انا وأنتم سنغير العالم: أنصار الحرب اليهود من واشنطن

وثائق وتقارير

 توطئة

 اجتاحت المجتمع الإسرائيلي خلال السنة الفائتة منذ حرب لبنان الثانية موجة منقطعة النظير من الانتقادات لصانعي القرارات في الحكومة والجيش الإسرائيلي. وخلافا لحروب سابقة، فإن الكثير من الحقائق والوقائع الأساسية المتعلقة بهذه الحرب لم تصل إلى علم الجمهور سوى بعد عدة أشهر من انتهاء الحرب، عقب نشر التقرير الجزئي (المرحليّ) للجنة فينوغراد وبرتوكولات مداولاتها. في هذه الأجواء تولد أيضاً الانطباع بأن وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي قادت حملة الانتقادات، كانت نقدية تجاه الحرب حتى في أثنائها!

 

هذا التقرير يسعى إذن إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح: فباستثناء حالات معدودة، خارجة عن المألوف، والتي تمت الإشارة إليها في التقرير، غطت وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية كافتها الحرب ومجرياتها بصورة مجندة بشكل تام تقريبا، حتى عندما عرض مراسلوها مواد إخبارية تضمنت تقريبا كل ما كشفت لجنة فينوغراد النقاب عنه بعد عدة أشهر في تحقيقاتها. فمثل هذه المواد الإخبارية همشت أثناء عملية التحرير.

 

لقد خلقت وسائل الإعلام مناخا عاما من التأييد الكامل والمطلق للحرب وعدالتها، وأقصت بطريقة منهجية علامات الاستفهام التي أثيرت منذ اليوم الأول للحرب. وقد ظهرت من حين إلى آخر، إلى جانب هذا التأييد، انتقادات معينة تجاه جوانب تكتيكية هنا وهناك في إدارة الحرب، واشتدت هذه الانتقادات مع اقتراب نهاية الحرب، وذلك بمقدار ما اتضح أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على تحقيق الانتصار. غير أن الرياح العامة التي هبت من تغطية الحرب، بالمعنى الواسع، الإستراتيجي، كانت رياحا غير نقدية البتة، من بداية الحرب وحتى نهايتها.

 

يستند هذا التقرير إلى تحليل للتغطية الكاملة للحرب في نشرات أخبار القنوات التلفزيونية الثلاث الرئيسة، الأولى والثانية والعاشرة، وفي الصحف اليومية الثلاث الكبرى: "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"هآرتس". ويتناول كما هائلا من التغطية، يزيد عن تسعة آلاف تقرير إخباري.

 

تجدر الإشارة إلى أن وسائل الإعلام لم تغط كلها الحرب تماما بنفس الطريقة. فمحطة تلفزيون القناة الثانية وصحيفة "معاريف" قدمتا لمستهلكيهما في الغالب الأعم من الحالات تغطية وطنية حانقة ومجندة بشكل جلي. "يديعوت أحرونوت" ومحطة "القناة الأولى" تجندتا أيضا، لكنهما فعلتا ذلك بصورة أكثر اعتدالا، في حين قدمت صحيفة "هآرتس" ومحطة "القناة العاشرة" في بعض الأحيان تغطية نقدية ومعمقة أكثر، بل وكانت تقارير القناة العاشرة تبدو للوهلة الأولى نقدية وجريئة بكل معنى الكلمة.

 

يجدر الانتباه إلى هذه الفوارق بين وسائل الإعلام، لكن من المهم أيضا إدراك أن "هآرتس" و"القناة العاشرة" على حد سواء عرضتا، كسائر وسائل الإعلام الأخرى، تغطية مجندة بمعان كثيرة وقاطعة.

 

منذ أن وضعت الحرب أوزارها ولغاية كتابه هذه السطور، وصلت إلينا في مركز "كيشف لحماية الديمقراطية في إسرائيل"، شهادات عديدة، من مصدر أول ومصدر ثان، من إعلاميين إسرائيليين، تحدثوا عن أجواء "التجند" التي سيطرت على غرف وأقسام الأخبار خلال الحرب. معظم هؤلاء الإعلاميين طلبوا عدم الإشارة إلى أسمائهم، لهذا السبب لن نتمكن من نشر جزء من هذه الشهادات التي يمكن لمضمونها أن يشي بمصدرها. لكن الشهادات التي سمعناها كانت متشابهة، وقد تحدثت عن مشاعر الحماس والانجراف العاطفي، كما تحدثت عن الرقابة الذاتية والتعليمات والأوامر الفوقية، وعن الخوف من التعبير عن موقف معارض في مواجهة الصورة العامة المنسجمة والقاطعة التي انعكست يوميا في التغطية ذاتها. الصورة المستشفة عمومًا من الشهادات صورة قاسية: ليس من المفروض أن تتصرف بهذه الطريقة وسائل إعلام في دولة ديمقراطية.

 

في هذا التقرير سننشر شهادتين وصلتا إلينا:

 

(*) الأولى- شهادة مراسلة "يديعوت أحرونوت" ياعيل غفيرتس، التي كانت في عداد المحررين الذين يكتبون المقال الافتتاحي للصحيفة. ففي يوم 9 آب (2006) كتبت غفيرتس مقالا جادا تحت عنوان "مخطوفون في البرج" حذرت فيه من مغبة شن عملية عسكرية برية غير مسؤولة. غداة نشرها هذا المقال قام رئيس تحرير الصحيفة في ذلك الوقت، رافي غينات، بفصلها من العمل.

 

(*) الشهادة الثانية- هي عبارة عن وثيقة داخلية، غير موقعة، أرسلت إلى العاملين في صحيفة "معاريف" بعد الحرب من قبل نائب مدير عام التسويق في الصحيفة. وتصف الوثيقة الطريقة التي أديرت بها الصحيفة في أثناء الحرب. ومما ورد في هذه الوثيقة: أثبتت "معاريف" مجددا على مدار أيام حرب لبنان الثانية، أنها الصحيفة الأكثر وطنية من بين الصحف الثلاث الكبرى. وعلى عكس "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" اللتين تصرفتا في أثناء الحرب كما في سائر أيام العام، ولم تبلورا خطًا تحريريا واضحا، فإن "معاريف" واصلت القيام بما قامت به بهامة مرفوعة أيضا في الأيام العصيبة من حملة "السور الواقي" (عملية جنين واجتياح مدن الضفة الغربية في آذار 2002) وفي فترة "الانفصال" (عن قطاع غزة)، وهو دعم الجيش والوقوف الصلب إلى جانب الدولة ولجم النقد ما دامت الحرب مستمرة... حتى عندما كانت في حوزتنا مواد إشكالية تتعلق بإدارة القتال- مثل الأوضاع في مخازن السلاح والذخيرة، والتعيينات الإشكالية في قيادة الجبهة الشمالية والنقاشات المربكة بين كبار القادة العسكريين والشكاوى التي تمس شغاف القلب لجنود الاحتياط الذين خرجوا إلى المعركة مع تجهيزات جزئية وبالية- فقد ضبطنا أنفسنا، وبمفهوم معين يمكن القول إننا خنا مهمتنا الصحافية، لكننا فعلنا ذلك لأننا أخذنا في الحسبان الاعتبار الوطني، وقررنا أن نكون في حالة وقوع حرب، وبالقطع حرب لا تتقدم كما ينبغي وتعتريها التشويشات، جزءا من الدولة. من الجائز بل ومن الضروري أن نرجئ الخلاف والنقد، ولا داعي لأن نخجل أو أن نعتذر على كوننا مؤيدين للجيش والحكومة ونوفر لهما الغطاء (...)

 

هذا الحديث مدعم بشهادات عاملين في "معاريف" ممن لم يتماثلوا بالذات مع هذا الموقف المؤسسي أو المعبر عن رأي هيئة التحرير.

 

بهذا المعنى يمكن بل ومن الضروري النظر إلى حرب لبنان الثانية كفرصة يجدر استغلالها. اليوم بعد مرور سنة على الحرب وبعد صدور التقرير المرحلي (الجزئي) للجنة فينوغراد وكل ما تلا ذلك من ردود فعل صاخبة، بتنا جميعا نعرف إلى هذا الحد أو ذاك كل ما يجب معرفته عن تلك الحرب. لذا يمكن العودة لاستعراض التغطية للحرب في زمن حقيقي وتفحص أنماط التغطية، بما كان فيها وما غاب عنها، وفهم المغزى العام لهذه الأنماط، تمهيدا للشروع بالتغيير.

 

 

تغطية أهداف الحرب وعملية اتخاذ القرارات!

 

تأييد وسائل الإعلام المطلق لحرب لبنان الثانية، ابتداء من أيامها الأولى وحتى نهايتها، عبر عن نفسه أكثر من أي شيء آخر، في الطريقة التي تحدثت بها وسائل الإعلام لقرائها ومشاهديها عن أهداف الحرب وعن عملية اتخاذ القرارات التي قادت إلى اندلاع هذه الحرب. اليوم وبعد أن نشرت الاستنتاجات المرحلية للجنة فينوغراد، أمسينا جميعا نعرف شيئا أو اثنين عن كل ذلك. من الصعب العثور على مفردات غاية في الوضوح أكثر مما خلصت إليه لجنة فينوغراد حين قالت إن "الطريقة التي خرجت بها إسرائيل إلى الحرب ليست مقبولة، لا يجوز أن تتكرر، وينبغي السعي إلى تصحيحها في أقرب وقت". لكن وسائل الإعلام عادت على مدار أيام الحرب وخلقت لدى مستهلكيها الانطباع بأن الحديث يدور عن عملية مخطط لها بعناية، وأن أهدافها واضحة ومحددة وضرورية من ناحية إسرائيل، وبذلك فقد أوجدت وسائل الإعلام عرضا زائفا من الوضوح والهدفية اللذين لم يكن لهما وجود في الواقع.

 

في الأيام الأولى للحرب لم تظهر تقريبا تغطية تذكر لعملية اتخاذ القرارات. ففي الغالبية الساحقة من الحالات تمت تغطية قرار شن الحرب بصورة رسمية، شبه احتفالية: "نحن عازمون على عمل اللازم". ووصفت جلسة الحكومة كحدث دراماتيكي وتاريخي، وسط التوكيد مرة تلو المرة على "الإجماع" السائد بين الوزراء. ولم يتضح سوى في موضع هامشي جدا من التغطية أن هذا الإجماع لم يكن كاملا، إذ أن رئيس هيئة الأركان العامة، الجنرال دان حالوتس، تهرب من الأسئلة التي وجهت له حول أهداف الحرب، وأن الحكومة صادقت عمليا على شن الحرب دون رؤية أية خطط ملموسة أو حقيقية.

 

لقد صورت وسائل الإعلام أهداف الحرب على أنها أهداف حاسمة وجلية حتى عندما كانت الأهداف تتغير وتتبدل من يوم إلى آخر؛ حتى عندما كانت جهات مختلفة تطرح أهدافا مختلفة وأحيانا في ذات اليوم؛ حتى عندما كان واضحا أن جزءا من الأهداف ليس واقعيا منذ اليوم الأول للحرب، وحتى عندما كانت الأهداف تبدو متناقضة فيما بينها. وقد كان التناقض الأهم هو التناقض بين هدف إعادة (الجنديين) المخطوفين وهدف توجيه ضربة حاسمة لحزب الله. لم يكن عسيرا على الفهم، منذ بداية الحرب، أن عملية عسكرية هدفها "تغيير قواعد اللعبة" في لبنان سوف تحول إعادة "الأسيرين" إلى مهمة مستحيلة تقريبا. ومع ذلك فإن هذا الفهم البسيط لم يطرح أبدا على بساط البحث الجاد والمعمق ولم يحظ بأية عناوين تذكر.

 

تغطية أداء متخذي القرارات... "عمود فقري من الفولاذ"

 

التغطية غير النقدية لعملية اتخاذ القرارات أثناء الحرب عبرت عن نفسها بصورة مثيرة للسخرية تقريبا وذلك من حيث الطريقة التي اختارتها وسائل الإعلام، في بداية الحرب، لعرض شخصيات إيهود أولمرت وعمير بيرتس. فعوضا عن توجيه الأسئلة الصعبة والمطلوبة للاثنين، أعلنت وسائل الإعلام أن "انقلابا" حصل. فهذان الزعيمان المدنيان (السياسيان) تحولا فجأة إلى رجلين عسكريين محترفين صلبين... يتحدثان بلا مواربة، يعملان بثقة... يمسكان بزمام الأمور كما يجب، ويتيحان للجيش الإسرائيلي العمل بقبضة فولاذية ضد حزب الله.

 

هذه الصورة الوهمية صمدت إلى أن أخذت الحرب في لبنان تنحو إلى مزيد من التعقيد والانزلاق. عندئذ بدأت تتعالى أكثر فأكثر أصوات من داخل المؤسسة العسكرية تزعم أن المستوى السياسي (الحكومي) يمنع الجيش الإسرائيلي من العمل كما يرغب، وأنه لا يمكنه من تحقيق الانتصار؟! هذه الأصوات سيطرت على العناوين الرئيسة في جميع وسائل الإعلام العبرية.

 

على امتداد أيام الحرب، دحرت إلى هامش التغطية سائر التقارير والأخبار المتعلقة بإفلاس وعجز المستوى السياسي أمام رجالات الجيش، وبالطريقة البائسة والفضائحية التي جرت فيها علاقات العمل بين المستويين العسكري والسياسي، وذلك على الرغم من أن الحديث يتناول مواد إخبارية شديدة الأهمية، لم يجر إبرازها بشكل ملموس سوى في محطة القناة العاشرة وإلى حد ما أيضا في صحيفة "هآرتس".

 

كذلك لم تظهر أية أخبار أو تقارير عن الخلافات داخل المؤسسة العسكرية خلال الحرب، سوى في حالات نادرة، وقد تم إبراز مثل هذه التقارير بصورة دائمة تقريبا عندما كانت الجهات المنتقدة تطالب باستخدام المزيد من القوة. هذا الموضوع سيطر على العناوين في يومين أو ثلاثة فقط عندما قرر رئيس هيئة الأركان تعيين الجنرال موشيه كابلينسكي ممثلا له في قيادة المنطقة الشمالية، والذي عنى عمليا إقصاء الجنرال أودي آدم عن منصبه كقائد للمنطقة، لكن حتى في هذه الحالة تجنبت التقارير في الغالبية المطلقة من الحالات الخوض في تقصي طريقة إدارة الحرب وركزت عوضا عن ذلك على العلاقات الشخصية بين الجنرال آدم ورئيس هيئة الأركان العامة.

 

هاجس الهزيمة: "بدأ العد التنازلي للمشرع الصهيوني برمته"

 

مع استطالة الحرب، وبشكل خاص عند نهايتها، استبد بوسائل الإعلام شعور قاس من خيبة الأمل. وقد جرت تغطية أحداث وتطورات الحرب العصيبة وما تخللها من معارك ضارية أسفرت عن سقوط عشرات القتلى في صفوف الجنود الإسرائيليين، وإخفاقات وتقصيرات مريعة، بصورة لم تحاول إخفاء حقيقة أن الجيش الإسرائيلي يواجه "صعوبة" في إدارة دفة الحرب، وبالأساس يعجز عن تحقيق الانتصار. وقد استتبع طريقة التغطية هذه ظهور إدعاءات وانتقادات غير قليلة إزاء وسائل الإعلام، كما لو كانت تغطي الحرب بطريقة نقدية أكثر من اللازم!.

 

بيد أنه يجب تفحص هذه التغطية عن قرب أكثر. فالانتقادات التي وجهتها وسائل الإعلام ضد الجيش الإسرائيلي نبعت دائما وعلى الإطلاق من تأييد صريح لا لبس فيه للحرب ذاتها، حيث طالبت هذه الانتقادات بعمل أكثر حزما ونجاعة، وأحيانا دعت إلى أعمال انتقامية وتوجيه ضربات مدمرة أكثر في لبنان، وبالأساس تحقيق مزيد من النتائج و"الانتصارات" في ميدان القتال. هذه الانتقادات حملت في المحصلة الرسالة التالية: الحرب عادلة وصحيحة، لكن متخذي القرارات (أي العسكريين والسياسيين في إسرائيل) لا يديرونها كما ينبغي، ولذلك فإن إسرائيل تخسر هذه الحرب. ولم تقل أي من هذه الانتقادات إن ثمة شيئًا ما غير سليم في هذه الحرب بحد ذاتها.

 

عندما يئست وسائل الإعلام من صانعي القرارات، رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة، اتجهت نحو الالتصاق بالجنود في الميدان، ممن وجهوا انتقادات قاسية تجاه المستويات العليا وتحدثوا عن تقصيرات لا تتيح لهم (للجنود) قهر العدو. وعادت وسائل الإعلام لتطالب باسم هؤلاء الجنود: "دعوهم ينتصرون..". هذه التقارير عن الإحباط الذي يعتري الجنود والضباط في ميدان المعركة أضيفت إلى مئات وآلاف التقارير التي تحدثت عن بطولات أولئك الجنود والضباط أنفسهم، وعن إخلاصهم وتفانيهم. كل هذه التقارير مجتمعة خلقت شعورا من التجند التام لصالح هذه الحرب. الشعور العام الذي ولدته هذه التغطية لم يكن نقديا وإنما شعور انهزامي، أخذ يشتد في ضوء الطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الجانب الآخر، أي منظمة "حزب الله" وزعيمها حسن نصر الله. وكما وصفت عرفات و"بن لادن" قبله، فقد وصفت نصر الله كشخصية من عالم الأساطير، شخصية "شيطانية" واسعة "الدهاء والمكر" قادر على "كيل الضربات لنا مرة تلو أخرى" و"دون أن يصاب بمكروه".

 

وقد ولد كل ذلك في نهابة الأمر شعورا هستيريا تقريبا بأن هذا الحرب هي "حرب وجود"، حرب "نكون أو لا نكون". ولذلك فقد كان لإخفاقات الجيش الإسرائيلي معنى واحد ووحيد هو أن "إسرائيل فقدت قدرتها على الردع"، ولذا لا يجوز إيقاف الحرب "قبل تحقيق الانتصار". غني عن القول إنه لم يكن ثمة حيز، وسط هذه الصورة "القيامية"، لتغطية نقدية حقيقية، من النوع الذي يسعى إلى تحري مشروعية وضرورة الحرب من النواحي العملية والسياسية والأخلاقية.

 

 

الجبهة الداخلية: اليهود "لم ينهاروا" والعرب "يثقون بنصر الله"

 

اليوم وبعد أن نشرت تحقيقات مختلفة حول الموضوع، بتنا نعرف أن الدولة فشلت في معالجة شؤون وحماية سكان شمال إسرائيل أثناء الحرب. في ظل هذا الوضع الذي لم يكن خافيا على أحد، كان من المؤمل أن تقوم وسائل الإعلام بتفحص وطرح الأسئلة ذات الصلة في الوقت المناسب. هل يتوفر نظام حماية ملائم؟ هل الملاجئ صالحة للاستخدام؟ ما الذي تم فعليا بغية تأمين الحماية اللازمة للمواطنين الذين لم يبارحوا بلداتهم وبيوتهم في الشمال؟ هل أعطيت توجيهات للمواطنين بشأن كيفية التصرف في هذه الأوضاع الطارئة؟ هل الدولة مستعدة لإخلاء مواطنين مدنيين إذا اقتضت الضرورة؟ هل أخذت هذه المعطيات بعين الاعتبار حين اتخذ قرار شن الحرب؟!

 

لكن وسائل الإعلام لم تغط بهذه الطريقة "قصة" الجبهة الداخلية (العمق الإسرائيلي) خلال الحرب، بل فضلت عرض قصة مختلفة "مجندة" أمام قرائها ومشاهديها. فالمعاناة المدنية في الشمال جندت لصالح دعم الحرب، ولهذا السبب سيقت الرواية على حلقتين: الأولى تحدثت عن "مواطنين يهودا" يوجهون أثناء "روتينهم اليومي" رسالة واضحة للعدو، والحكومة والجيش الإسرائيليين: "لن ينجحوا في كسر عزيمتنا، نحن أقوياء، ونشد على أيدي الحكومة والجيش الإسرائيلي في كل قرار يتخذونه". أما الحلقة الثانية فتحدثت عن "مواطنين عربا". وقد تناولت هذه الحلقة بصورة حصرية تقريبا مسألة "الولاء": هل أنتم- أي العرب في إسرائيل- معنا أم ضدنا؟!

 

في ظل هذا الوضع لم يبق تقريبا أي متسع في نطاق التغطية للتحدث عن أوضاع المواطنين العرب في الشمال بصورة فعلية (خلال الحرب). في ضوء ذلك فقد همشت التغطية الحقيقة الحاسمة وهي أن الدولة تخلت عمليا عن سكان شمالها، ولم تمد لهم يد العون والمساعدة، كما لم تعبأ بتوفير ملاجئ ملائمة لهم ولم تقم بإعداد خطة لإخلائهم. وفي هذا السياق يمكن القول إن صحيفة "هآرتس" ومحطة "القناة العاشرة" قامتا بجهد لافت أكثر من باقي وسائل الإعلام. لكن تقارير من هذا النوع بدت لديهما أيضا مهمشة في بحر التقارير المجندة.

 

تغطية الدمار في لبنان: "كما لو أن هذا البلد تعرّض إلى هزّة أرضية"!

 

تكبد السكان المدنيون في جنوب لبنان وبيروت خسائر جسيمة للغاية، أكبر وأقسى بكثير من التي تعرض لها المواطنون في إسرائيل. وبحسب تقارير مختلفة فقد قتل في غارات سلاح الجو الإسرائيلي على لبنان أكثر من 1000 مدني (ثلثهم تقريبا من الأطفال) وجرح ما يزيد عن أربعة آلاف آخرين وشرد نحو مليون نسمة من بيوتهم في جنوب لبنان. وغني عن القول إن الغالبية العظمى من قتلى وجرحى الحرب في لبنان لم تكن لهم أية صلة بحزب الله. تغطية هذه الخسائر الجسيمة في لبنان تكشف إذن نمطا مثيرا: قبل قصف سلاح الجو لقرية "قانا" في 30 تموز (2006) والذي أودى بحياة عشرات اللبنانيين الأبرياء، عملت وسائل الإعلام، في الغالبية المطلقة من الحالات، بناء على المبدأ الذي أطلقنا عليه في التقرير "مبدأ الفصل": فمعاناة مواطني لبنان جرت تغطيتها بشكل منفصل بصورة تامة تقريبا، عن عمليات الجيش الإسرائيلي التي تسببت بهذه المعاناة. وقد وصفت التغطية الجيش الإسرائيلي على أنه يعمل فقط ضد "حزب الله" وأن عملياته تستهدف فقط "البنية التحتية الإرهابية"، وأنه يحرص كل الحرص على عدم المس بالمدنيين. وبشكل منفصل وصفت المعاناة اللبنانية كما لو كانت "كارثة نزلت على مواطني لبنان من السماء"؟! وعلى سبيل المثال بدت بيروت في هذه التقارير، على لسان أحد المراسلين الإسرائيليين "كما لو أن هزة أرضة أصابتها". هذا الوصف قطع الصلة السببية بين عمليات الجيش الإسرائيلي ونتائجها على الأرض، فضلا عن أن تغطية غارات سلاح الجو الإسرائيلي المكثفة على تجمعات السكان المدنيين في لبنان وخاصة في بيروت، ظهرت على هامش التغطية. وبالقدر ذاته همشت التقارير المتعلقة بالخلافات الشديدة داخل المؤسسة الأمنية حول المسألة ذاتها. غني عن القول إن التقارير حول هذه الخلافات تلقي بظلال شديدة من الشك على مزاعم الجيش الإسرائيلي المتكررة بأنه "لم يعرف" عن المدنيين الذين تواجدوا في الأماكن المختلفة التي تعرضت للقصف. هذا النمط برز بصورة حادة أكبر في التغطية الحماسية للدعم الدولي لإسرائيل. وقد كان الشعور العام هو "إذا كان العالم لا يوجه إلينا أي لوم فلماذا نلوم أنفسنا؟". بعد ما حدث في قرية "قانا" تغيرت الأمور. فقد تجندت وسائل الإعلام في غالبيتها العظمى لتثبت بطرق مختلفة وعجيبة أن إسرائيل ليست مذنبة في "المذبحة" التي وقعت في القرية المذكورة. لقد عكست التغطية أكثر من أي شيء آخر الموقف الدعائي الدفاعي لإسرائيل الرسمية وللجيش الإسرائيلي، بعد ما حدث. ووصفت الاحتجاجات العالمية ضد إسرائيل على أنها دعاية مناوئة لإسرائيل، وتمحورت التغطية حول الإدعاءات الممجوجة: "تساهل- جيش الدفاع الإسرائيلي-هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم... وإنه يبذل قصارى جهده لتفادي إيقاع إصابات في صفوف المدنيين.. وإن حزب الله هو الذي يستخدمهم كدروع بشرية.. الخ". لكن وبعد يوم واحد من الغارة على "قانا" اتضح أن "الجيش الإسرائيلي لم يقصف المبنى الذي انهار على من فيه بطريق الخطأ: فالأهداف التي اختيرت وصفت سلفا على أنها واسعة النطاق وغير محددة وأنها شملت جميع البنايات السكنية الموجودة داخل المنطقة المعلمة كهدف". كذلك اتضح أن الوزير بيرتس "حرر الجيش الإسرائيلي من القيود فيما يتعلق بقصف السكان المدنيين". غير أن كل ذلك ضاع في بحر التبريرات والذرائع وإدعاءات النفي والتنصل ولم يصل مطلقا إلى علم ووعي الجمهور في إسرائيل.

 

 

الاتصالات السياسية... "لن نوقف الآن إطلاق النار"

 

كان لطريقة التغطية الشاملة هذه، على اختلاف أوجهها، تأثير حاسم على الكيفية التي غطت بها وسائل الإعلام الإسرائيلية المحاولات والمساعي السياسية المختلفة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. فعلى امتداد فترة الحرب قدمت اقتراحات مختلفة من قبل جهات شتى للتوصل إلى حلول سياسية. المتحدثون الرسميون الإسرائيليون- أولمرت وبيرتس وقادة الجيش- تعاطوا طوال معظم هذه الفترة بازدراء وغطرسة جليين تجاه هذه المقترحات والمساعي، لكن في النهاية، وعندما وقع اتفاق وقف إطلاق النار في 14 آب، قدرت جهات عديدة داخل المؤسسة السلطوية الإسرائيلية وخارجها أنه كان يمكن لإسرائيل تحصيل انجازات سياسية أكبر لو كانت قد أصغت لتلك المقترحات في بداية الحرب وبعدها. اليوم بتنا نعلم، بعد تقرير "لجنة فينوغراد"، إلى أي حد كان متخذو القرارات في إسرائيل مندفعين بحماس في هذه الحرب التي خرجوا إليها دون أن يعلموا حقا ما هي أهدافها، وبالتالي لم يعرفوا أيضا في أية ظروف يمكن ويجب وقفها.

 

في الغالبية الساحقة من الحالات غطت وسائل الإعلام الإسرائيلية الخيار السياسي بصورة عكست استهتار متخذي القرارات. فقد ظهرت التقارير عن الاتصالات السياسية في الصفحات الداخلية للصحف، وفي ركن قصي من نشرات أخبار محطات التلفزة لتضيع في بحر العناوين التي تجندت بحماس وطني في المجهود الحربي، وعلى مدار أيام الحرب بأكملها، عكست هذه التغطية للخيار السياسي وفي شكل أساس خشية الجيش الإسرائيلي من أن الحل السياسي من شأنه فقط أن يعيقه عن "إنهاء مهمته".

 

وقد ساهم الإحباط الذي أخذ يزداد إزاء أداء الجيش الإسرائيلي في ميدان القتال، خلال النصف الثاني من فترة الحرب، في تعزيز المعارضة للتعاطي مع الحل السياسي. في القسم الأول من الحرب كانت الرسالة: "الآن لا وقت للكلام.. الوقت الآن للضرب". فيما كانت الرسالة في القسم الثاني من الحرب: "الآن، عندما نتهم بارتكاب جرائم حرب، أو عندما يتكشف ضعف الجيش الإسرائيلي، يتوجب علينا أن نضرب بقوة أكبر". في نهاية المطاف، وعندما وجدت الصيغة التي أتاحت إنهاء الحرب، استقبلت وسائل الإعلام الأمر بشعور عام من الهزيمة. وبعد انتهاء الحرب ظهرت فجأة في وسائل الإعلام أصوات قالت: "كان يجب قبول الاقتراحات السياسية الأصلية منذ بداية الحرب".

 

في يوم الجمعة، 11 آب 2006، وعندما كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تهم بالتصويت على وقف لإطلاق النار قرر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينيت) شن عملية برية واسعة في لبنان. وكانت الأهداف المعلنة لهذه العملية البرية هي السيطرة على المنطقة الممتدة حتى نهر الليطاني، والقضاء على المزيد من عناصر ومخازن صواريخ "حزب الله"، إضافة إلى محاولة ترجيح كفة مسودة الاتفاق قدر الإمكان، وحتى اللحظة الأخيرة، لصالح إسرائيل. لكن العملية كلفت في نهاية المطاف سقوط 34 قتيلا في صفوف الجنود الإسرائيليين. ولم تكن التساؤلات وعلامات الشك حول جدوى شن هذه العملية بمنزلة سر في ذلك اليوم والأيام التالية، لكن ما زالت إلى الآن في موضع هامشي جدا من التغطية، باستثناء محطة تلفزيون القناة العاشرة التي طرحت أسئلة نقدية وجريئة حول الأسباب الكامنة خلف إقرار هذه العملية المخزية، إضافة إلى قيامها بنشر استطلاعات الرأي المتعلقة بتدني شعبية رئيس الحكومة (إيهود أولمرت)، فيما هتفت باقي وسائل الإعلام الإسرائيلية: "حرب حتى آخر لحظة".

 

خلاصة

 

من بين سائر المشاعر والأفكار والعادات التي تدفع وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى التجند حين نشوب حرب، نجد أن وجهة النظر الأكثر شيوعا هي تلك القائلة بأنه لا يجوز توجيه انتقادات في خضم الحرب، وأنه يجب الانتظار إلى حين انتهائها. وتعتبر وجهة النظر هذه أيضا هي الأكثر سخافة ولا معقولية.

 

ليست هناك أية فائدة أو مغزى من وجود صحافة نقدية وجريئة بعد وقوع الواقعة، وبالتالي لا بد من توجيه الأسئلة الصعبة حقا في أثناء الحرب، حيث لا تزال هناك ثمة فرصة معينة للتغيير. ومن هنا فإن السؤال المطروح هو ليس فقط كيف غطت وسائل الإعلام الإسرائيلية حرب لبنان الثانية؟ وإنما السؤال المهم حقا هو كيف ستغطي وسائل الإعلام هذه الحرب المقبلة؟. كذلك يتعين على الإعلاميين والمحررين والمديرين والمراسلين والمحللين الإسرائيليين كافة أن يجروا بأنفسهم المراجعة والمحاسبة للذات التي طالبوا بها بعد الحرب على صعيد متخذي القرارات في الحكومة والجيش الإسرائيليين، ولا بد لذلك أن يتم الآن قبل نشوب الحرب المقبلة لا بعد نشوبها.