصول على الاستقلال، أو على حكم ذاتي موسع على الأقل. كذلك فإن الشعوب الأصلية في شمال أفريقيا المعروفة باسم "البربر"، جرت أسلمتها بالقوة أيضا، غير أنها حافظت رغم مرور الزمن على هويتها ولغاتها، وساهمت بدورها أيضا في تحقيق تطلعات الإسلام. ويصل تعداد شعوب البربر حاليا إلى حوالي 38 مليون نسمة، وهم موزعون بين المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وغيرها من دول شمال أفريقيا، والتي لم تعترف أنظمة الحكم العربية فيها بهوية ولغة البربر الذين ما زالوا يخضعون لتمييز في كل مناحي الحياة. وقد شهدت السنوات الأخيرة صحوة قومية في صفوفهم، وشرعوا في النضال من أجل الحصول على استقلال أو حكم ذاتي.

إن القاسم المشترك بين الشعب الكردي والشعوب البربرية يتمثل في أن الحديث يدور حول شعوب غير عربية، والتي على الرغم من اعتناقها للإسلام ومشاركتها في الفتوحات الإسلامية، لم تحظ بعد بمكانة متساوية مع الشعوب ذات الأصول العربية.

ولعل من الجدير أيضا الإشارة إلى الأقباط في مصر، الذين يعتبرون السكان الأصليين في مصر، والذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية منذ القرن الأول للميلاد، وحافظوا على هويتهم رغم 1400 عام من الاحتلال والقمع العربي -الإسلامي الذي تعرضوا له.

ما الذي يسعى الإسلام إلى تحقيقه؟

خلافا للإمبراطوريات الوثنية مثل الأشورية والبابلية والإغريقية والرومانية، التي خرجت لاحتلال العالم في ذلك الوقت بغية تأكيد وفرض جبروتها وقوتها، فقد خرج الإسلام لاحتلال العالم من أجل هدف واضح وهو فرض دين محمد وحمل "الكفار" على اختلاف أنواعهم على الإيمان بالله، عن طريق الإقناع أو بحد السيف. وفيما انهارت الإمبراطوريات القديمة وانقرضت تماما بمرور الزمن، فقد تمكن نظام الحكم الإسلامي من فرض شرعيته على سكان المناطق المحتلة الذين اضطروا في غالبيتهم للتخلي عن ديانتهم واعتناق الدين الإسلامي، سواء نتيجة الإكراه أو التسليم بالأمر الواقع. كما تغلبت اللغة العربية بمرور الوقت على شتى لغات العالم القديم. وقد سيطر الاحتلال العربي- الإسلامي على ثقافات أكثر تطورا بكثير من ثقافة شبه الجزيرة العربية، وواجه العرب في أعقاب غزوهم للشرق الأوسط، منذ العام 636 ميلادي، مراكز ثقافية مزدهرة ورثت حضارات قديمة. ففي أرض إسرائيل وبلاد الرافدين (العراق وسورية) كانت تعيش مجموعات سكانية "مُوَحِدّة" (تحت احتلال بيزنطي) تشربت الثقافتين اليهودية واليونانية – اللاتينية. وكان يقطن في هذه المناطق يهود لهم تاريخ عريق يمتد إلى 2500 عام، يتحدثون اللغات العبرية واليونانية والآرامية، ومسيحيون لهم تاريخ يمتد إلى 600 عام، ورثوا الثقافة الأشورية والبابلية، ويتحدثون اللغتين الآرامية واليونانية. وقد مثل جميع هؤلاء اليهود وكذلك المسيحيون تراث ثقافة متطورة تعود لآلاف السنين، بالإضافة إلى مؤسسات تعليمية متقدمة.

في منطقتنا لم يبق سوى عدد قليل جدا من الناطقين باللغة الآرامية، ولا يتجاوز عدد هؤلاء بضع مئات من الآلاف الذين يقطنون بشكل رئيس في العراق وسورية، فيما تقيم الغالبية (قرابة مليون نسمة) في الولايات المتحدة. وهناك حوالي 1500 شخص من الناطقين باللغة الآرامية يقيمون في إسرائيل، ويسعى هؤلاء، بمساعدة السلطات الإسرائيلية، إلى إحياء هذه اللغة.

في الوقت الحالي يواصل تنظيم الدولة الإسلامية ("داعش") مهمة إبادة الأقليات، ولا سيما بقايا الأشوريين واليزيديين في شمال العراق، كذلك يقوم تنظيم "داعش" بتدمير ما تبقى من دلائل وآثار مادية، والتي جسدت حجم تلك الثقافات التي قام الإسلام بمحوها، مثل الكنائس والقبور القديمة وأجزاء من مدينة تدمر في سورية.

لقد تحولت الفتوحات الإسلامية بصورة تدريجية في آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وإسبانيا، إلى حيز ديني وثقافي إسلامي كان من المفترض أن يديره خليفة مسلم بموجب نظام خلافة إسلامية في نطاق أمة إسلامية مُوَحَدة، غير أن مثل هذا النظام لم يقم أبدا. وهكذا لم ينجح العرب إذن في إقامة مثل هذا النظام القادرعلى احتواء جميع شعوب المنطقة وتمكينها من التطور والإزدهار وتحقيق المساواة الجندرية، وضمان حقوق الإنسان الأساسية، وبالأساس توفير الإمكانية الطبيعية لهذه الشعوب كي تعيش حياتها بموجب ديانتها وتقاليدها.

تجاهل متعمد للتاريخ

يبدو أن الاحتلال (الفتوحات) العربي الإسلامي ونتائجه لم يخضع للدراسة والبحث في الغرب، ذلك لأن الاستنتاجات ربما تكون غير ملائمة لطرق تفكير الأكاديميا ووسائل الإعلام العالمية في العصر الحديث. فمبادئ التفكير الغربية، تفكير "بعد ما بعد الحداثة"، تستند حاليا على ما يسمى النزاهة السياسية والتعددية الثقافية، فتلك هي المقاييس التي تستخدمها الأكاديميا حاليا، ويستخدمها قسم كبير من وسائل الإعلام العالمية، في مواجهة الإسلام والمشاكل التي يطرحها، ولا سيما هجرة ملايين المسلمين والإرهاب الإسلامي المتصاعد، إلى أوروبا. وتتجاهل طريقة التفكير هذه الواقع التاريخي ومبادئ وتعاليم الدين الإسلامي، وهو تجاهل خطير لن يؤدي سوى إلى إنكفاء الديمقراطية في مواجهة الإسلام، الذي يجلب معه ظواهر التطرف الديني واللاسامية، ويسعى إلى فرض نفسه على العالم بأسره.


ثمة جانب آخر في هذا الموضوع يستدعي الإجابة عليه وهو نظرة الغرب إلى الدين الإسلامي. فالأوروبيون يرون في الإسلام أحد الديانات الثلاث التوحيدية المرتكزة على التناخ. وهم يعتقدون، أو يتظاهرون، بأنهم إذا ما عملوا بطريقة ناعمة على تخفيف حدة العناصر المتطرفة في الإسلام، فإنه سيكون من الممكن التوصل إلى تفاهم وتعايش بسلام مع الإسلام والمسلمين. ويرفض الأوروبيون في هذا السياق رؤية المشكلة على أنها أعمق بكثير، وأن جذورها تمتد إلى الدين الإسلامي ذاته، وأن هناك تناقضات ثيولوجية جذرية بين الإسلام والمسيحية. وترفض أوروبا في المقام الأول الإقرار أو الاعتراف بأن الإسلام يرفض رفضا باتا الأساس النظري للمسيحية، أي الثالوث المقدس. فوحدانية الله في الإسلام قاطعة ومطلقة ولا يجوز الإنحراف عنها بأي شكل من الأشكال. لقد جاء الإسلام في بدايته كدين "تناخي"، فثلث آيات القرآن تقريبا تتطرق إلى اليهود، وكانت وُجْهَة (قبلة) صلاة المسلمين الأوائل في مدينة القدس. غير أن رفض اليهود والمسيحيين في شبه الجزيرة العربية الإعتراف بمحمد كنبي مكمل لموسى ويسوع، أدى إلى إبتعاد محمد عن التناخ، وإلى قيامه أيضا بتغيير وجهة الصلاة وتحويلها إلى مكة. وبذلك فقد انفصل الإسلام عن الحلف بين الله وشعب إسرائيل، وبالتالي عن يسوع نبي المسيحيين، ليغدو ديانة مختلفة، ويمكن القول توفيقية!


من الواضح أن أوروبا تفضل التغاضي عن رؤية الاحتلال العربي- الإسلامي ونتائجه التدميرية في الشرق الأوسط، غير أن إسرائيل اضطرت إلى مواجهته، وقد حاربته وتغلبت عليه. ولقد استطاع "ييشوف يهودي" (مجتمع الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل قيام إسرائيل)، لا يتجاوز تعداده 650 ألف نسمة، هزيمة الجيوش العربية التي غزت هذا البلد بهدف تدمير دولة إسرائيل، وذلك مباشرة فور قيامها في أيار 1948. وقد شكل ذلك هزيمة لم يتقبلها العرب، الذين اعتادوا على رؤية الإسلام يسود في الشرق الأوسط، ويسيطر على اليهود كأقلية لا حول ولا قوة لها، وكمواطنين من الدرجة الثانية يخضعون لحماية الإسلام طالما كانوا يدفعون الجزية ويرضخون لشتى القوانين المذلة الأخرى، وكذلك بشرط ألا ينجحوا طوال حياتهم في الوصول إلى صدام مع مسلم، ذلك لأن المحكمة في أية دولة إسلامية تستند إلى قانون منحاز على الدوام إلى جانب المسلم في مواجهة "الكافر". لقد رفض العالم العربي تقبل الهزيمة، وما زال يرفض الاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، ويمارس إرهابا مستمرا ويوميا ضد مواطنيها. وعلى الرغم من كل أشكال المقاطعة التي فرضتها الدول العربية، فقد نجحت إسرائيل في إقامة دولة مزدهرة غدت ريادية في مجالات الزراعة والصناعة والهايتك.

لقد احتلت إسرائيل "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) كخطوة دفاعية خلال "حرب الأيام الستة" (1967)، وذلك ردا على الهجوم الذي شنه الجيش الأردني بعد تصديق الملك حسين لأكاذيب جمال عبد الناصر بأنه "سينتصر على اليهود" .

إن "حرب الأيام الستة" لم تكن إلا حلقة في سلسلة الحروب والإرهاب العربية التي استهدفت النيل من إسرائيل وهزيمتها وكسر شوكتها وتدميرها. لقد رفض العرب، الذين لم يقترحوا قط خطة أو مبادرة سلمية من جانبهم، جميع مشاريع ومبادرات السلام التي عرضها المجتمع الدولي، ابتداءً من خطة "لجنة بيل" في العام 1937، ومشروع التقسيم في العام 1947، مرورا باتفاقيات أوسلو التي انتهت برفض ياسر عرفات إقامة دولة فلسطينية على أساس خطة الرئيس كلينتون، وانتهاء باقتراحات إيهود أولمرت وجون كيري، وغيرها الكثير من الإقتراحات.

لقد أبرمت إسرائيل من جهتها معاهدتي سلام مع كل من مصر والأردن، وانسحبت من قطاع غزة أيضا، فيما ما زالت تحتفظ بـ"يهودا والسامرة" كوديعة من أجل ضمان أمنها إلى حين التوصل إلى حل سلمي. والسؤال: هل يتعين على إسرائيل قبول الموقف العربي القائل بأن الشرق الأوسط يجب أن يخضع إلى حكم العرب بموجب ما نادى به الخليفة المسلم عمر بن الخطاب، وهو نفس الموقف الذي يتبناه "الإخوان المسلمون" حاليا، والذين يسعون إلى إعادة احتلال المناطق التي طرد المسلمون منها، كإسبانيا وغيرها من دول أوروبا والعالم، وذلك كمرحلة أولى لفرض الإسلام على العالم بأكمله؟. وهذه الرؤية تلقى قبولا ورواجا واسعين في العالم العربي، كما تعمل بموجبها المنظمات الإرهابية الإسلامية وفي طليعتها تنظيما "القاعدة" و"داعش".

اليهود و"أرض إسرائيل"

لم يرضخ الشعب اليهودي قط للاحتلال العربي، ولم يتنازل عن أرض إسرائيل التي كانت دوما جزءا لا يتجزأ من كينونته الثقافية والدينية. إن كل الكتب والأدبيات الدينية والدنيوية للشعب اليهودي مرتبطة بأرض إسرائيل، فما الذي تعنيه كلمة "غيئولا - خلاص" إن لم تكن العودة إلى أرض إسرائيل، وهي التي أبقت أيضا على اليهودي كيهودي. إن التوق للعودة إلى أرض إسرائيل هو الذي حافظ على هوية الشعب اليهودي.

فضلا عن ذلك فإن التواجد اليهودي المتواصل في أرض إسرائيل، لم يتوقف قط حتى بعد الاحتلال العربي في العام 640 للميلاد، والذي ألحق ضررا شديدا بـ "الييشوف اليهودي" الذي اقتصر تعداده وقتئذ على حوالي 500 ألف نسمة. صحيح أن قسما منهم اعتنقوا الإسلام وذبحوا أو هربوا، غير أن تواجدا يهوديا لا بأس به ظل قائما حتى منتصف القرن الثامن عشر في عدد كبير من القرى في منطقة الجليل، ناهيكم عن مدن صفد وطبريا والقدس ويافا. ويمكن العثور على قرائن ودلائل واضحة في هذا الصدد، ومن ضمن ذلك في كتب العائلات، في أرشيف الإمبراطورية العثمانية، الذي أٌعدت أبحاث حوله من قبل باحثين يهود. ووفقا لما احتوته سجلات الضرائب في ذلك الوقت، على سبيل المثال، فقد نجح اليهود في الصمود والبقاء في قرى الجليل حتى منتصف القرن الثامن عشر، غير أنهم لم يتمكنوا من الصمود في نهاية المطاف، في ظل عمليات الملاحقة والمذابح التي تعرضوا لها على أيدي جيرانهم العرب. ويمكن حاليا العثور في القرى العربية في الجليل، على بيوت قديمة ما زالت مثبتة على مداخلها رموز يهودية مختلفة كنجمة داود، بالإضافة إلى بقايا كنس ومقابر يهودية .

ولعل غالبية القرى العربية في الجليل كانت أصلا قرى يهودية، طُرِدَ اليهود منها وحل العرب مكانهم، ومن بين هذه القرى عرابة، سخنين، برعم، المغار، إضافة إلى الناصرة وعكا. في المقابل فإن وسائل الإعلام والأكاديميا تفضل الحديث عن تصريحات حنين الزعبي وأحمد الطيبي وأضرابهما، التي تدعي بأنه لا يوجد لليهود ما يفعلونه هنا، وأن فلسطين هي دولة عربية منذ فجر التاريخ. وكما هو معلوم فإن دولة فلسطين لم تكن قط عربية أو غير عربية، كما أن فلسطين ليست أيضا كلمة عربية. فهي ليست سوى تعريب لكلمة "فلستينا" التي هي التسمية اليونانية- الرومانية لـ"يهودا" أو أرض إسرائيل. كذلك فقد نُسب اسم "فلستينا" على امتداد التاريخ إلى "أرض إسرائيل"، وإلى "دولة اليهود"، ولم ينسب قط إلى أي كيان عربي، ربما نظرا لأن من الصعب تهجئة أو نطق كلمتي "إيرتس يسرائيل - أرض إسرائيل" في اللغات الأوروبية. وعموما فقد اعتاد اللاساميون في أوروبا على مخاطبة اليهود، بعد استنفاد كل مخزون الشتائم والافتراءات بحقهم قائلين لهم: إذهبوا إلى "فلستينا" فهناك مكانكم، مما يشير إلى أنه لم يكن هناك أبدا شعب عربي فلسطيني، فالعرب وصلوا إلى هذا البلد في نطاق الفتوحات والاحتلالات الإسلامية، ولم يقيموا أيضا دولة فيها، كما أن تواجدهم كان هزيلا جدا، وقد ازداد هذا التواجد مع بداية (مشروع) الحركة الصهيونية في منتصف القرن التاسع عشر، والتي شرعت في عملية تطوير حثيثة للدولة، وكانت بالتالي بحاجة إلى أيدٍ عاملة، وفي هذا الإطار وصل عشرات الآف العرب إلى إسرائيل - "فلستينا" في ذلك الوقت - وقدموا من المغرب ومصر وشبه الجزيرة العربية وسورية، سعيا وراء العمل وكسب لقمة العيش.

ذلك هو التاريخ، أو انعدام التاريخ لما يطلق عليه حاليا "الشعب الفلسطيني". هذه الأمور كانت معروفة ومُدركة ولم يعترض عليها أو يختلف معها أحد، إلى أن بدأ السكان العرب بعد "حرب الأيام الستة" بتسمية أنفسهم كشعب فلسطيني له حقوق تاريخية في المكان.

على الرغم من ذلك فإن المجتمع الدولي، وأوروبا بشكل خاص، ما زالا يتجاهلان التاريخ والاحتلال العربي- الإسلامي المدمر للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويصوران إسرائيل على أنها جذر الشر في المنطقة. ما زال المجتمع الدولي وأوروبا يشجبان ويدينان إسرائيل دون توقف، ويسعيان إلى عزلها وإضعافها في مواجهة عالم عربي- إسلامي يسعى للقضاء عليها.

وعلى ما يبدو، طالما لم يعد العالم إلى المصادر التاريخية للنزاع، ولم يقدم الدعم لإسرائيل، فإننا سنشهد المزيد من الحروب التي لا يمكن لأحد أن يتكهن نهاية لها .
____________________________

(*) دبلوماسي إسرائيلي رفيع سابق (شغل منصب سفير إسرائيل لدى مصر ورومانيا والسويد)، وخبير في شؤون ووسائل الإعلام والدعاية العربية، وباحث بارز ومدير للموقع الالكتروني باللغة العربية لـ "المركز المقدسي للشؤون العامة والدولة" وقد أشغل فيما مضى مناصب رفيعة أٌخرى في وزارة الخارجية الإسرائيلية ومن ضمنها نائب مدير عام الوزارة للشؤون الأفريقية.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, ييشوف, تدمر, دولة اليهود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات