المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 6375

تعريف 

ننشر هنا قصة قصيرة من الأدب الإسرائيلي المعاصر بعنوان "ذباب" للكاتب إشكول نيفو
بترجمة عربية أنجزها الكاتب علاء حليحل.
وإشكول نيفو واحد من أبرز الأدباء الشباب في إسرائيل. ولد في العام 1971 في القدس، وهو حفيد ليفي إشكول، رئيس حكومة إسرائيل الثالث. وفي طفولته عاش نيفو في إسرائيل وديترويت، في الولايات المتحدة، وهو خريج قسم علم النفس في الجامعة العبرية- القدس وقسم الكتابة الإبداعيّة في جامعة بن غوريون- بئر السبع. عمل نيفو كمؤلف إعلانات في مكاتب إعلانات كبيرة، وكمحاضر في التفكير الإعلاني في المؤسسات الأكاديمية. ومنذ عام 2014، يقوم بالتدريس وبإدارة مدرسة للتأليف والكتابة- "الورشات المنزلية" في يافا- إلى جانب آخرين.

نشر نيفو ثمانية كتب حتى الآن، وحصدت كتبه العديد من الجوائز، كما ترجمت إلى العديد من اللغات. وهو يقيم في رعنانا (وسط إسرائيل).
ظهرت قصة نيفو هذه في الموقع الإلكتروني "مشروع القصة القصيرة" الذي انطلق باللغة العربية من ضمن عدة لغات أخرى في الآونة الأخيرة (طالع مادة خاصة عن هذا الموقع ضمن خبر منفرد في هذه الصفحة).

[المحرّر]

كان ذلك في الصيف الأخير قبل أن يُعيدوا سيناء إلى مصر. كنتُ في الثالثة عشرة وسافرتُ مع والديّ وأصدقائهم إلى رأس برقة. يبدو لي أنّها كانت آخر رحلة عائليّة كبيرة. بعدها صرتُ أفضّل السفر مع أصدقائي. على أيّ حال، كان لإحدى العائلات التي سافرت معنا بالمجموعة ولدٌ مُصاب بالشلل الدماغيّ. وقد نصبوا خيمتهم أبعد بقليل عن سائر العائلات، ولذلك مضت بضعة أيّام قبل أن ألاحظ وجوده أساساً. وكان ذلك بالصدفة المحضة. دخلت إلى مياه البحر مع أنبوبة تنفس للغطس وسحبني التيّار بعيداً. كان الموج عالياً، والمياه مالحة تسربت إلى أنبوب التنفّس وامتلأ القناع بالبخار. أردت العودة إلى الشاطئ ولكنّني كنت عاجزاً عن ذلك. بعد مرور دقيقة طويلة جداً تبيّنتُ مسارَ خروج رمليّاً كان يتعرّج بين شعب المرجان وسبحتُ فيه حتى وصلتُ إلى الشاطئ. وهناك استرحت قليلاً والتقطتُ أنفاسي مجدّداً. خلعتُ "الزعانف" وبدأت بالسير عائداً صوب خيمتنا، وأنا أقسم وأتوعّد بأن تكون هذه المرة الأخيرة التي سأنزل فيها إلى البحر وَحدي.
وعندها رأيته.

كان يجلس على كرسيّ عجلات بجانب خيمة عائلته.
تردّدتُ بالاقتراب منه، ولكن كان يبدو لي أنّه يبتسم إليّ، فحِدت عن مساري بمحاذاة الشاطئ وتوجّهت إليه. عندما اقتربتُ اتّضح أنّ الابتسامة لم تكن إلّا ارتعاشة غير إراديّة أحدثت تشوهاً في فمه.
ولكنّ الأمر لم يقتصر على هذا فحسب.

عشرات الذبابات هدّت على وجهه. كانت الذبابات على شفتيه، على أنفه، في داخل أنفه، في أذنيْه، على خدّيْه، على رقبته، على ذقنه، على شعره، وعلى نظارته السميكة، الغريبة.
ذبابات كبيرة، وذبابات صغيرة، ذبابات ساكنة، وذبابات كانت تفرك راحتيْها بمتعة.

