لهذه الأسباب تبدو فرص "اليسار" ضعيفة..

"الحد الادنى من الكراهية للعرب – المطلوب من مرشح ينوي الفوز برئاسة الحكومة في اسرائيل"!

مع أنها بلورت الخطوط العريضة لاستراتيجيتها الاعلامية، التي تقوم في معظها على اعادة اكتشاف صورة عمرام متسناع العسكرية، الا ان الطواقم الاستراتيجية في حزب "العمل" ما تزال تبحث عن المعادلة الصحيحة التي من شأنها ان تحلّق بالحزب وزعيمه الجديد في استطلاعات الرأي العام، التي أكدت الأخيرة منها مجددا عجزه عن اختراق سقف الـ 21-22 نائبا في البرلمان القادم، في احسن الأحوال.
يوميا تتحدث وسائل الاعلام العبرية عن حالة من الاحباط تلازم اركان "العمل" جراء عجزهم عن استثمار فضيحة الرشاوى التي تعصف بـ "الليكود" منذ ثلاثة اسابيع، والتي تسببت بخسارته ستة مقاعد في الاستطلاعات، ذهبت كلها في صالح احزاب اخرى، سوى حزب متسناع!

وفي محاولة لتجاوز هذه الحالة دعا مرشح "العمل" لرئاسة الحكومة الى اجتماع طارىء خصصه لبث العزيمة في نفوس طواقمه القيادية، مؤسسا على ما يقول انه "التفاؤل بأن المعركة لم تحسم بعد، ما يستدعي التشمير عن السواعد واستنهاض الهمم في كل الاحوال".

لكن المعلقين في الشؤون الحزبية استبعدوا ان تتم ترجمة هذه الدعوة الى لغة الفعل لأسباب عدة في مقدمتها الشعبية العالية وغير المسبوقة التي يتمتع بها زعيم "الليكود" ارئيل شارون في اوساط الجمهور الاسرائيلي، المندفع بقوة، منذ عامين على وجه الخصوص، نحو التشدد والغطرسة العسكرية.

في مواجهة شارون تقف شخصية متسناع "المربدّة" والمفتقدة الى "الكاريزما"، فضلا عن طرحه السياسي الإشكالي في استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين دون شروط، واستعداده للانسحاب من 65% من الإراضي الفلسطينية المحتلة واخلاء مستوطنات، وهو طرح دمغ زعيم "العمل" بصورة "الحمامة" وباليسارية المفرطة، برأي غالبية الاسرائيليين، وفي مقدمتهم عدد من اركان "العمل" نفسه!

ويعترف استراتيجيو حملة متسناع الاعلامية بوجود مشكلة جدية لديهم في كيفية التغلب على صورة "الحمامة" هذه في أذهان الاسرائيليين، على رغم تعديل بعض مواقفه باتجاه الوسط، وتكراره القول ان "العمل" يمثل تيار الوسط "وليس اليسار الصهيوني المتمثل بحركة ميرتس". ففي عرف قياديي "العمل"، اخطأ متسناع باعلانه رفضه الدخول في حكومة "وحدة وطنية" مع "الليكود"، وهي حكومة تقول الاستطلاعات ان غالبية الاسرائيليين ينشدونها، مانحا بذلك المزيد من النقاط لخصمه اليميني، الذي ترى فيه غالبية الاسرائيليين ذاتها "شيخ القبيلة" الحريص على وحدة الشعب في اوقات المحن.

وثمة من يعتقد ان متسناع ليس بالشخصية المؤهلة حقا لإدارة حكومة اسرائيلية، كونه وجها جديدا على الساحة الحزبية، تجهله شرائح واسعة من الاسرائيليين وفي مقدمتهم "المهاجرون الجدد" من الاتحاد السوفياتي سابقا، "الذين لا يعرفون حتى ماضيه العسكري وحقيقة قيادته الجيش إبان الانتفاضة الاولى".

ولم يعد التذمر من مراوحة "العمل" في مكانه مقصورا على انصار زعيم الحزب السابق بنيامين بن اليعيزر، الذي لم "يهضم" بعد هزيمته امام متسناع، بل اضحى علنيا تتناقله وسائل الاعلام على ألسن مسؤولين كبار في الحزب، يرون في متسناع "رجلا طيبا، لكنه مرشح سيء". ويضيفون ان الزعيم الجديد لا ينجح في "التحليق" بالحزب لقلة خبرته السياسية والحزبية، وافتقاده الى المميزات المطلوبة للاتصال بالناس. وعلى رغم محاولات انصار متسناع التقليل من شأن هذه الاتهامات، معولين على الدعاية الانتخابية التي تبدأ في السابع من يناير 2003 لاستمالة اصحاب "الاصوات العائمة" التي تصل نسبتها الى 25% من مجوع اصحاب حق الاقتراع، الا ان المراقبين يستبعدون ان تأتي الاسابيع المتبقية بانقلاب في الاستطلاعات لصالح مرشحهم. هذا ما يؤكده ايضا ناحوم برنياع ابرز المعلقين السياسيين في "يديعوت احرونوت"، إذ يقول في مقال له (30/12) ان الشعب في اسرائيل سيصوت "ليكود" على رغم افتضاح امر الفساد الذي تزكم رائحته الانوف.. "لأن هذه القضية تأتي في ادنى سلّم اولويات الجمهور الاسرائيلي، وشارون بالنسبة له هو المرشح الوحيد القادر على الجمع بين البراغماتية والتشدد، وبين التصلّب وبث الأمل بأيام افضل.. أما متسناع الذي يعد بمفاوضات مع (الرئيس الفلسطيني) ياسر عرفات من النقطة التي توقف عندها باراك، فيعيد الى اذهان الاسرائيليين ما ارادوا نسيانه: عرفات، باراك، اوسلو، تنازلات تحت النار، لذلك فإنه لن ينجح في نيل ثقتهم. انهم لن يصوتوا لحزب العمل حتى لو تبين لهم او لم يتبين ان الوزير داني نافيه مثلا يتولى الى جانب منصبه الوزاري رئاسة المحكمة في عالم الاجرام المنظم"!

* متسناع يراوح في مكانه..

هناك اسباب كثيرة لما يصفه المعلق السياسي في "معريف" حيني شليف بـ "مراوحة متسناع في مكانه في استطلاعات الرأي"، ويرى ان ابرزها كامن في حقيقة افتقاده الى "الحد الادنى من الكراهية للعرب – وهو الحد المطلوب من مرشح ينوي الفوز برئاسة الحكومة في اسرائيل"، مضيفا ان الاسرائيليين يبحثون دوما عن مرشح "يتطاير الشرر من عينيه" ويعرف "كيف يدك عظام الفلسطينيين"!

"في انكشاف متسناع الاعلامي – يقول شليف – ترتسم في الذهن صورة انسان حذر ومتزن. وخلافا لارئيل شارون فهو يتقدم ببرنامج واضح لحل النزاع مع الفلسطينيين، وفي ظل الاوضاع المتردية التي تمر بها الدولة كان مفروضا ان يحلّق متسناع منذ فترة ويشكل تهديدا جديا على استمرار حكم الليكود..".

ومن الاسباب الاخرى لجمود متسناع في الاستطلاعات ان الجمهور الاسرائيلي على ما يبدو لم ينته بعد من معاقبة "العمل" على <جرائم اوسلو>، وهو لم يصحُ بعدُ من جرائر ولاية باراك التي احدثت لديه صدمة نفسية، وبخاصة في فصلها الصدامي الدامي مع الفلسطينيين من اواخر عهده. وهناك من يضع اللوم على انعدام "الكاريزما" لدى متسناع، وعجزه عن اجتذاب الجماهير اليه، مع ان "الكاريزما" لم تكن ذات يوم شرطا لا غنى عنها للفوز في الانتخابات، وخير شاهد على ذلك السنوات الطويلة التي قضاها اسحاق شمير في الحكم، وهو المعروف عنه انها لم تكن يوما من صفاته.

لكن ما تميز به شمير – وعمليا كل مرشح فاز في السنوات العشرين الاخيرة – هو "الشر الذي في العيون". وفي ذلك يكتب شليف: "قد يبدي الجمهور الاسرائيلي استعدادا لتقديم تنازلات بعيدة المدى من اجل التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين، لكنه يريد زعيما لا يحتمل الفلسطينيين. وبناء على تجارب الماضي المتراكمة، فإن من لا يملك القدرة على دك عظام العرب لا أمل له في الوصول الى كرسي الرئاسة..".

هكذا كان مع اسحاق رابين عام 1992 – يواصل شليف – الذي ما كان لينتخب لو لم يصدر تعليماته بتكسير عظام الفلسطينيين، وهكذا كان مع نتنياهو ايضا عام 1996 الذي منحه تقززه من الفلسطينيين النسبة المئوية التي نقصته ليفوز في الانتخابات. ايهود باراك ايضا في عام 1999 فاز بفضل شخصيته كمقاتل مكار للعرب التي جعلته يحقق فوزا ساحقا على خصمه نتنياهو. وهذا ما كان مع شارون هام 2001، وهو الذي منذ نعومة اظفاره طور نظرة عداء للعرب عبر المهداف".

هكذا يفسر الافتقاد الى صفة "القاتل" الهزائم المتتالية التي مني بها شمعون بيريس في غالبية المعارك الانتخابية في العقدين الاخيرين، مع انه "فاز" بهذه الصفة في جريمة قانا في الجنوب اللبناني، لكن هذا النوع من "البطولات" لا يقنع الاسرائيليين! فغالبيتهم تقر بمزايا بيريس السياسية والادارية، لكن هذه لم تكن عونا له ابدا في حملته سنة 1996 حين ارتدى البزة العسكرية وقصف لبنان بالاف الاطنان من القنابل في عملية "عناقيد الغضب".

التصقت ببيريس صورة الباحث عن حل ومصالحة وتعايش كالعلقة. بينما الاغلبية في اسرائيل ليست كذلك: "ان اللهاث وراء صفة القاتل محفور عميقا في شخصيتنا. لم يبدأ ذلك مع الانتفاضة، ولا بموجات الارهاب. وما يتضح حتى الان ان ما ينقص متسناع هو حد ادنى من الكراهية للعرب المطلوب من مرشح يريد الفوز. متسناع تعهد امتثالا لنصيحة مستشاريه بـ <سحق> وجه الفلسطينيين. لكن، في هذا المجال على الاقل، شارون اثبت نفسه، وخلافا لمتسناع، فانه يخوض الانتخابات ومعه البراهين"!

الوجه الاخر لهذه الاستنتاجات لا يبعث على الطمأنينة، فهو يحمل تأكيدات جديدة على ان من يعد الاسرائيليين بمزيد من القمع والتصعيد وبفتح "ابواب جهنم" على الفلسطينيين واشاعة الدمار والقتل وارتكاب المجازر، يصبح "زعيما قوميا" لا حاجة له الى "شخصية كاريزماتية" او برنامج سياسي لحل سلمي، حتى يتوصل للجلوس فوق "الكرسي الكبير".