كيف تركوه هنا على هذا النحو؟ أين والداه؟ تعجّبتُ.
"اِفعلْ شيئاً"، قالت عيناه من وراء النظّارة. "أنقذني من هذا العذاب". ومن فمه خرجت دمدمة، تشبه دمدمة حيوان جريح.
نزعت بلوزتي وبدأت بالتلويح بها بقوّة من حول جسده. طارت بعض الذبابات، وبعضها لم يطِرْ. لوّحت باليد الأخرى أيضاً، وركلتُ الهواء بقدمي قريباً من وجهه. فعلتُ كلّ شيء ما عدا لمسه، قفزتُ، وضربتُ الأرض بقدمي، وحتى أنّني دخلت خيمتهم وأخرجت منها قطعة كرتون صغيرة يُلوّحون بها فوق "المنقل"، وحرّكتها بقوّة عند رقبته، حيث قبعت ثلة عنيدة من الذباب.

في نهاية المطاف، وبعد جهدٍ تواصل لدقائق، نجحتُ بتقليل عدد الذبابات إلى النصف تقريباً. عرفتُ أنّ الذبابات ستعود في اللحظة التي سأترك فيها المكان، وستحتلّ وجهه بسهولة. لكن لم يكن لديّ خيار. رغبت بالعودة إلى الخيمة المركزيّة لطلب المساعدة. لطلب النجدة.

"سأعود حالاً"، قلتُ له. لم يومئ إيجاباً، ولا سلباً. كان يبدو لي أنّني أرى في عينيه شكراً وعرفاناً، ولكنّني لم أكن متأكداً من هذا أيضاً. "سأعود في الحال"، قلت مجدّداً. لكن لم تبدر عن وجهه أيّ حركة، ثانية.

ركضتُ طيلة الطريق إلى الخيمة المركزيّة، وقدماي تشتعلان بِحَرِّ الرّمل الساخن، لكن قبل أن أصل المكان التقيت بوالديْه اللذين كانا عائديْن، على ما يبدو. كانت الأم تحمل في حضنها الابنة الجديدة، الشقراء. وكان الأب يحمل كرسيّيْن مَطويّيْن.
"ابنكما"، قلتُ على عجل، "إنّه هناك… وحدَه… الذباب". اضطربت الكلمات في فمي.

"نحن نعرف"، قال الأب بصوت مُتّزن. "بالتأكيد. لا شيء يمكننا فعله"، تنهّدت الأم. "لا يمكننا الوقوف إلى جانبه طيلة اليوم وطردها".

"نعم، لكن…"، رغبت بالاحتجاج. بالمطالبة. بالتلويح بالزعانف. لكنّني لم أنجح بصياغة احتجاجي بكلمات، بادّعاءات مُرتّبة. كنت فقط في الثالثة عشرة من عمري، وكنت ما أزال أخاف من البالغين قليلاً.

"على أيّ حال، شكراً لاهتمامك"، قال الأب، وعادَ إلى سيره. "بشرتها حسّاسة، سيُضرّ بصحّتها الوقوف في الشمس هكذا"، اعتذرت الأمّ، وأشارت إلى الطفلة الشقراء، وتجاوزتني.

كانت الطفلة الشقراء نائمة. كان وجهها مشرقاً وجميلاً.
في الّليل رويتُ لوالديّ ما حدث. كنت متأكّداً من أنّهما سيُصدَمان. أنّهما سيستخدمان التعابير ذاتها التي يستخدمونها حين كنت أقوم بما يثير غضبهما: "عيب"، "عيب وعار"، أو الأسوأ: "وصمة عار".

لكنّني ذُهلت إذ كانا غير مبالييْن. بل أكثر من ذلك: اتّضح أنّ ما قلته لم يكن جديداً عليهما. فقد أتى هذا الولد إلى الرحلة الجماعيّة إلى بحيرة طبرية في عيد العُرش، وعندها أيضاً جلس على كرسيّ العجلات خارج الخيمة واستوطنه الذباب.
"أتّفق معك أنّ هذا المنظر ليس بالمنظر الجميل"، قال أبي. "ولكن ما الذي يمكنهما فعله؟ الوقوف بجانبه وكشّ الذباب طيلة النهار؟"

"أعتقد أنّهم يقومون بعمل جميل بإحضاره إلى الرحلة"، قالت أمّي. "فقد كان بوسعهم إبقاؤه في مؤسّسة الرعاية. لكنّهم يريدون منه أن يكبر كسائر الأولاد العاديّين".

"لماذا يُخبّئونه إذاً؟"، انفجر من داخلي السؤال بصوت عالٍ، صوت يليق بالبيت لا بسيناء. "وإذا كان ما يفعلونه أمر جميل إلى هذه الدرجة ولا مَدعاة للخجل، فلماذا نصبوا خيمتهم بعيداً عن الجميع؟!"

"لأنّهم كانوا بحاجة إلى وقت أطول لتوضيب أمورهم، ولم تتبقَّ لهم إلّا هذه المنطقة"، قال أبي بحزم.
"نعم"، دعمتْ أمّي ما قاله - وأنا لم أسمعها تؤكّد كلامه منذ فترة طويلة- "الأمر صدفة بحتة، وفي بحيرة طبرية كانوا في موقع مركزيّ- هذه حقيقة".

تسمّرتُ إزاء ادعاءاتهما، التي تجمّعت إلى جانب ادّعاءات والديْه. بدا كلّ شيء منطقيّاً ومُقنعاً. ومع ذلك، سيطر عليّ شعور بأنّ ما يحدث هو غبن وظلم. أطفأ أبي ضوء الشمعة وقالت أمي، في العتمة، إنّ تفكيري بالآخرين لا بنفسي فقط أمر جميل، ويمكنني أحياناً أن أستغلّ هذه القدرة لتنظيف الأوعية البلاستيكيّة بين الفينة والأخرى، كما تطلب منّي؛ فليس منطقياً أن تكون في سيناء لتنهمك اليوم كلّه في الطبخ وتنظيف الصحون التي نخلّفها وراءنا.

في الغداة، وبعد استيقاظنا، اتّضح أنّ عائلات كثيرة أخرى قدمت من البلد، ونصبت خيامها على الشاطئ. "لن تصدّقي يا رينا، لكنّ كلّ شعب إسرائيل جاء لتوديع سيناء"، قال أبي بعد أن أنهى رياضة الصباح خارج الخيمة. "يا ويلي"، قالت أمّي متضايقة عند خروجها، "شعب إسرائيل بأكمله هنا حقّاً".

كرهتُ طريقة كلامهما هذه. وكأنّهما ليسا من شعب إسرائيل أيضاً. لكنّني لم أقل شيئاً. خرجت من الخيمة، استكشفت الشاطئ بنظرة طويلة. لم تعد خيمة الولد صاحب الذباب على الهامش، بل في وسط سلسلة من الخيام التي غزت الخليج الصغير، من التلّة الصغيرة وحتى رمال الشاطئ. جيّد، قلتُ لنفسي، الآن سيرى كلّ شعب إسرائيل هذا الولد، وهو يتعذّب على كرسيّ العجلات، ولا بدّ من أن يقول أحدهم كلمة ما لوالديْه.

في ذلك اليوم، وعندما بدأت الشمس بالانحدار باتّجاه الجبال، دخلتُ مع أنبوب الغطس وسبحتُ مجدّداً إلى النقطة التي يفصل فيها السبيل الرمليّ الضيق بين شعب المرجان الكبيرة. وبعد خروجي من المياه وتجفيف نفسي قليلاً على الشاطئ، بحثت عن خيمتهم. لم يكن الأمر بسيطاً الآن، لأنّها أضحت محاطة بالكثير من الخيام، إلّا أنّني اهتديتُ ببريق ناجم عن ارتطام أشعّة الشمس بحديد كرسيّ العجلات.

كان يجلس هناك، في ذات المربع الصغير من الظلّ. بحثتُ في عينيْه عن إشارة ما تدل على أنّه يعرفني، يذكر شيئاً ما. لم أجد. كانت على وجهه مليون ذبابة. مليار. كلّ شعب إسرائيل مرّ من هنا في الصباح، فكّرتُ، ولم يفعل شيئاً.

بدأتُ بمهمّة الطرد. كنتُ مُصرّاً هذه المرة على طرد كلّ الذبابات عن وجهه، حتى آخر ذبابة. أردتُ رؤيةَ وجهه أملسَ ولو لمرّة واحدة، رغبتُ بأن أحقّق له عدّة ثوانٍ من الرّاحة، من دون حكاك.
استغرق هذا وقتاً طويلاً- وكانت الشمس قد بدأت بتذهيب رؤوس الجبال- ولكنّني نجحتُ في النّهاية. اتّضح أنّ الذبابات الثلاث الأخيرة كانت ميتة، فقشرتها عن خدّه بأصابعي.

ابتعدتُ عنه قليلاً، كي أتأكّد من أنّني أزلتُ الذبابات كلّها، وفيما كنت أتراجع للخلف حطّت على أنفه أربع ذبابات جديدة.
عدُت بغضب وضربتُ الهواء بجانب أنفه بيديْن مفتوحتيْن، إلى أن رضخت الذبابات وطارت.

بعدها وقفت بجانبه لدقائق عديدة كي أتأكّد من عدم تجرّؤ أيّ ذبابة على العودة.

ثمّ بدأ الظلام يحلّ، وأملتُ بأنّ والديّ يشعران بالقلق عليّ، وعندها وعدتُ ولد الذباب بأنّني سأعود في الغداة، في السّاعة ذاتها، وتركته وحده.

كنتُ سأفرح لو أخبرتكم بأنّني عدتُ في الغداة، وفيما بعد الغد. وكنتُ سأفرح لو أخبرتكم بأنّني قرّرت في نهاية المطاف الإعلان عن إضراب مفتوح، وربما حتى إضراب عن الطعام، بجانب كرسيّ العجلات الذي يجلس عليه ولد الذباب، حتى لم يعد مفرّ أمام والديه سوى الوقوف في جانبيْه مع سعفتي نخيل كبيرتيْن والتلويح بهما النهار بطوله.

لكنّ الحقيقة أقوى منّي الآن.
في ذلك المساء، وبجانب إحدى حلقات الجيتارات المنعقدة، التقيت بفتاة في الخامسة عشرة، وكذبت عليها مدعياً بأنّني أنا أيضاً في الخامسة عشرة. صدّقتني، وقالت لي إنّه في أشدود، حيث تسكن، هناك عدّة فتيات قد "فعلنَها حتى النهاية" مع فتيان أكبر سنّاً. كانت تملك عينيْن خضراويْن وبشرة بلون الشوكولاتة، وكانت تتجوّل طيلة الوقت بالمايوه الأبيض ذاته، في النهار وفي الليل، وتحدّثت بصوت عالٍ عن نهديْها، وكم أنّهما كبيران وجميلان. وقعتُ في حبّها على الفور، بالطبع. وقضيت الأيام الآتية في لعب الطاولة بلا نهاية، معها ومع أبناء عمّها، محاولاً باستماتة أن أثير انطباعها.

في أحد العصاري، دخل أبناء عمّها البحر وبقينا أنا وهي على الشاطئ.

كانت الشمس من خلفنا. لم ألتفت لكنّني كنت أراها وهي تُذهّب الآن رؤوس الجبال.

صمتنا. شعرتُ بأنّ مسؤوليّة إنقاذنا من الصّمت تقع عليّ.
"يوجد هنا ولد"، قلت لها. "إنه مصاب بمرض ما، لا أعرف. على أيّ حال، فإنّ والديه يتركانه وحده على كرسيّ عجلات خارج الخيمة، طوال اليوم، وتأتي كلّ ذبابات سيناء لتستوطن على وجهه".

"يا للقرف"، قالت.
"نعم"، وافقتُ. وأضفتُ، وأنا أصفّ الكلمات بسرعة، بأنّني أذهب إليه بين الفينة والأخرى وأطرد الذباب عنه. "هل ترغبين بالمجيء معي إلى هناك؟"

"ماذا؟ الآن؟"، قالت وهي تدفن رجليها المدبوغتيْن بالشمس في الرمل الطريّ، دلالة على أنّها لا تنوي الذهاب إلى أيّ مكان.
"لا"، ذُعرتُ. "ليس الآن. فكّرت بالذهاب لاحقاً، غداً".
"سنرى، ربما"، قالت وقفزت فجأة من مكانها. هل ستأتي إلى البحر؟

لم أرَ ولد الذباب ثانيةً. كنتُ متأكّداً من أنّني سأراه في اليوم الأخير، حين تقوم كلّ مجموعة والديّ بفكّ الخيام والتجمّع للانطلاق في قافلة سيارات السوبارو عائدين إلى إيلات. كنتُ أخطّط للتحدّث مع والديه ولومهما، أو توديعه والاعتذار منه على عدم الإيفاء بوَعدي، لكن عند وصولنا إلى نقطة التجمّع قبل الانطلاق، لم تكن عائلته هناك.

"لقد غادروا بالأمس"، قالت أميّ. "أصيبت ابنتهم الصغيرة بعُسر الهضم".

و"ماذا مع الـ…؟"، هممت بالسؤال، إلّا أنّ أبي غيّر الموضوع. "يا بنيّ، قال، الق نظرة أخيرة على الشاطئ وتذكّر جيّداً ما تراه. ففي غضون سنة سيقيم المصريّون هنا قاعدة عسكريّة. وهذه ستكون نهاية المرجان والأسماك".
"لماذا، أعتقد بالذات أنّهم سيطوّرون السياحة هنا"، قالت أمّي.
فردّ عليها.

ثم ردّت عليه.

وبدآ نقاشاً استمرّ حتى إيلات، وربما في شارع "العرﭬاه" أيضاً، لا أعرف، لأنني غفوتُ بعد "يُطﭬاته".
بعد مضيّ عدّة شهور على ذلك، عادت سيناء إلى المصريّين، وأصبحت أكثر نظافة وهدوءاً.

ثم استولى على منطقة رأس برقة شيخ مصريّ أزرق العينيْن سمج وزوجته الألمانيّة. وقد وافقا في السنوات الأولى على إدخال الإسرائيليّين، لكنّ الانتفاضة اندلعت بعد ذلك وعلّقوا يافطة صغيرة من الكرتون تُعلن أنّ الدخول مسموح لحَمَلة الجوازات الأوروبيّة فقط.

وقد حضرت الفتاة الأشدوديّة الجميلة في تخيّلاتي لأشهر عديدة. لكنّني لم أنجح بتخيّل وجهها، فاستبدلتها بشارون حَزيز (مغنية إسرائيلية).

لم أفكّر بولد الذباب لسنوات، سنوات، لكن فجأة تذكّرته؛ كان ذلك أثناء تأديتي لخدمة الاحتياط العسكريّة في نابلس، التي طلبتُ في أعقابها نقلي إلى وحدة أخرى. كنتُ أجلس وحيداً في القُمرة الصغيرة التي تُطلّ على حاجز عين غوار، أعدّ النجوم، وأستمع إلى أحاديث متقطّعة في اللاسلكيّ، ولا أعرف السبب من وراء ذلك، إلّا أنّ وجه هذا الولد ظهر أمام عينيّ، فتضخّم قلبي دفعةً واحدة ليصير بحجم البطيخة، يا الله، حتى أنّ الذباب كان يغطّي رموشه، حتى داخل منخاريْه، داخل أذنيْه. وأنا، وعدتُه بالمجيء.

كم غريبٌ أنّني لم أحكِ لأحد عن هذا الأمر قط، ألحّت الفكرة في رأسي. لقد كشفتُ أمام الناس عن أمور مُعيبة أكثر - أسرار، وأكاذيب، وانحرافات- لكنّي لم أكشف عن هذا الأمر، لسبب ما. وعدتُ نفسي بإخبار زوجتي عند عودتي إلى البيت، وشعرت بأنّه من اللازم أن أحكي لها، هي على الأقلّ، لكن عند عودتي كان التوأمان مريضيْن ودرجة حرارتهما عالية، وتناوبنا على العناية بهما، وبالكاد تحدّثنا.

وبعدها نسيتُ الأمر. ولا أعرف بتاتاً لماذا تذكّرتُه الآن.
أديتُ خدمة الاحتياط السيئة هذه قبل سنة ونصف السنة، وقد جلست أمام لوحة المفاتيح أصلاً كي أحضّر عارضة تسويقيّة لأوبتيك ليزر، سأعرضها في الصباح الباكر، بمشاركة كلّ الرؤوس الكبيرة في الشركة، وما زال الكثير من العمل بانتظاري، الكثير من الشرائح غير الجاهزة، الكثير من الشرائح التي تحتاج للتدقيق، وهذا النصّ، الذي لن أريَه لأحد بالتأكيد. وسيُدفن بلا شكّ في أحد جوانب القرص الصلب في حاسوبي، وسيواصل طنينه من هناك.

 

المصطلحات المستخدمة:

رعنانا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات